شعراء كبار ولكن..

حجم الخط
0

شعراء كبار ولكن..

أمجد ناصرشعراء كبار ولكن..يقول الناقد جابر عصفور ان العالم العربي فيه ثلاثة شعراء كبار فقط هم (حسب ترتيبه): أدونيس، محمود درويش، سعدي يوسف.طبعا أدونيس ومحمود درويش وسعدي ويوسف شعراء كبار.كبار لأنهم قدموا، كل علي حدة، منجزا يصعب تصور الشعر العربي من دونه، وأثّروا في عملية التلقي، بدرجات متفاوتة، مع أن عملية التلقي شيء مختلف عن العملية الشعرية. ولكن مثلما لا يمكن فهم مشهد الشعر العربي، اليوم، من دون اولئك الثلاثة، يصعب، كذلك، فهم هذا المشهد من دون وجود السياب، الملائكة، الماغوط، صلاح عبد الصبور، نزار قباني، فدوي طوقان، البياتي، أنسي الحاج، توفيق صايغ، محمد الخمار الكنوني، عباس بيضون، محمد علي شمس الدين، حسب الشيخ جعفر، عبد العزيز المقالح ، سركون بولص، محمد بنيس، قاسم حداد، محمد بنطلحة، نزيه أبو عفش، شوقي أبو شقرا، نوري الجراح، وديع سعادة، حلمي سالم، علاء خالد وكثيرين غيرهم (حقا وفعلا) داخل هذا المشهد، ناهيك، حتما، عن عشرات الأجانب الذين كان لبعضهم تأثير علي الشعرية العربية واتجاهاتها أكثر، ربما، من بعض الشعراء العرب الرواد.هذا ليس اكتشافا. انه حقيقة أدبية راهنة لا تحتاج نباهة ناقد من طراز جابر عصفور ولا قدرته النظرية لتأكيدها. ولكن عندما نقول انه يصعب تصور وضع الشعر العربي، اليوم، من دون اسهامات المذكورين (وكثيرين غيرهم) علينا أن نتحلي بمنظور واسع للشعر يلحظ، علي نحو بانورامي، كل أشكال الكتابة الشعرية العربية المعاصرة ولا يحصرها في شكل أو خانة، ولو أن صديقنا جابر عصفور انطلق من هذا المنظور لربما أضاف أنسي الحاج، مثلا، الي الثلاثة الكبار، ولكنه لم يفعل، فقصر الأمر علي ثلاثة شعراء يجمعهم، في وعيه المضمر، الكتابة الشعرية الموزونة.الشعر العربي، منذ بدايات وعيه بمعني الشعر في عصرنا، ليس قصيدة وزن ولا قصيدة نثر، ليس شعرا حرا، ولا مرسلا أو منثورا، إنه كل تلك الكتابات التي حاولت الوصول، بشغف قاتل، الي الشعر (أو علي نحو أدق إلي: القصيدة) من طرق مختلفة. طرق مختلفة ولكنها سعت، كلها، وراء ذلك الغامض والمتعين، الحلمي والملموس، القصي والداني الذي نسميه الشعر. بهذا المعني يحضر في مشهد الشعر العربي المعاصر شعراء كثر، لبعضهم أسماء لامعة، متداولة، ولبعضهم الآخر أسماء أقل لمعانا وتداولا. فهناك شعراء يؤثرون في عملية الشعر نفسها ولا يجدون تلقيا واسعا، وهناك شعراء يؤثرون في العملية الشعرية والتلقي معا، وهناك شعراء لهم تلق واسع ولكن تأثيراتهم الجمالية محدودة. ولكن كل اولئك صنعوا (ويصنعون) مشهد الشعر العربي الحالي بصرف النظر عن رأينا فيه.ورغم أن الشعر العربي، اليوم، بحسب الناشرين والمولولين علي مصائره، أقل انتشارا من أجناس أدبية أخري، كالرواية مثلا، إلاَّ انه ما يزال يثير نقاشا وجدلا لم يعرفهما، عندنا، أي جنس أدبي آخر. لا تحظي الرواية، التي تشهد، الآن، انتشارا عربيا غير مسبوق، بالجدل الذي ما يزال يعرفه الشعر. انسوا القصة القصيرة والمسرح فهما يكادان ان ينقرضا بسبب انفضاض الكتاب عنهما.لا يحتاج الشعر العربي الي مناسبة للحديث عنه. فهو حاضر، بقوة، في النقاش، بغض النظر عن حضوره في القراءة والناس. لكن نقاشنا في الشعر، رغم تراكمه الطويل وصخبه المدوي، لم يؤسس، علي ما يبدو، قناعات عامة حوله. فأي نقاش في الشعر يعيدنا الي الخطوة الاولي. كأن هذه المسيرة البطولية، الضارية، التي لم ينقطع ركب الماشين فيها، بأحلام وأوهام كبيرة، لم تترك طريقا أو علامة. وها هو كلام الناقد جابر عصفور في حواره مع أسبوعية أخبار الأدب حول مفهومه للشاعر الكبير والشاعر غير الكبير يصدر من وعي (طبقي) للشعراء، والأهم، ان كلامه من التبسيط، بحيث يستغرب المرء صدوره من ناقد أساسي في الحياة الثقافية العربية.ما قاله جابر عصفور في ذلك الحوار ليس نقدا.السؤال نفسه الذي طُرح عليه، علي نحو مباغت، كان عرضيا، فجاء جوابه من (حواضر البيت). حتي عندما أراد الحوار أن يورطه أكثر في جوابه المرتجل لم يتوقف جابر عصفور عند الشرك القيمي الذي نصبه له السؤال فتورط بمزيد من الكلام العرضي. سئل الدكتور عصفور عن مفهومه لـ (الشاعر الكبير). كيف يكون الشاعر كبيرا وعلي أي أساس؟أجاب عصفور: علي أساس الابداع، الاستمرار، التجاوز!نفهم من كلام عصفور أن الشاعر الكبير ينبغي أن (يبدع). أي أن يتحقق في الكتابة عبر النوع وليس الكم. ونفهم من العنصر الثاني من وصفته السحرية أن الشاعر الكبير ينبغي أن (يستمر) في الكتابة لا أن (يبدع) ويتوقف. ثم نفهم، أخيرا، أن الشاعر الكبير ينبغي عليه، كي يحافظ علي كبره، أن يتجاوز نفسه دائما.في ضوء هذه الوصفة السحرية فإن من يكتب شعرا قادرا علي قلب خريطة الشعر العربي رأسا علي عقب ولم يواصل الكتابة ليس شاعرا كبيرا. الماغوط بهذا المعني ليس شاعرا كبيرا لأنه توقف عن (الابداع)، أنسي الحاج ليس شاعرا كبيرا لأنه صمت بعد بضعة أعمال شعرية، السياب الذي توفي في السابعة والثلاثين من عمره ليس شاعرا كبيرا لأنه مات مبكرا، كان عليه أن يبقي علي قيد الحياة أطول، بل أن شاعرا له ديوان واحد، تقريبا، مثل بودلير ليس شاعرا كبيرا، فكيف يمكن أن يكون الشاعر كبيرا من خلال ديوان واحد؟ ناهيك، طبعا، عن رامبو الذي تنسب اليه حداثة الشعرية الفرنسية وتوقف عن كتابة الشعر في سن الثامنة عشرة !ولد وشاعر كبير؟! لا يجوز.أما عبد المعطي حجازي فتكمن فيه، علي نحو جوهري ثابت، خامة الشاعر الكبير، وتلوح عليه رتبته، بيد أنه، في نظر جابر عصفور، ليس شاعرا كبيرا، الآن ولكن بمقدوره أن يستعيد، فورا، رتبة الشاعر الكبير ما إن يعود الي الكتابة!لا، ليس هكذا يتم الحديث عن الشعر. أظن أن جابر عصفور لو كتب مقالة لـ(أخبار الأدب) عن الشعر وكيف يكون الشاعر كبيرا لما قال ما قاله في الحوار. فكرة الكبير والصغير في الشعر خرافية، أصلا، ولا مقياس لها، فضلا عن أنها لا تقدم أو تؤخر في فهم الشعر وتياراته واتجاهاته وعمليات التلقي التي تحكمه. في العالم العربي البطريركي لا بد من أب، لا بد من نجم، لا بد من واحد أحد حتي في الشعر والرواية والغناء والرقص.. ناهيك عن السياسة. المفهوم العرضي الذي قدمه الناقد المتأمل والذكي جابر عصفور للشاعر الكبير يمتح مما هو جاهز في الحياة العربية، من ذلك الارث البطريركي اليومي، من كليشيهات سائرة، ولا يكلف نفسه عناء البحث وراء الواجهة، ولا في المسارات المختلفة التي اتخذتها حركة الشعر العربي الحديث. وكي لا أظلم جابر عصفور أسارع الي القول ان ما قاله في الحوار كلام شفهي، وليس نقديا ولا ينبغي أن يسجل في مدونة ناقد يعرف نظريات الأدب، ويعرف كيف تشتغل النصوص وكيف تؤثر وتتأثر، ويعرف العوامل التي تجعلها كذلك في لحظة معينة ولا تكون كذلك في لحظة أخري.هناك شعراء وكتاب في العالم لا (يجددون) بالطريقة التي طرحها جابر عصفور. لأن مفهوم (التجديد) ملتبس فضلا عن كونه نسبيا. بورخيس مثلا، يقول انه لا (يجدد) ولا (يبدع) وانما (ينوع) علي ما كتبه آخرون. ويقول ان ليس هناك جديد تحت الشمس وان الكتاب والشعراء لا يفتأون يكررون جملا واستعارات محددة لا تتغير وموضوعات لا تستنفد؟الشعر العالمي كله يتحرك في نحو دزينة من الاستعارات النمطية. وان أي (تجديد) فإنما هو تنويع، أو تفريع، لهذه الانماط من الاستعارات الكبري. أما حكاية تجاوز الجديد الي (جديد) غيره، فليست أمرا مسلما به في الأدب، كما هو مسلم به أمر المعادلات الرياضية، حتي هذه الأخيرة قابلة للتغيير. خط الابداع الأدبي ليس تصاعديا، ولا ينطلق من نقطة الي نقطة اخري علي خط مستقيم. إنه أشبه بالدائرة. أشبه بالعود الأبدي لموضوعات وأفكار واستعارات لا يبدو أنها قابلة للاستنفاد. فلم يبق شيء لم يقله الشعر ولا الشعراء، ولكنهما، مع ذلك، يعودان الي هذا (المستنفد) والي ذلك الذي قيل مرارا وتكرارا ويأتون، يا للعجب، بجديد.هذا أمر أدركه عنترة العبسي، في صحراء القراءة والكتابة، قبل نحو خمسة عشر قرنا، ولا أشك أن جابر عصفور الناقد، وليس أمين عام المجلس الأعلي للثقافة، يدركه أيضا. 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية