«هذه ليست الأرض التي كنت أتوق إليها،
هذا مجرد القفص غير المرئي الذي يحتجزنا جميعا…
حتى ننسى من أين وصلنا». (بين شواهد القبور)
القاهرة ـ «القدس العربي»: حالة لا تنتهي من الاغتراب يعيشها المصوّر الفوتوغرافي العراقي يمام نبيل ـ مواليد بغداد 1976، هاجرت أسرته عام 1980، ويقيم في لندن منذ 1992 ـ وهي وإن تجلت متناثرة في عدة معارض فوتوغرافية أقامها، نذكر منها مثالاً معرضه «في انتظار الوقت» الذي كان يمثل حالة العزلة التي أصبح يعيشها الناس في ظل وباء كورونا عام 2021. إلا أن هذه الحالة العارضة يكشف عمله الأخير المعنون بـ «شظايا من بلاد غريبة» بأنها حالة مزمنة يعيشها الفنان، وما حالة الوباء إلا صورة من تمثلاتها تلاقت وهواه، فرغم صخب الشوارع والناس، إلا أن العزلة والوحدة هما الأساس، ولا وجود لأي استثناءات، وإن بدت ولو للحظة، ستصبح بدورها وهماً يكشفه نبيل في تأسٍ واضح دون مواربة أو مهادنة.
في هذا العرض تبدو القصائد النثرية هي التي تقود الصور الفوتوغرافية وتنسج من خلالها قصصا وحكايات عن هذه الشظايا أو الشذرات المتبقية من بلاد ارتحل إليها وتعايش من خلالها، ليبدو الأمر عبارة عن حكاية طويلة من سيرة المنفى.
الذات والآخر
ما بين القصائد النثرية واللقطات الفوتوغرافية تتواتر الحكايات، لكنها ليست ذات علاقة مباشرة بين المنثور والفوتوغرافيا، أو التجسيد من خلال الكاميرا، وهو الأمر نفسه بين حكاية الذات التي يعبّر عنها الفنان نثراً، وحكايات الآخرين التي يبدو التعبير عنها من خلال الصورة، وهنا تبدو الدلالة غائمة، وتحتاج جهداً لربط النص مع الصورة، هناك لقطات مباشرة إلى حدٍ ما، وأخرى تستدعى الحالة، وتمثل وعي الفنان أكثر من مجرّد تجسيد المعنى، أو التدليل عليه من خلال الفوتوغرافيا. هناك حالات كثيرة للكتابة من خلال الأعمال الفنية أو العكس، لكنها في الغالب لا تنتمي للفنان نفسه، بل مشاركة بين فنانين اثنين، سواء بالاتفاق أو التأثر، لكن يمام نبيل يوحد مقام النثر والصورة، ويترك للمتلقي الإحساس بالحالة والتفاعل معها، أو فقط.. محاولة استلهامها، ربما تبقى في ذاكرته ويستشعرها مستقبلاً.
وبالطريقة نفسها يمزج يمام بشكل غير مباشر بين حالته نثراً وحالة المجموع من خلال الفوتوغرافيا، ففي قصيدة (مُختفٍ) على سبيل المثال نجد وجوهاً تشبه بعضها بعضا، في لقطة تمثل بعضا من عمالة شرق آسيا في دولة الإمارات، وفي (الرحلة المُحرّمة) نجد البنايات الشاهقة، الثابتة والمستقرة، التي توحي بالقوة والثقة واليقين، بينما يسير العواجيز في بطء شديد، دون ثقة في يوم جديد مقبل، وهكذا تبدو الحالة من المفارقات في مستوى الصورة الفوتوغرافية. تكرار المفارقة هذا هو ما يحمل السمات الجمالية للصورة، فالشخوص على الدوام إما عابرون لا يهتمون لشيء، وبشكل غير مباشر، كانعكاس صورهم من خلال زجاج البارات والمقاهي، أو في حالة مزمنة من الحدود الفاصلة بين ما يحيطهم وما يعيشونه بالفعل، كما في قصيدة (بين شواهد القبور) التي تضم تحت عنوانها لقطات عدة.. بداية من الداعي إلى اتّباع السيد المسيح المنقذ من الجحيم، وصولاً إلى صف من الأشجار الضخمة يقسم الصورة ما بين امرأة وأطفالها في الجزء الأيمن منها، يسيرون في خطوات متلاحقة توحي بالحياة وصخبها، بينما في يسار الصورة رجل وحيد يسير، وفي الخلفية مقاعد الحديقة الخالية، ويبدو انتصاب الأشجار ليوحي بأنها بالفعل ستتحول بالفعل إلى صناديق للموتى. هكذا تتوالى القصص في طريقة غير مباشرة، ولتترك تأويلها إلى مخيلة المتلقي وحالته الشعورية.
الشعر البصري
يحاول يمام نبيل نسج ما يمكن أن يُطلق عليه الشعر البصري، بخلاف القصائد النثرية ذات الحِس الشعري ـ ليست كلها على المستوى نفسه ـ فنجد من خلال بعض القصائد افتتاحيات تمثل حالة الحكاية التي يريد الفنان سردها بصريا، كحال المهاجرين في البلاد الأوروبية، بينما يقفون وخلفهم أحد المحال التجارية، تبدو منتجاته من الواجهة الزجاجية، تبدو النفايات على الرصيف المقابل، والمهاجرون بينهما، فيقول.. «أنتَ في المكان نفسه، تنظر إلى الفراغ الذي كافحت بشدة لتركه». من قصيدة (المنزل تقريباً) أو أن تتصدر النفايات المشهد في شارع ضيق على جانبيه بنايات متهالكة.. «لا أحتاج إلى الراحة، لا أحتاج إلى الأحلام، الأمر كله مجرد وهم». من قصيدة (دون تمويه)
ولنختتم بعبارات من قصيدة (اللعب بالوقت)..
«لكننا لم نكبر قط.. ووقفنا هناك ننظر إلى مصيبتنا
أو ربما حظنا المشؤوم في أن نكون شهوداً على العالم الذي لا يمكننا أن نطلق عليه عالما ابداً».