هناك اتفاق بين المحللين الدوليين على ان تاريخ العلاقات المصرية ـ الأمريكية لم يشهد منذ وضعت أطره المستحدثة لتقوية العلاقات التحالفية بين الطرفين في أعقاب حرب عام 1973، انكسارا وتراجعا كما يشهد منذ بضعة أشهر.
هؤلاء المحللون يؤرخون لوضع العلاقات بين القاهرة وواشنطن الحالي بالبيان الذي انتقد فيه البيت الأبيض موقف القوات المسلحة، التي انحازت بلا تردد إلى جانب الثورة الشعبية التى طالبت بعزل رئيس الجمهورية السابق محمد مرسي، وكذا بالتوجيهات التي اصدرها الرئيس الامريكي للأجهزة المختصة ‘لمراجعة أبعاد تدخل الجيش المصري في عملية التغيير التي شهدتها مصر مؤخراً’. ويوثقون رؤيتهم هذه بفشل جهود ما وصف في حينه بمحاولات ‘إصلاح ذات البين’ التي تصدر بعضها شخصيات أمريكية، كان من بينها عضو مجلس الشيوخ الأمريكي جون ماكين الذي أصر على وصف ما جرى بأنه انقلاب، وعلى الرغم من تنصل كل من البيت الأبيض ووزارة الخارجية رسميا من تلك التصريحات، إلا أن حالة الانكسار والتراجع بقيت على ما هي عليه، بل هناك من يرى انها تفاقمت كثيراً لأن موافقة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي في منتصف شهر كانون الاول/ديسمبر الماضي على مشروع قانون يمنح إدارة الرئيس أوباما حق تقديم مساعدات خارجية للدول التي تقع فيها انقلابات عسكرية ‘إذا ما ارتأت أن قرارها يخدم مصالح مهمة للأمن القومي الأمريكي’ لم تُفعل حتى اليوم.
ربما لأن الإدارة الأمريكية لم تقتنع بما جاء على لسان الفريق أول عبد الفتاح السيسي ضمن حواره الذي نشرته صحيفة ‘الواشنطن بوست’ يوم 3 اب/أغسطس الماضي، الذي عاب فيه على إدارة الرئيس أوباما ‘أن تتجاهل إرادة الشعب المصري’ لأنها في رأيه ‘أدارت ظهرها للمصريين’، مؤكدا بتصميم أن ‘المصريين لن ينسوا ذلك لها’.
وعلى الرغم من النقاط الجوهرية التي أكد عليها جون كيري قبل مغادرته القاهرة التي جاءها على عجل يوم 3 تشرين الثاني/نوفمبر، وهي..
التزام واشنطن دعم خارطة الطريق التي أقرتها حكومة مصر الانتقالية.
وصفه ما جرى من جانب جماعة الإخوان بأنه ‘سرقة لثورة 25 يناير’ وفشل ذريع في إدارة دفة الأمور بعد فوزهم في الانتخابات التشريعية والرئاسية.
ترحيبه الحار بتوافر مؤشرات جادة تشير إلى قدرة قادة الجيش على إرساء دعائم الديمقراطية في مصر.
إلا أن جانبا كبيرا من المراقبين الدوليين حتى في أوروبا لا زالوا يتمسكون بأن تصرفات البيت الأبيض خلال شهري كانون الاول /ديسمبر الماضي وكانون الثاني/يناير الحالي زادت الطين بله، كما يقول المثل، مما فتح الباب في رأيهم – لبسطاء الناس في أنحاء متفرقة من أرض مصر لأن يتندروا بمثل هذه المهاترات في العلن.
لماذا؟
لأن واشنطن قررت ألا تدعو مصر للمشاركة في القمة الأمريكية ـ الأفريقية التي تخطط لعقدها يومي 5 و6 من شهر آب / أغسطس القادم بحضور 47 دولة أفريقية، وبررت ذلك بأنه يرجع إلى ‘تعليق عضوية مصر بمنظمة الاتحاد الأفريقي’.
