شرق المتوسط واستشراق الغاز

حجم الخط
22

وزير الخارجية القبرصي لم يلجأ إلى اللباقة الدبلوماسية المعتادة، أو لعله لم يتعود عليها إذا كان راغباً في استخدامها أصلاً؛ فقالها صراحة: “اتحاد 27 دولة عضو يتوجب أن يُعلي شأن القِيَم العالمية، والنظام العالمي الكوني المرتكز إلى قيم الاتحاد الأوروبي ومبادئه”.

في صياغة أخرى: الخلاف اليوناني/ القبرصي من جهة، والتركي من جهة ثانية، حول ترسيم الحدود البحرية شرق المتوسط، وبالتالي حُسْن اقتسام 122 ترليون متر مكعب من الغاز الطبيعي الدفين، ليس بالضرورة محكوماً بالقانون الدولي والاتفاقيات الناظمة؛ بل، هكذا بوضوح: بما تُمليه “قيم الاتحاد الأوروبي ومبادئه”.

كيف لا، وقد انخرطت فرنسا وإيطاليا في مناورات عسكرية مشتركة مع قبرص واليونان، واختارت الإدارة الأمريكية هذه البرهة تحديداً لكي ترفع حظر السلاح المفروض على نيقوسيا. هذا بافتراض أنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي لن تدخل حلبة النزاع ليس من موقع هوية متوسطية فحسب، بل كذلك بوصفها مخفر الغرب المتقدم؛ وبافتراض أنّ الحلف الأطلسي لن ينقل التسخين، اللفظي حتى الساعة، إلى مستوى متقدم من الفعل.

غرب متحد ملموس، استعماري الماضي وإمبريالي الحاضر؛ ضدّ “شرق” متخيَّل، كما سيذكّرنا درس إدوارد سعيد الأهمّ؛ وما بين هذا وذاك ثمة مصالح حاسمة لا تشمل استخراج الغاز بما يوفّره من ثروات هائلة، فقط؛ بل ثمة، أيضاً، تلك النطاقات الحيوية العتيقة التي اقترنت على الدوام بهذا التلاطم البحري الفريد، بين الأبيض تارة والأسود طوراً، وما بينهما بحر إيجة ابن ملاحم التاريخ.

لم يكن غريباً، والحال هذه، أن تعود صحيفة “لوموند” القهقرى إلى مائة عام خلت، أي إلى 10 آب (أغسطس) 1920، فترى في سلوك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان محاولة ثأر متأخرة من معاهدة سيفر؛ التي أجبرت تركيا على التنازل عن جميع البلدان التي لا يقطنها ناطقون باللغة التركية، وكانت بمثابة ورقة نعي ختامية للسلطنة العثمانية. وسواء اتفق المرء أو اختلف مع هذا التأويل، فإنّ التاريخ يسجّل مقدار المهانة القومية التي انغرزت عميقاً في وجدان الأتراك جرّاء تلك المعاهدة، كما يستبطن التاريخ إياه أنّ مسعى أردوغان في استعراض العضلات شرق المتوسط لن يلقى هوى في نفوس الاتراك العثمانيين وحدهم، بل كذلك في صفوف غالبية الاتراك القوميين، تشددوا في مشاعرهم أم اعتدلوا.

وهكذا فإنّ تصريح وزير الخارجية القبرصي، حول “قيم ومبادئ الاتحاد الأوروبي”، يصبّ الزيت على نيران مشتعلة لتوّها؛ سبق أن زادت في أوارها مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي بدا وكأنّ خسران رهاناته على المشير الانقلابي الليبي خليفة حفتر لا يشفي غليله سوى انتصار قبرص واليونان على تركيا في شرق المتوسط، إذا وُضعت جانباً مصالح الطاقة التي تسيّر حسابات الإليزيه أيضاً. وليس خارج المعادلة ما تخترقه أنقرة، باضطراد، من بنيان خالت باريس أنه راسخ لصالحها؛ في الدول العربية شمال أفريقيا أوّلاً، ثمّ في السودان وموريتانيا ومالي والسنغال والنيجر ومعظم أفريقيا الوسطى…

وبمعزل عن نزوعات أردوغان السلطانية العثمانية، وطرائق الاستبداد الشرقي الذي يستمده من كلّ استفتاء تنتهي نتيجته لصالحه؛ فإنّ في جعبة الجرح القومي التركي ترسانة من المواقف التي تدعم هواجس الجموع، لجهة إخضاع ترليونات الغاز شرق المتوسط إلى استشراق جديد من طراز خاصّ، ركيزته استبعاد تركيا من النادي. وليس بعيداً في الزمن تصريح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي (مكان تركيا ليس في أوروبا، بل في آسيا المسلمة)؛ أو المستشار النمساوي الأسبق ولفغانغ شوسل (بدء الاتحاد الاوروبي مفاوضات ضمّ مع تركيا “أمر يثير السخرية”)؛ أو الهولندي فريتس بولكشتين، المفوّض السابق في الاتحاد (إذا انضمت تركيا فسيكون تحرير فيينا من الحصار العثماني سنة 1683 قد ذهب هدراً)…

ولا عجب، غنيّ عن القول، أن تسود العقلية الاستشراقية في الاقتصاد كما في السياسة والاجتماع والثقافة، وفي عباب البحار كما في قيعان مكامن الغاز.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كُليَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي صبحي حديدي. أعتقد أنه صراع مصالح وسيطرة على منطقة البحر المتوسط واستعراض لقوة أوربا الجديدة أي الإتحاد الأوربي كقوة صاعدة عالميًا. وأين نحن من كل هذا، مائة عام ونعود إلى نقط الصفر لانعرف إلى أين نسير وكيف نتجه !
    آه لقد تذكرت أن غابريل غارسيا كتب قصة عطيمة عنوانها مائة هام من العزلة، ونحن نكتب تاريخا يمكن تسميته مائة عام من التخبط.

  2. يقول محمد - الجزائر:

    المشارقة يعتبرون الحكم العثماني احتلالا، و لهم كثير من المبررات. لعل اقرب ما استذكره هنا كتاب الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي.

    أغلب المغاربة (اي سكان الشمال الإفريقي) يرونه من وجهة نظر أكثر إيجابية بمراحل، اكبر اسباب هذا على الاطلاق انقاذهم للدين و الارض من الاحتلال الاسباني في القرون الوسطى.

    كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ ربما الأمر كذلك.

    لكن مهما يكن، فساقف مع تركيا المسلمة ضد أوروبا الغادرة، اليوم و غدا.

    1. يقول أسامة كُليَّة سوريا/ألمانيا:

      ليس تمامًا، كتاب عبد الرحمن الكواكبي يهتم بالفترة الأخيرة من الدولة أو الخلافة العثمانية حيث ساد ت سياسة الإستبداد والتتريك والجيش الإنكشارى واثقال الناس بضرائب وأموال اذهب للحروب دون مردود. ولكن الفترات المشرقة تحظى بشعبية قوية مثلًا غالبية المعمرين كانوا يحكوا لنا عن المواقف المشرفة للسلطان عبد الحميد ويتمتع باحترام شعبي واسع لموقفة تجاه فلسطين.

    2. يقول محمد - الجزائر:

      أتعجب أحيانا عندما أسمع بعض المشارقة و الخليجيين يسبون الإرث العثماني، و يبدو لي ربما أشدهم تعصبا في هذا اللبنانيون.
      في المقابل أرى الكثير من الخليجيين يسمون تركي، و منهم أمراء سعوديون – لابد أنه كان للاسم دلالات تميز اجتماعي (prestige) إلى وقت قريب.

      شكرا على التوضيح.

  3. يقول سلام عادل(المانيا):

    لكن مهما يكن، فساقف مع تركيا المسلمة ضد أوروبا الغادرة، اليوم و غدا.
    هنا تكمن مصيبتنا فاين نقف مع الحق ام مع ابناء ديننا او طائفتنا او قوميتنا او اقليتنا العرقية برغم باطلهم فالمصيبة بالعراق ان الانتخابات انتجت نفس الوجوه الفاسدة لنفس الموقف

    1. يقول محمد - الجزائر:

      عفوا سلام عادل المانيا.
      قل لنا لماذا تتدخل فرنسا بجانب اليونان ضد تركيا؟ أليس ذلك بسبب مسيحيتهما معا؟
      ثم لماذا حارب الحلفاء الدولة العثمانية في الحرب العالمية الاولى، أليس كرها في الاسلام؟
      لقد قالوها صراحة في أكثر من مناسبة.

      نعم ربما تكون هناك أسباب اقتصادية، و لكن المحرك الأكبر في الغالب هو كرههم للاسلام، كما في الحروب الصليبية و غزوات احتلالهم في القرنين الماضيين.

  4. يقول سلام عادل(المانيا):

    الاخ أسامة كُليَّة
    انت تتكلم عن نفس الفترة فالعثمانيين هم هم منذ اول دخولهم بلداننا وسيطرتهم عليها فماذا قدموا لبلدانناى غير التخلف والفقر واما موقف السلطان عبد الحميد من فلسطين ففيه مبالغة كبيرة وامور لا تعقل فماذا يعني بيع فلسطين لليهود ومن يملك فلسطين هل اهلها ام من يحكمها فالاراضي والبيوت والاوقاف الدينية تخص الاهالي والكنيسة والوقف الاسلامي ولا يستطيع احد بيعها وكل ما في الامر ان القضية الفلسطينية يتاجر بها الكل ومنهم من يحن للخلافة

    1. يقول أسامة كُليَّة سوريا/ألمانيا:

      أخي سلام عادل. ليس لي معرفة جيدة في التاريخ وأنا لم أكن ولست من أنصار لا الدولة أو الخلافة الثمانية ولا سياسة أردوغان. لكن لدي معرفة بالحقبة التاريخية التب سادت أثناء ظهور كتاب الشيخ عبد الرحمن الكواكبي وهو كتاب فعلًا مهم وله شهرته الفكرية. أما موقف السلطان عبد الحميد الثاني فما نقلته هو ماسمعته من كبار السن وخاصة معمرّة في قريتنا كانت تحدثنا عن هذه تلأحداث التي عاشتها. في الحقيقة موقف لايستهان به بل وتاريخي من السلطان عبد الحميد الثاني وخاصة بالنظر إلى أنطمتنا العربية التي باعت فلسطين وإهدرت حقوق الشعب الفلسطيني وهي أصلًا أنظمة ينطبق عليها كتاب عبد الرحمن الكواكبي طبائع الإستبداد رغم أنه صدر قبل أكثر من مائة عام، هدا يعطي الكتاب أهمية خاصة أيضًا وخاصة أن معظم المتابعين يلاحظون تشابة بين أجواء الحرب العالمية الأولى ومانعيشه اليوم.

    2. يقول Passerby:

      الظاهر أنك نسيت أن الإنكليز أعطوا ( الأصح باعوا) فلسطين لليهود وأمدوهم بكل أسباب القوة والدعم لإعطائهم شرعية دولية. إذن الظاهر أن القوي يستطيع أن يبيع ويشتري أي متاع ليس ملكه طالما أن هناك مشتري عديم الضمير لا يهمه لمن السلعة المسروقة التي يشتريها، هذا تقريباً كلام المفكر اليهودي الفذ إفرام نعوم تشومسكي.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية