قمت قبل بضعة أيام بزيارة معرض فرانكفورت للكتاب كعادتي كل سنة، ولفت انتباهي ارتداء بعض الزوار المراهقين ملابس على طراز تلك التي كان يرتديها «شرلوك هولمز» Sherlock Holmes ما يدل إلى أن ذلك المحقق الخاص الخيالي، الذي اختلقه الكاتب البريطاني آرثر كونان دويل Arthur Conan Doyle، ما يزال محط اهتمام الشباب، على الرغم من مرور أكثر من مئة عام على نشر آخر القصص التي تناولت مغامراته الخيالية. وعلى الرغم من كون «هولمز» الأكثر ظهورا في السينما والتلفزيون فإنه ليس الأكثر مبيعا كروايات وقصص، إذ يفوقه في هذا «هركيول بوارو» Hercule Poirot، الذي اختلقته الكاتبة البريطانية أجاثا كريستي Agatha Christie، والذي يأتي في المرتبة الثانية بالنسبة للظهور في الأفلام والمسلسلات، لكنه الأكثر مبيعا في عالم الكتب بكثير. والمنافسة بين الاثنين في الإعلام بشكل عام حامية الوطيس لاسيما أن الاختلافات بينهما وبين مؤلفيهما وما يمثلانه كبيرة.
شرلوك هولمز
إنه الرجل الوقح والقاسي والشجاع الذي لا يلين، ويعرف كل شيء حتى يبدو وكأنه نسخة بشرية من جهاز كومبيوتر يحوي كل معارف العالم. ويعرف مدينة لندن بدقة غير بشرية، وهو في الوقت نفسه عالم في الكيمياء والفيزياء وآثار العجلات والأقدام والملابس وحتى الوشم، الذي عن طريقه يستطيع استنتاج الكثير عن المجرم مثل مهنته وطبقته الاجتماعية. ويعتمد «هولمز» دائما على العلم في استنتاجه بغض النظر عن أي اعتبارات عاطفية، بل إنه لا يملك أي عواطف سوى تحقيق أهدافه وتحطيم من يواجهونه. ويمتاز «هولمز» بمهارات جسدية غير عادية، حيث أنه ملاكم وماهر في استعمال السيف والمسدس، بالإضافة إلى كونه طويل القامة، رشيق القوام قوي العضلات. ويمتاز كذلك كونه بارعا في التنكر ومباشرا في أسئلته المحرجة. ويمتاز كذلك في استعماله للآخرين لمصلحته دون تردد، حتى الأطفال الذين يستعملهم في مراقبة المشتبه فيهم. ولم يكن «هولمز» يختلط بالناس بشكل اجتماعي، فالشخص الوحيد الذي يتكلم معه هو صديقه الطبيب «واتسن» الذي يخدم وجوده أهداف «هولمز». ادعى مؤلف روايات «شرلوك هولمز» البريطاني آرثر كونان دويل، أن الشخصية مقتبسة من أحد أساتذته في كلية الطب، لكن في الحقيقة، أن كل صفات هذه المحقق الشهير مأخوذة من صفات الرجل الإنكليزي المثالي، حسب مفهوم المجتمع الإنكليزي، لاسيما الطبقة الأرستقراطية البريطانية في القرن التاسع عشر. وكانت المدارس البريطانية الداخلية تهدف إلى تخريج طلاب لا يمتازون بالمستوى العالي في المعرفة الأكاديمية حسب، بل يمتازون بصلابة وشجاعة وتصميم غير عاديين. ولا غرابة في هذا، حيث إن مؤلف روايات «شرلوك هولمز» كان من ذلك المجتمع، وكان قراؤه من أبناء الطبقة الوسطى والأرستقراطية. ومن الجدير بالذكر أن المؤلف كان طبيبا ورياضيا معروفا وبرع في الرماية والملاكمة، أي أن بعض صفات الشخصية الخيالية لم تكن بعيدة عن صفات المؤلف نفسه.
قد يستغرب القارئ لروايات «هولمز» أنه مدمن على التدخين حتى إن الغليون في فمه دائما، كما كان يتناول المخدرات مثل الأفيون والكوكايين. وهذه الأشياء كانت غير ممنوعة في تلك الفترة، أي في القرن التاسع عشر، ويدل هذا كذلك أن المؤلف لم يجد هناك أي مشكلة في هذه العادات، على الرغم من كونه طبيبا. لجعل الشخصية الخيالية أكثر تميزا، كان المؤلف ماهرا في اختيار الاسم، حيث إن اسم «شرلوك» نادر إلى درجة أن العثور على رجل بهذا الاسم مستحيلا، ولذلك فإن أي ذكر لهذا الاسم يشير دائما إلى المحقق الخاص الخيالي «شرلوك هولمز» مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الاسم «هولمز» من أصول إنكليزية قديمة.
ظهرت أولى روايات «هولمز» عام 1887 ونشرت آخر مجموعة من القصص القصيرة عام 1927. وقد بلغت شهرة هذه الشخصية، حد أن الكثيرين ظنوا أنها شخصية حقيقية وأصبح عنوان منزل لـ«هولمز» أحد أشهر العناوين في العاصمة البريطانية، على الرغم من كونه عنوانا وهميا، أي لا وجود له. وقد ظهرت الشخصية في أكثر من خمسة وعشرين ألف عرض مسرحي وفيلم ومسلسل تلفزيوني وإذاعي. ومثّلت الشخصية مجموعة من أشهر ممثلي السينما العالمية، وأشهرهم روجر مور وبندكت كمبرباتش وكريستوفر بلمر وروبرت داوني جونيَر وستيوارت غرينجر. لكن أكثر من مثله في السينما كان البريطاني بازل راثبَون، الذي أنقذ ذلك الدور مسيرته في عالم السينما، إذ كان متقوقعا في أدوار الإجرام. وبيع حتى الآن أكثر من ستين مليون نسخة في جميع أرجاء العالم.
هركيول بوارو
يختلف «هركيول بوارو» عن منافسه «هولمز» في نواح كثيرة، فإذا كان «هولمز» إنكليزيا قحا، فـ«بوارو» بلجيكيا. وصفاته الجسدية مختلفة تماما، حيث إن «بوارو» قصير القامة (1.6 متر) وسمين وذو شارب غريب. ويعتمد «بوارو» على حدسه ودراسة الجانب النفسي للمتهم والشهود وطبعا الأدلة عندما تكون متاحة. لكنه، على عكس «هولمز» شخصية لطيفة جدا وبالغة الأدب واجتماعية. ولا يحاول «بوارو» زيارة مسرح الجريمة إلا نادرا، وأحيانا يحل القضايا عن طريق المراسلة. ويتجنب أي مواجهة عنيفة مع المجرمين، لكنه ماكر في توجيه الأسئلة التي تخدع الآخرين وتجعلهم يفقدون اتزانهم، ولذلك، فإن «بوارو» يتوصل إلى الحقيقة عن طريق التفكير بالقضية في مكتبه. ويعطي كل هذا الانطباع بأن لـ«بوارو» صفات نسائية. ولا غرابة في هذا فمؤلفة روايات هذه الشخصية امرأة، وهي الكاتبة الشهيرة أجاثا كريستي. ومن الملاحظ أن شخصية «بوارو» أكثر شعبية من شخصية «هولمز» في أوساط القراء الأناث، ما ساعد على زيادة مبيعات هذه الروايات والقصص، التي يعتقد أنها بلغت المليارين. وقد ظهرت الشخصية للمرة الأولى في رواية نشرت عام 1920 وللمرة الأخيرة في رواية عام 1975.
كان «هولمز» و«بوارو» الأشهر في مجال المحققين الخاصين الخياليين. وهو مجال امتاز به الأدباء البريطانيين بشكل خاص. وتبين شهرة هاتين الشخصيتين قوة الإعلام البريطاني في جميع أنحاء العالم.
حاولت أجاثا كريستي، كما هو الحال بالنسبة لمؤلف شخصية «هولمز» جعل «بوارو» شخصية متميزة ومثيرة لغرابتها، إذ جعلته بلجيكيا من منطقة الفلمش التي يتكلم سكانها لهجة هولندية، لكن لغته واسمه فرنسيان. وقد جعلت المؤلفة أصول «بوارو» مصدرا للفكاهة. مثلت شخصية «بوارو» مجموعة من مشاهير الممثلين مثل تشارلز لوتن وبيتر يوستينوف وأورسن ويلز وألبرت فيني وديفيد سوشي وكينيث براناغ. تعتمد أجاثا كريستي على أثارة القارئ عن طريق جعل الجريمة جريمة قتل دائما، وتقع في الأوساط العليا من المجتمع الإنكليزي. وتحاول كذلك عزل مسرح الجريمة وكل من له علاقة بها في مكان ضيق مع إعطاء الانطباع أن جميع الشخصيات مشتبه بهم. لكن «بوارو» في نهاية المطاف يتعرف على القاتل الحقيقي بذكائه الحاد ويعلن اسمه أمام الجميع بطريقة مسرحية.
جوانب أخرى للشخصيتين
قد يبدو «بوارو» و«هولمز» مختلفان جدا، لكنهما متشابهان في عدة جوانب، فمثلا لا يعالج الاثنان جرائم كبيرة، مثل الجريمة المنظمة التي تقوم بها عصابات، بل جرائم فردية صغيرة، ولكل منهما صديق حقيقي واحد من خلفية عسكرية، فصديق «هولمز» الطبيب «واتسن» الذي يروي مغامرات «هولمز» ويساعده في عمله، حتى إنه أنقذ حياته أكثر من مرة، لكنه لا يتمتع بقدرات صديقه في التحليل المنطقي. أما «بوارو» فصديقه «الكولونيل هَيستنغز» الذي يمتاز بشجاعة وطيبة واضحتين، لكن وجوده أقل من وجود صديق «هولمز» حيث نجد في هذه الحالة صديقا آخر، ووجود الصديق مفيد لمساعدة الشخصية الرئيسية في عمله، كما أن الاختلاف بين الشخصية الرئيسية والصديق يزيد من مستوى الإثارة وبروز الشخصية الرئيسية.
ونجد هذا جليا في ظاهرة الثنائي في السينما الأمريكية حيث نجد «لوريل وهاردي» و«جيري لويس ودين مارتن» إذ أن أحدهما في منتهى الجدية بينما الآخر مضحك. ويخدم الصديق في جانب خفي، وهو أن المحادثة بينه وبين الشخصية الرئيسية تشرح الموقف للقارئ. وقد يكون هذا ضعفا من الناحية الأدبية، حيث لا يعتمد عليه كثيرا كبار الأدباء مثل دوستويفسكي وهمنغواي. وإذا كانت روايات «هولمز» محصورة في لندن، فإن روايات «بوارو» أكثر تنويعا من الناحية الجيوغرافية حيث إن أحداث بعض الروايات في عدة مدن أوروبية، ما زاد من درجة الإثارة، لاسيما أن المواطن البريطاني المتعلم في فترة نشر روايات «بوارو» أكثر معرفة بالبلدان الأوروبية من ذلك الذي كان موجودا في فترة نشر روايات «هولمز». ويشترك الاثنان في كون كل منهما لديه عدو دائم يشبهه في بعض الصفات. على الرغم من قسوة «هولمز» ولطافة «بوارو» فإن كلا منهما لم يبين مشاعر تجاه امرأة سوى مرة واحدة، لاسيما «بوارو» الذي تتميز رواياته بالوجود النسائي، ولديه كذلك سكرتيرة ماهرة تساعده في عمله بينما قد يشعر القارئ المتابع لروايات «هولمز» أن لديه بعض العدوانية تجاه الآخرين ومنهم المرأة.
هناك فرق واضح في أسلوب مؤلفي روايات هاتين الشخصيتين حيث تمتاز روايات وقصص «هولمز» بأسلوبها المعقد نوعا ما. ونجد فيها درجة من العنف، كما يتم تحديد المجرم أحيانا قبل نهاية الرواية، لكن مطاردة المجرم مثلا تزيد الرواية تشويقا بعد ذلك. وأما روايات«بوارو» فلا نكتشف هوية القاتل إلا في النهاية، لكن أسلوب كتابتها بسيط جدا ولا يحتاج إلى تركيز، وهذا أحد أسباب كون عدد قراء روايات «بوارو» أكبر من قراء روايات «هولمز».
مقارنة بين الخيال والواقع
على الرغم من مهارة هذين المحققين الخياليين، واعتمادهما على المنطق والتحليل العلمي، بالنسبة لـ«هولمز» والدراسة النفسية، بالنسبة لـ«بوارو» فإن جميع هذه الروايات تفتقر في الحقيقة إلى الواقعية والمنطق.
ومن المستحيل معرفة مهارتهما في حل جريمة حقيقية، إن سنحت لهما الفرصة لدخول عالم الواقع. لكن شيئا قريبا من هذا حدث في الحياة الواقعية، فعندما كانت أجاثا كريستي ما تزال في بداية مسيرتها الأدبية، اختفت يوم الثالث من كانون الأول/ ديسمبر عام 1926 بعد أن غادرت منزلها غاضبة نتيجة جدال مع زوجها الذي طلب الطلاق، لأنه أرد الزواج من عشيقته. لكن الكاتبة الشهيرة لم تعد إلى المنزل، ما أثار قلق الجميع. وعثر أحد الرعاة على سيارتها مركونة على حافة منحدر وأبوابها مفتوحة والمصابيح الأمامية مضاءة. وعثر في داخلها على ملابسها ورخصة القيادة التي كانت صلاحيتها قد انتهت. وحققت الشرطة مع زوجها حيث ظنت أنه قد قتلها ليرثها، لاسيما أنه كان يخطط لحياة جديدة مع عشيقته، وكان معتمدا على ثروة زوجته أجاثا كريستي، لكنه نفى بشدة أن تكون له أي علاقة باختفائها.
ونشرت الصحف خبر اختفائها في الصفحات الأولى، وبذلك بدأت حملة هائلة في جميع أرجاء إنكلترا للبحث عنها، اشترك فيها حوالي ألف رجل شرطة وخمسة عشر ألف متطوع، وكذلك رجال الصحافة. وكان أحد الذين اهتموا بالأمر مؤلف روايات «شرلوك هولمز» الكاتب آرثر كونان دويل. لكن طريقة المؤلف الشهير في التحقيق كانت مثيرة للدهشة، ليس للمنطق الذي اتبعه، بل لعدمه، إذ حصل على كف للكاتبة وأعطاه لمحتالة تدعي القابلية على الاتصال بالأرواح، وبالطبع فشلت هذه المرأة في العثور على الكاتبة. وفي نهاية المطاف عثر على كريستي بعد اختفائها بأحد عشر يوما في أحد الفنادق. وجعلها اختفاؤها هذا والحملة الصحافية الهائلة أشهر كاتبة في بريطانيا على الإطلاق والأكثر مبيعا في العالم.
كان «هولمز» و«بوارو» الأشهر في مجال المحققين الخاصين الخياليين. وهو مجال امتاز به الأدباء البريطانيين بشكل خاص. وتبين شهرة هاتين الشخصيتين قوة الإعلام البريطاني في جميع أنحاء العالم. وظهرت صناعة رائجة لإنتاج الأفلام والسينمائية والمسلسلات التلفزيونية المستوحاة بشكل غير مباشر من قصص هذين المحققين الخياليين، وأشتهر العديد منها مثل «جرائم قتل منطقة مدسمر» Midsummer Murders و«جريمة كتبتها» Murder She Wrote و«مونك» Monk وفيلم «اخرجوا السكاكين» Knives Out بأجزائه الثلاثة حتى الآن. وحولت هذه الأعمال الفنية ممثليها إلى نجوم كبار.
باحث ومؤرخ من العراق
مقال رائع جدا ..
أضيف اذا سمح الاستاذ كاتب المقال مسلسل أميركي حديث نسبيا بل الأحدث عن شارلوك هولمز و هو Elementary عرض بين 2012 و 2019 ب 154 حلقة و 7 مواسم ، و بطله ممثل بريطاني رغم أمريكية المسلسل ، مال المسلسل إلى إدخال الكثير من الكوميديا و بطله أقل جدية في تصرفاته و اكثر غرابة من شخصية شرلوك هولمز المعتادة ،لكن الجديد في هذا المسلسل أن مساعد شرلوك اي واطسون كان هده المرة امرأة، من خلفية طبية و أصول آسيوية و اجادت الممثلة التي لعبت الدور ، دورها بشكل ممتاز.
كذلك هناك مسلسل بريطاني قح في كل تفاصيله بعنوان Endeavour يتكلم عن جرائم تقع في فترة الستينات و ما اعقبها، ويحقق فيها محقق من منطقة اوكسفورد يحمل لقب بنفس عنوان المسلسل و من خلفية تعليمية راقية و عالية ،و يتمتع بذكاء شديد و برود شخصية الانكليزي القح لحل جرائم شديدة التعقيد على منهج شرلوك هولمز، عرض منه 8 مواسم لحد الان بمعدل 4 إلى 6 حلقات فقط للموسم بزمن يتجاوز الساعة و النصف للحلقة، و هناك موسم تاسع قادم كما يفترض !
مقال ادبي يجمع بين الرصانة و البساطة و المتعة .. شكرا للكاتب
هل تسمحون لنا بقول بعض الكلمات ومن باب المحبة لسينما والتلفزيون أيام زمان شكرا وكدالك الكاتب المحترم الدي يبدل جهد ا فنيا كبيرا في الشرح شكرا نحن من مشاهدي المسلسلات البولسية القديمة التي رسمت بأتقان جيد حلقة لاتسبه حلقة وهكد ا ويمكن ان نقول فيها سحر خاص تجر ببطئ وعلى سبيل المثال فقط أرسين لوبين وغيره
احسنت استاذ على هذا النشر الرائع..
تبقى القصص و الافلام البوليسية والغموض لها نكهة متميزة وخاصة جدا …