شريعة المجتمع الدولي: الجريمة الدائمة والعقوبة الممنوعة!

حجم الخط
0

الهمجية السياسية لا تعود مسؤولة بقدر مسؤولية القوى التي تسمح لها أو تتسامح معها، تلك التي تترك وحوشها فالتين أحراراً يعيثون فساداً ويبيدون شعوباً كاملة، لم يعد النظام السوري تهمه الإدانات بأنواعها منذ أن أعلن حرب الإبادة على سورية وأهلها وحضارتها ومستقبلها.
مارس النظام فظاعاته الرهيبة على مرأى من العالم كله، سخر من (أوباما) ومن خطوطه الحمراء التي هي أوهى من خيط العنكبوت، اقترف جريمة خنق مئات من أطفال دمشق مع وجود مفتشي الأمم المتحدة على بعد بضعة كيلومترات من مجازرها، الأوحش من كل وحش هو من يطلقه، ولا يردعه بعد انطلاقه، ولا يعاقبه على جرائمه، ولا يضع حداً لجنونه. هذا هو موقف ما يسمّى بالمجتمع الدولي الذي أخذ على عاتقه إدارة ديمومة المذبحة السورية منذ سنتين ونصف، دون أن يعبأ إلا بأعداد القتلى التي تتداولها صحافته بين مجزرة وأخرى. الثورة السورية ما كان لها أن تستمر أكثر من أسابيع أو بضعة أشهر، لولا تدخل هذا المجتمع الدولي.
لقد أنجز عملاء هذا المجتمع كل أفانين التلاعب بمصائر الشباب الثائرين، فاستلبوا من معظم قادتهم إراداتهم الوطنية، قسموا تنظيماتهم بين ثورة في الداخل ومعارضة في الخارج، أغرقوا تشكيلات الجماهير العفوية بأصناف الفئويات الغريبة الوافدة والطارئة على تلقائية العمل الثوري المحلي، لم يعد الشباب السوري يعرف الوجه الحقيقي لانتفاضته الأصلية. هؤلاء الطوارئ غطوا وجوههم الأصلية بأقنعة اللحى، واسبغوا على مسالكهم الشخصية تقاليد القروسطية البائدة، جعلوا ألسنتهم تردد التعابير القدسية مخلوعة عن مضامينها اللغوية، ومعزولة عن ظروفها ومناسباتها الموضوعية والتاريخية، هؤلاء الطارئون من كل حدب وصوب استغلوا براءة الثورة الشبابية الوطنية أسوأ استغلال، غافلوها وهي في انطلاقتها الأولى، مادة خام لم تعثر بعْدُ على شكلها التنظيمي، فألبسوها قسراً عنها كل العباءات العتيقة المهترئة، حاولوا أن ينتزعوا من جسدها الغض كل خلايا الحيوية الجديدة، ثم كاد أخيراً أن يتم المنعطف الأخطر في مسيرة الثورة، أن تتنكّر الثورة لعلة وجودها، ألا تكون ثورة من أجل الحرية، بل من أجل قيام حكم الطغيان القروسطي.هذا ما كان ليحدث للثورة الشبابية في الداخل في وطنها الأصلي، لو لم يصبح العنفُ وحدَه المحركَ والوسيلة وهو الهدف النهائي، فكان لا بد أن يتجرّد الحراك الجماهيري عن أسمائه الاجتماعية والثقافية كلها، لكي لا يتبقى له إلا أوصاف (جبروته) الوحشي الخالص. قد يكون هذا التحول البنيوي الكارثي في طبيعة الثورة نفسها نتاجَ رد فعل غريزي على طغيان النظام وهمجيته اللامحدودة. لكن ذلك كان تعليلاً متجاوزاً، لم تلبث أن تخطته أهوال الفريقين معاً، عندما باتت متبادلة فيما بينهما معاً.
هل تنسحب الثورة من المستنقع الأسود قبل أن تبتلعها قيعانه المظلمة، هل لا يزال بعض الشباب المتشبث بأفكار الحرية والكرامة قادراً على التمييز بين أية معركة متصورة من أجل هذه الحرية وبين مصيرها المسروق كمقتلة مجنونة على ارض الواقع اليومي، ما كان يأمله الأعداء الدائمون للعرب هو أن يعمَّ شعوب الربيع العربي سريعاً فقدانُ حسِّ التمييز هذا حتى يصبح اسم الثورة رديفاً لإسم الهمجية، وبالتالي يعود العرب إلى مربعهم الأول واقعين بين قرني الثور القديم، ما بين الخيارين البائسين، إما استبداد العسكر أو استبداد (الدين).
ظاهرة السماح الدولي بسيادة منطق المجازر المتبادلة أمست هي الرد المبيّت ضد مستقبل الربيع العربي قبل أن يتطور إلى ربيع عالمي، وذلك منذ أن رفض المجتمع الدولي التدخل ظاهرياً في دعم الثورة السورية بحجة التمسّك بمواقف مجلس الأمن، بينما كان تدخله الفعلي متورطاً في المراهنة على تحوير طبيعتها، وليس في تحقيق هدفها بإسقاط النظام وإقامة مجتمع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولعل هذه المراهنة قد تمكنت أن تقطع أشواطاً بعيدة، مشروطةً دائماً بانفجار المزيد من فظائع المقتلات الجماعية، فلم تعد الفئة الحاكمة في دمشق يردعها رادع محلي أو إقليمي، ولا دولي طبعاً، بالمقابل تتقوى أدلجات العنف المطلق لدى أصحابها من المبشرين بالتشكيلات (الجهادية)، وتتضاءل حظوظ الثورة في استعادتها لشخصيتها المدنية، هكذا يبرهن أسياد المجتمع الدولي أن الديمقراطية ليست جائزة مباحة أو مستحقة لغير أصحابها الأصليين، فهؤلاء وحدهم هم الذين أهّلتهم حضارتُهم لإنتاج مفاهيمها وصياغة أنظمتها وما عداهم ليسوا جديرين باكتساب جائزتها مطلقاً؟
حريات شعوب المتوسط التي تستوطن ثلثي شواطئه منذ بدء الخليقة هي الممنوع الأخطر الذي يسكن قاع اللاشعور الجمعي لشعوب الشمال. فلن يكون من اليسير على أفضل حكامهم، وحتى من هو أكثرهم تفتحاً نحو الديمقراطية الكونية، التغاضي عن (التهديد الجنوبي)، وقد علمتهم تجارب القرون، منذ الفتوحات العربية الإسلامية، وما بعدها العثمانية، ذلك الدرسَ المركزي في ثقافة الاستراتيجيا الحضارية، وهو أنه ما أن تمتلك بعض شعوب هذا الجنوب الأسمر شيئا من إرادة مصيرها، حتى لا تراه قابلاً للتحقيق إلا بالقضاء على مصائر الآخرين ـ من أهل الشمال طبعاً. فالسياسة الغربية التي اخترعت ثقافة الاستعمار رداً على تحدي الجنوبيين وسواهم لا يمكنها أن تنفصل عن حفرياتها التاريخية تلك. ليست لدى الغرب ثمة سياسة مرتجلة، هي دائماً تعكس بعض أشباح ماضيها في متعرجات حاضرها.نقول هذا لنشرح قليلاً عقدة الاستفهام المزمنة لدى الطليعة الشبابية الصاعدة، والقائدة لنهضتنا المعاصرة، وللمغامرة الكبرى في اطلاق أسطورة الربيع العربي. عبثاً ينتظرون عوناً صادقاً من هذا الغرب الشمالي في أخص شؤون هذا الربيع، في مساعدة انتفاضاته، لن يقبل منهم حتى الدخول في صيغ من مصطلح تحالف الضرورة. هذا الغرب وربيبته المفضلة إسرائيل لن تسمح سلطاتهما بإسقاط نظام الاستبداد العربي الذي هو من تخطيطهم، ومن صنع أيديهم، ومن أنجح ما ابتكرته عقولهم من قلاع الحماية الجيوسياسية حول القارة الأوربية.
لن يفرطوا بانهيار النموذج الأعلى لنظامهم الاستبدادي ذاك ـ وهو الحكم الأسدي طبعاً ـ، دون أن يضمن عقلهم الاستراتيجي قدرته على إعادة إنتاج نظام الاستبداد البديل والأحدث والقابل لإعادة سجن المنطقة العربية وليس سورية وحدها لقرن تال وأكثر.
ما يحدث هذه الأيام في مصر العزيزة هو المختبر الأعظم الذي سيبرهن الربيع العربي خلاله إن كان قد بلغ مرحلة الوعي بذاته، وأنه أصبح مزمعاً أن ينحت مستقبله من مقدمات إنجازاته الذاتية وحدها. ها هو قد استطاع أن يرفض أخيراً البراديغم الأسود الأصعب، القدر الطاغي المفروض على مسلسل ثوراته؛ الاختيار بين الاستبدادين: إما العسكر، أو الدين.
لقد أعاد مبادرة الحسم الفاصلة في الشأن المصيري العام إلى أيدي جماهيرها الحقيقية، طرد الإخوان من الحكم، وجعل الجيش الوطني أصلا في خدمة الثورة وليس العكس، والأيام القادمة سوف تظهر إلى أي حد يمكن لهذه المعادلة أن تتحكّم في إدارة فجائيات الواقع السياسي وظروفه الأهلية المتشابكة.
أما سورية فقد خسرت ثورتُها جيشَها الوطني، الذي كان النظام هو الذي ربحه قبل انطلاقتها بعقود، فقد كان أعاد صياغة هيكله ورجاله طائفياً فئوياً، منذ أن قام الضابط الأسد الأب بانقلاب (شخصي) على ثلاثي الحزب والدولة والشعب، ليشيد مملكة الفرد الأوحد ثم مملكة للابن والأسرة، ثم لبعض أعيان من الطائفة؛ فحين اندلاع الثورة سلمياً مدنياً أولاً ثم اضطرارها للتسلح دفاعاً عن شبابها في مواجهة نيران القمع، حدث لهذا الجيش أن بدأ رحلة التفكك. لقد انشقت عنه عناصره غير المطوّفة أصلاً، بينما تم تجميدُ كتل كبرى من قواعده. خلال ذلك، أنجز النظام مهمة تحويل بقايا الجيش الوطني إلى نظام ميليشيات أمنية تابعة لمراكز السلطة والقمع. وطيلة ثلاثين شهرا من عمر الثورة مارست هذه الميليشيات وأمثالها المستوردة، ضروباً من حروب التدمير الشمولي للوطن السوري بحجة القضاء على (الارهابيين).
وفي الوقت عينه لم تسلم الثورة نفسها من العاهات المليشية، وكان أسوأها ولا شك هو التباسات بعضها المستعارة من الشعائر الدينية، وكان لبعضها أن تشارك في المقتلات الجماعية موزعةً ومبرّأةَ بهذه الشعارات عينها.
هكذا يمكن لرئيس الغرب (أوباما) أن يؤجل كل عقوبة محتملة ضد النظام (الكيميائي) بحجة الإيغال في التحقيق، فليس في عُرْف هؤلاء من قادة المجتمع العالمي، في سورية سوى ميليشيات متقاتلة، فيمكن لها أن تستخدم أية وسائل، تحت أو ما فوق القانون، للفتك ببعضها. ما يريد أن يقوله (أوباما) متلعثماً كعادته دائماً، هو أن السلاح الكيميائي قد يكون مبذولاً، وليس محصوراً بالنظام وحده، فلم العجلة في الحكم وفي القرار.. ولماذا لا يترك المستنقع يولد وحوشه من لحوم بعضها إلى ما لا نهاية..

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية