بعد تجربة الشعر المهجري التي خرجت من لبنان، وقادها أساتذةٌ رائيّون أحدثوا أثراً عميقًا في جسد القصيدة العربية وروحها في آن، تابع القارئ العربي تجربتين أخريين لكلّ منهما سياقها وأفقها الجمالي؛ تجربة مجلة «شعر» الغنيّة عن كلّ ذكر، وتجربة «شعراء الجنوب» التي ولدت من رحم المعاناة من الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان. وفي كل تجربة، كان لبنان رمز الحداثة والتجديد، وكان الشعر فيه هو «يسار» القصيدة العربية الحديثة.
بعد جيل السبعينيّات، يمكن أن ينتبه المرء إلى انطفاء شعاع «الذاتية الأدبية» التي ميّزت شعراء لبنان؛ فعدا بعض التجارب المؤثرة والمديدة لبعضهم، من أمثال: وديع سعادة، وعباس بيضون، وبول شاوول، ومحمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع وشربل داغر، فإنّه هناك اليوم قاعدة من الشعراء، الذين لا يحسم كثرتهم وتزايدهم إلا في نفي شيء اسمه «الجيل». ثمّة صمت في ناحية، وكثرة متكثّرة في ناحية أخرى. هذا لا ينفي وجود حساسيّات شعرية جديدة، تستوحي مادّتها من مفارقات العالم اليومية وتحتفي بالمحكيّ والسيرذاتي والمرتجل، ولا تخفي مقتها للأيديولوجي والطائفي. لكن في بلد صغير وفسيفسائي وحسّاس للغاية، يمكن أن يُرى الشِّعر وهو يعاني «أزمة» لاعتبارات لها علاقة بالقيمة والوظيفة معاً.
بات المشهد متفرّقًا، في ما يتابع شعراء عديدون، بالتفعيلة أو بالنثر، تجاربهم الخاصة، التي تستند إلى حاصل خياراتهم وتوجُّهاتهم، ما يعود إلى تموقعهم الخصوصي في خريطة الشعر اللبناني والعربي منذ السبعينيات.
شربل داغر: «فردانيّات» التعبير الشعري
مثل هذه الوقفة صعبة، خصوصا في لبنان، ولأكثر من سبب. إذ إنّ الشعر كما الشعراء لا «يَظهرون» في المشهد بما يكفي، بما يتيح للمتابع التفقد والفحص. كما يفتقر المتابع كذلك إلى معطيات موثّقة، وإلى «معرض كتاب» (متوقف منذ دورتين) وغيرها كذلك. كما لا يقوى على تفقد حال الشعر في دور النشر، إذ إنها ما عادت تُقدم على نشره إلا في القليل النادر، ما جعل الكتب الشعرية اللبنانية ترتحل إلى بلدان أخرى (الأردن، مصر، العراق وغيرها)، بعد أن كانت بيروت ـ لسنوات بل لعقود – عاصمة النشر الشعري الأولى في العالم العربي. كما يفتقر لبنان إلى أي مجلة تعنى بالشعر، بعد احتجاب الكثير من المجلات التي رعت نمو القصيدة الحديثة، «الأديب»، «الآداب»، «شعر»، «مواقف» وغيرها، ولا يمكن كذلك حسبان ما يُقدم عليه الشاعر اللبناني قيصر عفيف في المكسيك، بإصدار مجلته الدورية: «الحركة الشعرية»، بالمجلة اللبنانية الصرفة (تُصدر عددَين في السنة الواحدة، وبدأت بالظهور في خريف سنة 1992، وأصدرتْ حتى تاريخه أزيد من خمسين عددا)، بل يمكن الحديث عن «ترحل» آخر صوب الرواية، إذ إن شعراء لبنانيين عديدين ينصرفون إلى كتابة الروايات، من دون أن ينقطعوا عن الشعر، مثل أنطوان أبو زيد وعباس بيضون وأنطوان الدويهي وعبده وازن وجمانة حداد، وكاتب هذه السطور، وغيرهم.
مع ذلك يعيش الشعر اللبناني بين شعرائه، وفي مباني القصيدة نفسها، ما لا يشبه أو يوازي فقرَ البنية المادية والتحتية للشعر. فأعداد الشعراء يتزايدون، بل توقف عدُّ «أجيال» الشعراء ـ لكثرتهم وتدافعهم – بعد «جيل السبعينيات»؛ ولا يتورع أكثر من ثلاثين شاعرا شابا عن نشر مجموعته الأولى، متوكلًا بكلفتها المادية (مثلما تحققتُ من ذلك في إصدارات عام 2018).
بات المشهد متفرّقًا، في ما يتابع شعراء عديدون، بالتفعيلة أو بالنثر، تجاربهم الخاصة، التي تستند إلى حاصل خياراتهم وتوجُّهاتهم، ما يعود إلى تموقعهم الخصوصي في خريطة الشعر اللبناني والعربي منذ السبعينيات. وهو ما يصحُّ كذلك ـ ولو بنسبة أقل ـ في الجيل الذي تلاهم… هذا ما يتجلى في تأكد تجارب بعض هؤلاء الشعراء وتمايزهم عن غيرهم، من جهة، بل في تأثيرات بعض هذه التجارب (التي باتت أقرب إلى نماذج) خارج لبنان نفسه، بل يمكن التأكيد على أن تجارب خليل حاوي، أو أنسي الحاج، أو شوقي أبي شقرا وغيرهم اتسعت قاعدتها، وأوجدت منابت متجددة لها. ولا يبالغ المتابع في القول إذ يَظهر له أن الشعر اللبناني لم يشهد مثل هذه الظاهرة في السابق، التي انبنت خصوصاً على إبراز «الذاتية الأدبية»، التي وجدتْ في جبران خليل جبران علامةَ لمعانها، ونبرتها الخصوصية، في الأدب العربي الحديث. لهذا يمكن الحديث، حاليا، بل منذ سنوات، عن «فردانيّات» في التعبير الشعري، وعن مساعٍ اجتهادية في البناء، ما يبعدها عن الاجترار والتقليد، وعن النمط والنموذج، لصالح اجتراح زوايا ونظرات ووُجهات في القول الشعري. وقد يكون من العلامات الأخيرة والمنسجمة مع هذا السياق المتنامي، ظهور، بل تأكد، شاعرات كثيرات، ما لم يعرفه الشعر اللبناني في تاريخه. وهن شاعرات أسهمن بدورهن في إعلاء هذه العلامة الذاتية، وتأكيدها وتنويعها، وجعلها أقرب إلى البدن واللسان والسيرة. هذا ما جعل الكثير من الشعر يبحث عن لحظة، عن نافر، عن مختلف، عن «وجيز»، عن السردي، عن الحميمي، عن التعريض الساخر بكثير من اليقينيات والاعتقادات. لهذا، هو مشهد شديد الاختلاف والتمايز، يناسب بقدر ما يصنع أوجها وألسنة متعددة للشعر بوصفه تجربة فردية. وهو مشهد متماوج، حتى إن شعراء التفعيلة فيه لا يتورعون عن «قبول» القصيدة بالنثر، ويكتبون عنها من دون حرج أو تحريم. وهو ما يحدث للشعراء بالنثر معهم أيضا. لعلّ بعضا من «وحشة» اللبناني في زمنه، ومن افتراقه عن تاريخه المتأخر، نجده في هذا الشعر.
عباس بيضون: تقليد الجسارة والاستقلال
أظنُّ أن السؤال عن مستقبل الشعر وعن راهنه في وقت زاد فيه تراجعه، وانكمشت آفاقه، سؤال كهذا مطروح منذ أواسط القرن الماضي، إذ بدأت أقلّوية الشعر تتحول إلى انحسار متزايد في تأثيره ووزنه الثقافي، حتى باتت هذه الأقلّوية عزلة أو انحباسا. لم يكن الأمر كذلك في القرن الماضي، أو ما سبقه، إذ إنّ هذه الأقلّوية كانت ذات مدلول أرستقراطي، يمتّ إلى النخبة وإلى الندرة. غالبا ما كان صوت الشعر أعلى بكثير من صداه وأوسع من جمهوره. لا أضيف أمثلة فالأمر ماثل ومشهور، لكن سؤال وزن الشعر ورواجه وسوقه مطروح الآن على نحو مدوٍّ. الآن هناك خشية من أن يغدو الشعر من الأنواع المنقرضة، والحرص عليه يبدو أيضا أنثربولوجيا كأنه حرص على الأنواع. قد لا يُؤذي هذا شعراء يجدون فيه سبيلا لتحرير الشعر من السوق، والحفاظ على نخبويّته نقيّةً خالصةً.
ليس الأمر في الأدب العربي مختلفا، ولا يجعله كذلك اعتدادنا بمكانة الشعر في موروثنا أو ثقافتنا القديمة، منذ عصر الجاحظ من أنّ العرب أهل شعر. الواضح أن لحقنا، ولو مع قليل من التأخر، نصيبنا من انصراف عن الشعر وإقبال على فنون سواه. لم تكن أسبابنا مختلفة؛ إنّها تطور تكنولوجي اقتصادي اجتماعي، جعل الشعر غريبا في هذا العصر. جعله فوق الاستهلاك الثقافي، فائضا عن السوق وعن المسار الذي صار، أكثر فأكثر، بعيدا وعارما بما لا يطيق الشعر ولا يتقبّله.
لا يصح كثيرا أن نتخذ من الشاعر ناقدا للشعر أو حكما عليه. قد يصحّ أكثر أن نجعل منه ناقدا للموسيقى أو التشكيل، وفي هذا برع شعراء كثر، لكن علينا أن نتوجس من نقد الشاعر للشعر، ولو بدا لنا، كما ينبغي أن يبدو، محكما وناضجا، ففيه تجربة الشاعر واختباره اللذان، لحسن الحظّ، يشبهان شعره ويوازيانه أحيانا.
لقد رافق دخولنا المتثاقل في عالم اليوم، بعد متزايد عن الشعر الذي امتشق ذلك ليغدو أكثر استعصاء واستثنائية وجوهرية. ذلك جعل شعرنا ينفصل عن السوق كلما تجمهرت هذه وغدت أقرب إلى حواضر اليوم، وكلما صارت أوغل في الاجتماعي والسياسي، وكلما زادت استقطابا وشعبوية. لا بد أن هذا الأمر كان جامعا لكلّ البلدان العربية وآدابها. لم ينج لبنان من ذلك بالطبع، ولم يسعفه أنّه بادر إلى التحديث، وإلى مجاراة العصر، والاندماج في الموجة العالمية. لم يسعفه ذلك وقد يكون زاد في الأزمة، وجعل المشكلة أبرز، بل عجّل في إبعاد الشعر عن السوق وعن الجمهور.
على كلّ حال، بدت المسألة أوضح هنا؛ فالشعر كان الأبرز في الأدب في لبنان، لذا كان انكماشه أظهر وأكثر ملموسية. يمكننا أن نتحدث هنا عن تراجع في سوق الشعر وجمهوره في لبنان، لكنه في ذلك ليس فريدا. حاله حال بقية البلدان، عربية كانت أو غير عربية. ينطبق عليه ما ينطبق عليها. الشعر في أزمة، وقد يحزن عليه أن يجد سبيلا خاصا للخروج من أزمته، إلا إذا اعتبرنا أن هذه نعمة مستورة. الشعر لذلك دون سواه، قد يكون الفن الأنقى، وقد يكون الفنّ الذي لم تغتله الظروف ولا يزال في بكارته. قد نجد قلائل يقولون ذلك، لكن هذه البراءة من العصر ومن التاريخ لا تجدي، حين يكون الشعر داعية حداثة وداعية معاصرة، لا ينفع معهما أن يكون متأخّرًا عن يومه وعن عصره.
يبدو منطقيًّا أن يطرح سؤال عن راهن الشعر اللبناني على شاعر لبناني، فهذه حرفته وهذا جوّه وهذا باختصار عالمه. قد يصح هذا بقدر ما لا يصح. أن تسأل شاعرا عن الشعر، فقد تجازف، وقد يجازف هو أيضا. بأن يغدو السؤال عن شعره. لست أرجع هنا إلى نرجسية الشاعر، رغم أنّها في الغالب موجودة، لكني أقول إن علم الشاعر بالشعر واختباره له هما في الأرجح مخزونان في شعره. لا تملي ذلك على الشاعر نرجسيّته الظاهرة، لكن حياة الشاعر مع الشعر هي ما صنع شعره. لسنا نتّهم إذا قلنا إن نموذج الشعر بالنسبة لشاعر هو شعره نفسه. قد يكونان – وعى ذلك او لم يعه – ماثلتين بالنسبة له في شعره. لا نجرم الشاعر إذا قلنا إنه يقيس على شعره، أو إنه، ولو لم يقصد أو يتعمد، يتخذ من شعره، أو خياره الأسلوبي أو غنائه، وجهة يستلهمها أو يلمحها على الأقل في نقده.
من هنا، لا يصح كثيرا أن نتخذ من الشاعر ناقدا للشعر أو حكما عليه. قد يصحّ أكثر أن نجعل منه ناقدا للموسيقى أو التشكيل، وفي هذا برع شعراء كثر، لكن علينا أن نتوجس من نقد الشاعر للشعر، ولو بدا لنا، كما ينبغي أن يبدو، محكما وناضجا، ففيه تجربة الشاعر واختباره اللذان، لحسن الحظّ، يشبهان شعره ويوازيانه أحيانا. لا ننسى أيضا أنّ الشاعر ابن يومه وابن جيله. ولا بد أنّ جيلًا آخر يتجه إلى خيارات أسلوبية وفكرية تنقلب على خيارات سبقت. لا بد أن الشاعر الذي يُستفتى جزء منها وأحد روادها وصنّاعها، ولن يكون الانقلاب عليها بالنسبة له، أو قد لا يكون، سوى انقلاب على الشعر. عندئذ ستكون المحاكمة محاكمة جيل ومحاكمة خيارات. مثل هذا دارج ومشهور. نحن هكذا في مشكل تاريخي هو صراع أجيال وانقلاب زمن على زمن.
لذلك قلّما أثق بنفسي حين أقرأ شاعرا من الشبّان، أنا الذي تجاوزت أو في طريقي إلى تجاوز الخامسة والسبعين؟ أرتاب في ذوقي إذا لم أتواصل مع ما أقرأه، وأسأل نفسي إذا كنت. عند ذلك أحكم تجربتي ووجهتي، لذلك أخرج نهائيا من المحاكمة والحكم. أرى أن الشبّان مضوا أبعد منّي أو منّا في خروجهم على الفصاحة، وفي رجوعهم إلى اليوميات المدينية، وفي مزاوجتهم الغناء والنثر، وفي عودتهم إلى المحكي، وإلى النثريات وإلى الارتجال. أتذكر أنّ شيئا من هذا كان دعوة لي ولآخرين مثلي، لكن الجدد ساروا في هذا على طرائقهم، وأحيانا بجسارة قد تكون موضع اختلاف كما قد تكون موضع ترحيب. اختلاف لا أدري مكانه، فالشعر ليس طريقة وهو لا يصنع مثالات ولا نماذج نهائية. لكل شاعر اختباره الخاص، حتى في ما يبدو وجهة مشتركة، والعمدة كلها في هذا الخاصّ الذي يحمل في طيّاته ميزاته ومحاكمته ونقده.
لا أستطيع لذلك أن أحكم، لكني أقول إن الشعر في لبنان اليوم، يواصل تقليدا عريقا هو هذه الجسارة والاستقلال، وقد يكون ذهب بعيدا أو أبعد في اجتراح لغات مدينية والاستقاء من المحكي والمرتجل والسردي. هذا ما يجعل من التجارب الجديدة احتفالًا أكبر بالمرتجل والنثري والمحكي. لا أريد أن أحكم أو أحاكم، لكن أريد أن أقول إنّ الجيل الشعري الحالي يشقّ طريقه، وإنّنا اليوم على أعتاب مخاض يؤمل أن يفضي إلى ولادة جديدة وشعر آخر.
محمد ناصر الدين: أصوات الشعر الجديد
لا أعرف إن كان يمكننا الحديث عن شعر لبناني بالمعنى «القُطْري» للكلمة، إذ لحق الشعر في بيروت جدلية التطور ذاتها التي لحقت بالشعر العربي شكلاً ومضموناَ منذ مطالع القرن العشرين. يذكر يوسف الخال مثلاً في المؤتمر التأسيسي لمجلة «شعر» عام 1957 أن بذور الثورة الثانية في الشعر، والمتمثلة في قصيدة النثر التي أطلقتها بيروت، كانت قد نثرتها في تربة الحداثة محاولات قامت في مصر والسودان والعراق. كنا إذن أمام مختبر ثقافي يتفاعل مع المحيط ويؤثر فيه، وباستثناء تجربة «شعراء الجنوب» التي ولدت من رحم المعاناة الجنوبية والاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان، تكاد التجربة اللبنانية تتشابه مع مثيلاتها العربية مع جرعة أخفّ من أدب السجون والزنازين، نظراً للحرية النسبية التي تمتع بها لبنان فترة ما قبل الحرب. يمكننا تقريباً الحديث عن أجيال ستة تعاقبت على الشعر اللبناني «الحديث» منذ خمسينيات القرن المنصرم: مرحلة أولى من «الآباء الكبار» ممن أرسوا أساس الحداثة الشعرية العربية أمثال أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة وغيرهم. يعرف القارئ العربي جيداً السجالات حول «شعر» والجدل حول التراث و»هدم عمود الشعر العربي» والدعوة المضادة من مجلة «الآداب» وغيرها، إلى الالتزام في الأدب ودعوته إلى حمل لواء القضايا القومية والوطنية على حساب الذاتية والفردية.
مجموعة من الشعراء اتخذت من المقاهي والحانات منصة لصياغة حياة ثقافية ليلية في بيروت، تتحدى النظام الأمني والزبائني الطائفي، مثل: فيديل سبيتي، وناظم السيد، وغسان جواد، وزينب عساف، وفادي العبدالله في «جدل بيزنطي» و»شبابيك» وغيرها.
الجيل الثاني تصدرته كوكبة من الشعراء حملوا قصيدة النثر من دون حرج، ودون حاجة لإيجاد أب شرعي لها في التراث، إذ هي وليدة المدينة والحاجة إلى مواجهة اللحظة، بدون قناع أسطوري أو فولكلوري أو طوطمي، نخبة نذكر منها بول شاوول وعباس بيضون ووديع سعادة. كما برزت في الجيل نفسه مجموعة أخرى عُرفت بـ»شعراء الجنوب» تذوقنا نتاجها التفعيلي، خصوصاً في أغنيات مرسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر، مع شعراء جمعهم اليسار اللبناني وقضية الأرض المحتلة، أمثال: محمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، وحسن ومحمد وعصام العبدالله، وجودت فخر الدين، وإلياس لحود، والراحل عصام محفوظ وحسين نصرالله.
الجدير ذكره هو تفرّق أصحابها مذاهب شتى، فقد اختطّ كل منهم لنفسه تجربة شعرية خاصة ومتفردة، ولا يزال قسم منهم ناشطاً حتى اليوم في إصدارات حافظت على قدر كبير من الجمالية الغنائية والتفعيلية، وتناولت مواضيع متنوعة من «صوفيات» محمد علي شمس الدين، إلى «فراشات لابتسامة بوذا» لشوقي بزيع، وصولا إلى «شذرات» حسن العبدالله الأقرب إلى شعر الهايكو في «ظل الوردة». من بعدهم يمكننا الحديث عن جيل ثالث ضاعت ملامحه إبان الحرب الأهلية اللبنانية، مثل عبده وازن وعيسى مخلوف وإلياس حنا إلياس وبسام منصور وتشتت في أصقاع الدنيا. من بعده أجيال ثلاثة توالت علي المشهد اللبناني سميتها في دراسة مشتركة سابقة مع الصديق بهاء إيعالي: جيل «الصحافة والهجرة» و»جيل الهموم الصغيرة» وجيل «الشعراء الشباب». يعتبر جيل «الصحافة والهجرة» شاهدا على أفول الحرب الأهلية اللبنانية في تسعينيات القرن الماضي، والأسئلة القلقة المتعلقة بالقمع الذي مارسه النظام الأمني اللبناني والفساد المتمثل في مشروع سوليدير الإشكالي لإعمار وسط بيروت. مجموعة من الشعراء اتخذت من المقاهي والحانات منصة لصياغة حياة ثقافية ليلية في بيروت، تتحدى النظام الأمني والزبائني الطائفي، مثل: فيديل سبيتي، وناظم السيد، وغسان جواد، وزينب عساف، وفادي العبدالله في «جدل بيزنطي» و»شبابيك» وغيرها. ترافقهم كوكبة من جيل الثمانينيات، أمثال: يحيى جابر، ويوسف بزي، وإسكندر حبش، وجوزيف عيساوي، وفادي أبي خليل وعلي مطر. وانتهى الأمر بقسم غير قليل منهم إلى الهجرة، أو تحرير الملاحق الثقافية للعديد من الصحف. من بعد هذا الجيل بدا وكأن الشعر قد غفا لسنوات عشر في بيروت، ليظهر فجأة جيل «الهموم الصغيرة» الذي فاجأ الجميع؛ جيل متحرر من الأيديولوجيا والسياسة، ويكتب قصيدة عصرية تستمدّ مادتها من مفارقات العالم اليومية وترتكز على أسس ثقافية سمح بها الانفتاح على الثقافات والفنون وامتزاجها بالشعر المترجم، وبخاصة في زمن العولمة. من هؤلاء الشعراء: محمد ناصر الدين، وربيع شلهوب، ومهدي منصور، وسمر دياب، ودارين حوماني، وعبير خليفة، وفيوليت أبو الجلد، وفوزي يمين، ولوركا سبيتي ورنيم ضاهر. الجيل الأخير هو جيل الشعراء الشباب، من شعراء عشرينيين لم يخبروا الحرب الأهلية ولكن عايشوا حالة الانتفاضة على النظام السياسي الفاسد، تجربتهم كانت بداية أقرب إلى تساؤلات وجوديّة ذاتية إنسانية خاصة، وبعد انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر صار هؤلاء وجوها أدبية وشعرية للثورة، التي خرجت من رحمها أكثر من مجلة مثل «نيزك» و»17 تشرين» و»رحلة»، كما أن دار النهضة العربية تصدر قريباً سلسلة «أصوات» تحتضن تجارب هذا الجيل، ومن أبرز شعرائه: بهاء إيعالي، وباسل الأمين، وزنوبيا ظاهر، ومحمود وهبة، وزهرة مروة، ومحمد قشمر، وعلي شمس الدين، ومحمد وطالب شحادة وباسكال صوما. كما تبرز تجربتان عشرينيتان في شعر التفعيلة هما: حسن نصور وحسين ناصر الدين.
كاتب مغربي
فيما يتعلق بالعبارة التصديرية، أخ عبد اللطيف الوراري:
/لا يصح كثيرا أن نتخذ من الشاعر ناقدا للشعر أو حكما عليه. قد يصحّ أكثر أن نجعل منه ناقدا للموسيقى أو التشكيل، وفي هذا برع شعراء كثر، لكن علينا أن نتوجس من نقد الشاعر للشعر، ولو بدا لنا، كما ينبغي أن يبدو، محكما وناضجا، ففيه تجربة الشاعر واختباره اللذان، لحسن الحظّ، يشبهان شعره ويوازيانه أحيانا/.. اهـ
لو كان الشاعر الكبير نزار قباني على قيد الحياة لخالفك في هذا الرأي كليا ولقال لك بلا تردُّد إنَّ علينا أن نتجنَّب كل التجنُّب مواضعات النقد الأدبي أيًّا كانت
اختيارات بعض الأسماء هشّة جدّاً وتضرب مصداقية الممارسة الشعرية الحقيقية في لبنان . لا يغدو أحدهم شاعراً لمجرد أنه طبع كتاباً فيه خواطره وعلى صفحته الاولى اسمه : الشاعر فلان . نأمل التمحيص جيدا في لائحة الشعراء الحقيقيين في لبنان . بعض الاسماء ” الشعرية ” أعلاه مضحكة جدا وللأسف . محبتي