يختار سبايك لي أن تكون افتتاحية فيلمه عبارة عن مواد أرشيفية من الماضي؛ مقابلة شهيرة للملاكم محمد علي كلاي، أعلن فيها رفضه المشاركة في حرب فيتنام، ثم لحظة هبوط نيل أرمسترونغ على القمر، واحتجاج مالكوم إكس على إرسال الجنود السود إلى فيتنام، ثم تتدفق لقطات مختلفة ومتفرقة توثّق لمشاركتهم في هذه الحرب، وأخرى معارضة لمشاركتهم. كل هذا يمر أمامنا بتزامن مع أغنية مارفن غاي “مدينة البلوز الداخلية” التي تساير كلماتها ما نشاهده. تنتزعنا هذه الافتتاحية كليّا من الحاضر، وتعزّز بفضل كثافتها ورمزية ما تمثله، اشتغال الفيلم على الذاكرة الممتدة إلى الحاضر والخيال المحكوم بهذه الذاكرة المعذبة.
أفلام كثيرة اشتغلت على حرب فيتنام بنجاحات متفاوتة، ورؤى مختلفة، وسرديات تجاذبت الموضوع بأشكال تعبير مختلفة، لكنّها تتفق في استعراض الأزمة الممتدة، والتركيز على الجانب النفسي، الذي لم تتجاوزه أمريكا لحد الآن. سبايك لي يعود إلى فيتنام، عبر الوجهة نفسها، لكنه يعمّق النظرة إلى الحرب، وينفرد بحكاية عن الجنود السود الذين أرسلوا إلى حرب لا تعنيهم في شيء. لا توحي بداية الفيلم التي نقتحمها لاحقا، إلى نوع (الحرب) تجد نفسك وسط محادثات كوميدية، فيها الكثير من التهكم على الوضع الراهن، كأن يعلن بول (ديلروي ليندو) انتخابه للرئيس دونالد ترامب، وتأييده لبناء السور العازل الذي سيخلّص أمريكا من المهاجرين، لكن بالمزيد من النبش في الماضي والحاضر عبر ذكريات أربعة جنود (بول) ديلروي ليندو، و(أوتيس) كلارك بيترز، و(إيدي) نورم لويس، (ميلفين) إسيا وايتلوك، يغيّر الفيلم لهجته ونصبح أمام فيلم عن الحرب، لكن بشكل غريب، حرب انتهت عام 1975 ولكنها لم تغادر الذاكرة أبدا، ولم يجدوا بعدها سلاما داخليا، ولا مكافأة تعادل ما قدموه من تضحيات في سبيل أمريكا، في تحقّق حرفي لما قاله مالكوم إكس عام 1962 وهو يتوقّع مستقبل السود في أمريكا “عندما تأخذون 20 مليون شخص أسود وتجبرونهم على خوض حروبكم، وقطف القطن من حقولكم بدون أن تقدموا لهم مكافأة حقيقية، فعاجلا أو آجلا سيضعف ولاؤهم لكم”. إنها عودة إلى المكان نفسه “فيتنام” هي محاولة مؤجلة لتحقيق السلام عبر استعادة جثة الضابط نورمان ستورمين تمثيل شادويك بوسمان، صديقهم الذي كان بمثابة القائد والزعيم، وهو من سمى المجموعة بأخوة الدم، أما السبب الثاني لتواجدهم هنا، فهو استعادة صندوق ذهب، كانوا قد دفنوه هناك بعد تحطّم طائرتهم. وهو بمثابة مكافأة حرب تحقّق القليل من العدل الذي لم يجدوه في الحرب، ولا من الحكومة الأمريكية.
تجد القصّة رابطها القوي لإعادة هؤلاء الجنود إلى أرض شهدوا فيها أسوأ ما يمكن لإنسان مشاهدته، فالأربعة يجتمعون في مدينة هو تشي، بعد نصف قرن، يتّفقون مع من سيساعدهم في تهريب الذهب وبيعه، لكن كما هي عادة الحرب فلا نهاية متوقّعة، ولا خطّة مضمونة للنجاح. رغم قطعهم نصف المشوار باستعادة الذهب والوصول إلى رفات نورمان، يتضح أن الحرب لم تغادر ذاكرتهم، ولا المكان الذي يعودون إليه، يجدون أنفسهم في مواجهة الماضي بأجساد متعبة آتية من الحاضر. تجدّد الحرب شكلها أمام من كانوا جنودا في الماضي، والآن هم مجردون من كلّ سلاح سوى مسدس، وبعض الحيل التي لم ينسوها عن الحرب. يباغتهم الكثير من الخيانات والخلافات، ينجحون في التغلب على بعضها، وينجح بعضها في تشتيت شملهم وأجزاء من أجسامهم. ليس هناك عدوّ كما كان في حرب فيتنام، لكن وكما قال بول لرفاقه: “عندما تبدأ حربا فلن تغادرها أبدا” هكذا يشطر لغم رفيقهم إيدي نصفين، بدون أن يترك له فرصة إنهاء خطاب عن الأخوة التي كانت بينهم والتي صارت مهدّدة بفعل بريق الذهب. تستمر لعنة الذهب، وتتوالى الخيانات والخلافات حدّ الفراق والموت.
تحاكي الكاميرا في جل مشاهد الصراع، حال القلق الذي تعيشه المجموعة، تندفع في وجوههم، تقترب وتتوارى وكأنّها في معركة أو في ساحة حرب، رغم أن الأمر أحيانا كان يتعلّق بمحادثة عن توزيع الذهب فقط، أو خلاف عن خطّة الخروج من مأزق، إنّ حركتها توازي الفلاش باك الذي يتخلّل خط السرد ويُذكِّر بتواجدهم الأوّل في فيتنام. مع كلّ طلقة رشاش تعود صور المعارك والأشلاء.
يتحرّك الممثلون أحيانا بنوع من الارتباك الذي يعكس الصراع النفسي وعدم الوصول إلى الخلاص بعد. إنها محاولة من المخرج لصنع حركة عفوية قد تقترب من عدم الاكتراث بالنص أو بالكاميرا وحركتها. المهم أن يسير الجميع نحو قدر غير متوقّع كان له وقع أشد من وقع الحرب، فالأب أنكر ابنه في تذكير بامتداد الأزمة بين جيل الآباء والأبناء، وانشقّ بول عن رفاقه، وذهب وحيدا ليجد خلاصه في الموت، وحيدا وسط قبر حفره بنفسه، في استرجاع مؤلم لطريقة معتادة لإعدام الخصوم في الحرب. إن ميزة الفيلم هي وسيلته الفريدة في إعادة من كان يجب أن يموت، إلى أرض المعركة وكأنّه يقول: لم ندفع ثمن الخطأ بعد، هي أشياء أكّدها لِي خلال مشاهد كثيرة، رغم دنو أسلوبه أحيانا من المباشرة على غير عادته.
يُعيد الحياة لحرب فيتنام، بطرح جديد يتجاوز فيه نجاحاته في أفلام مماثلة، عبر منجز عظيم عن سينما السود بدأ بـ”إفعل ما هو صواب” (1989) وصولا إلى “بلاكككلنزمن” (2018). ينجح في ربط الماضي بالحاضر عبر فتح ذاكرة الأحداث، والانفراد بقصّة عن مشاركة الجنود من أصول أفريقية في حرب فيتنام، وهو أمر نادر الحدوث. العلاقة بالماضي تتم عبر السينما نفسها، يطلّ علينا فيلم “القيامة الآن” لفرانسيس فورد كوبولا، من خلال حانة تحمل اسم وملصق الفيلم، ومن خلال احتفاء خاص بعبقرية تصوير مشاهد طائرات الهيلوكوبتر، كما يوجه التحية أيضا لفيلم “فصيلة” لأوليفر ستون في تصوير عبثية الموت في حرب لا تلزم أحدا غير السياسيين.
لا يتبنى الفيلم في نهايته، تصورا متفهما للحرب، ولا يقدّم إشارات عن نية تصحيحية، بل هو العذاب الذي يستمر في استيطان الخيال، ويستمر في تشكيل وعي أجيال شاركت في الحرب. هكذا يباغتنا الفيلم في نهايته ويقوض أي افتراضات تنهي الأزمة النفسية التي ما زالت تلاحق الفرد الأمريكي وستستمرّ في المستقبل.