مخالفة هذه الدعوة للأعراف الدبلوماسية الدولية واضحة وجلية، لأن القمة التي دعت إليها واشنطن لا علاقة لها بمنظمة الاتحاد الافريقي من قريب أو من بعيد.
أولا، لأنها لا تعقد في اطاره ولا بدعوة منه ولا حتى وفق اجندة قام بتحريرها وفق رؤية دوله الإستراتيجية.
وثانيا، لأن بعض من وجهت لهم الإدارة الأمريكية الدعوة من الدول الأفريقية ليسوا أعضاء في الاتحاد الأفريقي.
لم أتوقف كثيراً أمام ان واشنطن تركت الباب مفتوحاً لإمكانية دعوة مصر في مرحلة قادمة، كما لم ألتفت إلى إجابة جاي كارني المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض على سؤال وُجه إليه حول مبررات عدم دعوة مصر للمشاركة في القمة المرتقبة، التي جاء فيها ‘أن الأعراف الدبلوماسية التي يسير عليها الاتحاد الأفريقي لا زالت تعلق عضوية مصر فيه’ لأن قائلها يعلم حقيقة العلم انها اجابة مغلوطة ولا أساس لها.
في رأيي أن عدم دعوة مصر إلى تلك القمة.. لا صلة له بالأعراف الدبلوماسية التي يسير عليها الاتحاد الأفريقي، ولا علاقة له بقرار تعليق عضوية مصر به.. المسألة لا تخرج عن محاولة ‘متسرعة وغير مدروسة ‘ لاستخدام وسيلة جديدة للضغط على مصر، بعد أن فشلت وسائل عدة أخرى مورست ضد القاهرة منذ تموز/يوليو الماضي وحتى الأمس القريب، ولم تفلح أي منها لا في زعزعة الشعب المصري في مصداقية حكومته الانتقالية، ولا في تأييده المستمر والمتواصل والأبدي لمؤسسته العسكرية.
هناك قرار تأجيل تسليم الطائرات الحربية من طراز إف 15، والتعليق الجزئي للمساعدات العسكرية السنوية البالغ حجمها 1.55 مليار دولار، وتأجيل تعيين سفير جديد لواشنطن بالقاهرة، بعد استدعاء السفيرة السابقة آن بترسون.
بالاضافة إلى ذلك.. الاصرار على تسمية ثورة 30 حزيران/يونيو الشعبية التي ساندتها القوات المسلحة بالانقلاب، وكذا مواصلة تقديم الدعم المعنوي كلما امكن ذلك لجماعة الإخوان وإبداء التوافق والرضا عما تصدره الجبهة الإقليمية المدافعة عنها.
لا أحد ينكر أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات.. ولا أحد ينكر أن الإدارة الأمريكية تتعامل مع الأزمات الدولية والثنائية عن طريق أكثر من سيناريو تنكب على إعداده فرق بحثية مدربة على أعلى مستوى مجموعات من المستشارين المتخصصين..
ولا أحد ينكر أن الرئيس الأمريكي لا ينفرد باتخاذ أي قرار سياسي داخلي أو خارجي، وعليه – وفق الدستور – أن يَرجع إلى فريق العمل المختص قبل أن يصدر أي قرار سواء كان نهائيا أو مرحليا أو تكتيكيا.
ولكننا نعلم أيضا، بل على يقين أن البيت الأبيض مشهور ومشهود له بأنه يكيل بأكثر من مكيال ويتنبى أكثر من وجهة نظر ويفتح قنوات تواصل عدة مع انظمة الحكم والمعارضة على حد سواء.
ما يعنينا هنا..
أن قرارت الإدارة الأمريكية تجاه مصر منذ سبعة أشهر تقريباً ترتكز على ميزان غير متعادل وغير عادل وغير منطقي.. وفي المقابل لا يسعنا إلا أن نقول ان رد فعل القاهرة تجاه هذا المرحلة المضطربة من تاريخ علاقاتها مع واشنطن، يتسم بالثبات والإصرار على استكمال خارطة الطريق. وها هي الجماهير الغفيرة من أبناء الشعب بعد أن أعلنت موافقتها على الدستور المعدل بنسبة فائقة، تستعد للمشاركة في اختيار رئيس جمهوريتها الجديد، ثم رسم ملامح مجلسها الشعبي المنتخب.. تمهيداً للبدء في بناء سياسات داخلية تعمل على وضع جدول زمني لتحقيق اهداف ثورتها، وكذا إستراتيجية دولية تعتمد على تعدد البدائل والخيارات.
إصرار الشعب المصري وحكومته المؤقته على أن يكون رد فعله وفعلها تجاه البيت الأبيض ثابتا ومستقرا وواعيا، لا زال يصيب القرار الأمريكي بالاضطراب.. مما يبرهن لنا ان واشنطن تكرر نفس الأخطاء التى سبق وارتكبتها.. فبينما سارعت في منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي إلى إصدار قرار يعتبر جماعة ‘بوكوحرام’ النيجيرية ‘منظمة إرهابية’، وألزمت الوكالات الأمريكية المختصة بوقف جميع معاملاتها المالية معها، لا زالت مصممة حتى اللحظة على إدانة قرار الحكومة المصرية، الذي صدر قبل أواخر شهر كانون الاول / ديسمبر الماضي باعتبار جماعة الاخوان المسلمين ‘جماعة إرهابية ‘ بعد ان سجلت الجهات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني عددا هائلا من عمليات العنف والارهاب التي تسببت فيها او قدمت دعما لمن قام بها.
الإدارة الأمريكية لأنها تزن بأكثر من مكيال، ليست قادرة على استيعاب أن خطتها الازدواجية التي تضع جماعات نضالية على قائمة الإرهاب ورفضها الاعتراف بحق الحكومة المصرية في نهج ذات المنهج، يُساهم كثيراً في تراجع وزنها وتأثيرها في الشرق الأوسط، كما أشار الكثيرون على مستوى المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد منذ أيام بمدينة دافوس في سويسرا، وليست قادرة على تَفهم أن جموع الشعب المصري تلقت باستخفاف بيانها الهزيل الذي أدانت من خلاله عمليات التفجير والقتل والترويع التي جرت على أرض مصر يومي الجمعة والسبت الماضيين.. لأنها أدركت بحسها الوطني أن اعتبارات أمنها القومي ومصلحتها العليا ليس لها انعكاس إيجابي لدى سيد البيت الابيض، الذي لم تجد إدارته إلا بعض كلمات جوفاء لتعلق بها على ما يعانيه أبناء مصر من عنف دموي غير مسبوق في تاريخهم، على يد جماعات إسلامية خرجت كلها من عباءة جماعة الإخوان، ومنها ما يدين لها بالولاء إلى الحد الذي جعل بعض التقارير والتحليلات تصفهم بأنهم يمثلون ‘الجناح العسكري’ لها، كتنظيم ‘القاعدة’ وانصار بيت المقدس..الخ.
ثقتي لا تتزعزع في أن من بين الرسائل الكثيرة التي أبرزتها ملايين المصريين الذين خرجوا يومي الجمعة والسبت الماضيين لم تعن فقط تحدي جماعة الإخوان وكافة الجماعات التي تسير في فلكها، ولا تحدي التفجيرات ومواصلة تكسير حوائط الخوف، والإصرار على إستكمال خارطة الطريق.. ولكنها حملت رسائل ضمنية إلى كل من يقف ضد مصلحتها ومسيراتها الإصلاحية التى ارتضتها لنفسها تقول ‘لن يتمكن أحد من إشاعة الارهاب بيننا بعد اليوم، ولن نثق في أحد إلا قادتنا الأوفياء الشرفاء، ولن تهزنا أي قرارات تصدرها أمريكا أو أوروبا أوغيرهما.
‘ استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا