بدأ الشعر العربي في المغرب، منذ بدايات القرن العشرين، تقليديا عليه سمت النظْم والمحافظة والنهج الديني. وإلى حدود الثلث الأول منه؛ حين أصدر محمد بن العباس القباج في سنة 1929 منتخبات شعرية تحت عنوان «الأدب العربيفي المغرب الأقصى» كان من الصعب أن نتحدث عن شعر مغربي واضح المعالم، أو عن نهضة شعرية، بل إن أول ديوان شعري مطبوع؛ «أحلام الفجر» للشاعر عبد القادر حسن العاصمي، لم يظهر إلا سنة 1935. ولهذا كان هذا الشعر مجهولا من طرف المغاربة قبل المشارقة، الذين كان شعرهم قد وصل بقوة وأحدث حِراكا بين أوساط المتأدبين والشباب. لكن النهضة بدأت تتململ. وبعد الاستقلال السياسي، توجهت القصيدة المغربية بضفافها خارج التيارين المحافظ والرومانسي، متأثرة بحركة الشعر الحر الناشئة والمثيرة في آن.
وهكذا ظهر إلى العلن جيل الستينيات باقتراحاته الفنية المهمة، يتقدمه الشعراء: أحمد المجاطي، ومحمد السرغيني، ومحمد الخمار الكنوني، ومحمد الميموني، وعبد الكريم الطبال وأحمد الجوماري.
وابتداء من سبعينيات ذلك القرن، ظهر جيل آخر من الشعراء لم تُغْرِهم حبائل السلطة، بل قدموا تجارب جديدة تولّدت عن وعي فكري وأيديولوجي مختلف، جمع بين روح الالتزام، والبحث عن «قصيدة مغربية» على مستوى الشكل والتنويع الأسلوبي. ومنذ ما بعد الثمانينيات وإلى العشرية الثانية من الألفية الجديدة، بدا أن هناك جمالياتٍ جديدة يبدعها الشعر المغربي، إذ قطعت مع ما سبقها، وكرستْ وعيا جديدا بالمسألة الشعرية برُمتها، بعد أن رفعت عنها السياسي والأيديولوجي، ويممتْ بوجهها شطر المغامرة التي أثمرت اليوم راهنا متعددا وخرائطي السمات، من ذات إلى ذات، ومن حساسيةٍ إلى أخرى.
أحمد زنيبر: موجز التاريخ الحديث
لعل الحديث عن الشعر المغربي، حديث ذو شجون، ليس فقط لمساره الممتد في الزمان والمكان؛ وإنما أيضا، لصعوبة الإحاطة بكل التجارب التي تمثله. ولا شك في أن المواكب لهذا المنجز الشعري، يلاحظ الدينامية التي ميزت مساره. فإذا كانت الانطلاقة الأدبية مع ظهور الدولة المغربية، زمن المرابطين وما قبله؛ فإن تلك المرحلة، على الرغم من ندرة الإنتاج، حققت تراكما عكس طبيعة التواصل بين الشعراء المغاربة وبين نظرائهم في الأقطار المجاورة. كما أبانت عن التزام ظاهر بعمود الشعر العربي، لفترة طويلة. وخلال الثلاثينيات من مغرب القرن العشرين، صدر أول ديوان سنة 1936، تلَتْهُ سلسلة من الإصدارات. والملاحظ أن وتيرة النشر كانت بطيئة، إذ لم يتجاوز معدل الإصدار في السنة الواحدة الديوان أو الديوانين؛ بل إن فترة الستينيات نفسها لم تتجاوز إصداراتها العشرين ديوانا. وبذكر الستينيات، يدخل الشعر المغربي مرحلة متقدمة مع القصيدة، حيث بدت الحاجة إلى تطوير أسلوب الكتابة، بما يتلاءم والتحولات السوسيوثقافية، وكذا ما ينسجم مع التطورات التي عرفتها القصيدة العربية.
وعلى الرغم من ارتفاع صبيب الإصدارات زمن التسعينيات، مقارنة بالسابق؛ فإن الصلات الثقافية لم تنقطع بين شعرائها، حيث وجدنا عددا من التجارب تتداخل في ما بينها وتتباعد، في الآن ذاته.
لقد تفاعل الشاعر المغربي مع واقعه تفاعلا ينم عن حركية الأفراد والجماعات داخله، وانبرى للتعبير عن أحوال الذات وقضايا المجتمع عبر اللغة والمجاز، لذلك لا غرابة أن يتوارى المد الرومانسي، مقابل المد السياسي والأيديولوجي. هذا المد سيُترجم إلى نصوص تحفر في اليومي والهامشي. فشاعر المرحلة حين ركن إلى الكتابة، صدح ضد القمع والسلطة والفساد. ولأن القصيدة المغربية ممتدة في الزمان والمكان، شكلت الثمانينيات لحظة من لحظات الممارسة الشعرية، حيث عرفت رواج أكثر من مئة وأربعين ديوانا، إذ تحرر الشعراء، نسبيا، من المد السياسي الجارف، واختاروا الانفتاح على شعريات تمتح من المعرفة والتصوف والفلسفة والتشكيل والموسيقى. وهو ما بدا جليا في بعض المقترحات النصية، إلى جانب ما حققته القصيدتان العمودية والتفعيلية من تطور على مستوى اختيار الصور والمعاني، وتوظيف الرموز والأساطير ودمج راقٍ للتراث والفنون.
ثمة تجربة أطلق عليها القصيدة البصرية؛ وهي تجربة راهنت على سؤال الكتابة من خلال الاهتمام بالتشكيل وبالعين القارئة. فقد اختار الشاعر المغربي أن يمنح فضاء التدوين بعدا جماليا مخالفا لما كان متداولا، من خلال المزج بين الشعر والخط المغربي، واستدعاء ثنائيات البياض والسواد والامتلاء والفراغ والأشكال والأيقونات. واللافت أن هذه التجربة لقيت استحسانا من لدن القراء والنقاد، انطلاقا من الفسحة التي منحتها للعين الرائية، بعد هيمنة طويلة للقصيدة الصوتية.
وعلى الرغم من ارتفاع صبيب الإصدارات زمن التسعينيات، مقارنة بالسابق؛ فإن الصلات الثقافية لم تنقطع بين شعرائها، حيث وجدنا عددا من التجارب تتداخل في ما بينها وتتباعد، في الآن ذاته. وهو الأمر الذي سيجعل من اختيار التحقيب الزمني تصنيفا لا تؤتمن عواقبه. فقد وجبت قراءة الشعر المغربي، أفقيا وعموديا، كي تكتمل صورته الموضوعية. فثمة شعراء مارسوا التحديث عبر التزام بعمود الشعر، وبالتفعيلة تارة، وعبر اجتراح نص مغاير تارة.
في هذا الصدد، أعلنت قصيدة النثر عن نفسها، وراهن أصحابها على ما تمنحه من إمكانيات تقوم على تفكيك النظم وتوليف اللغة وتكثيف الصور. فالشاعر، هذه المرة، اختار الإيقاع الداخلي بتنويعاته المتعددة عوض الانجراف إلى الإيقاع الخارجي بما هو أوزان وقوافٍ. لذلك، لا غرابة أن يحتفي هذا النوع من الكتابة بالسرد والترميز والتخييل والحفر اللغوي الدائم، ترسيخا لوعي جمالي. لقد نجحت هذه التجارب، أو بعض منها، وهي تحاكي الواقع وترصد تناقضاته وتحاور الذات وتعكس انفعالاتها، في تشكيل حس نقدي لدى متلقي الشعر. كما نجح الشعراء في بلورة رؤيتهم الفنية التي استندوا إليها لحظة الكتابة. ومع بداية الألفية الثالثة، سيعرف الشعر المغربي انتشارا واسعا على مستوى العناوين، التي تطرحها دور النشر، المغربية منها والعربية. وهي أعمال تفاوتت من حيث الحجم والبناء والدلالة. وطرحت، في المقابل، قضية كبرى تتعلق بسؤالي الكم والكيْف. غير أن هذا التراكم اعتُبر ظاهرة صحية بالنظر إلى الدينامية التي بدأ يعرفها المشهد الثقافي المغربي عامة، والمواكبة النقدية التي أضحى يتمتع بها، محليا وعربيا.
هذا التراكم أفرز ذائقة جديدة انسلخت تدريجيا من سطوة العمودي، ومن سلطة التفعيلي أيضا. فقد أصبح الشعراء، تبعا لهذا التحول، ينشدون أفقا مغايرا أكثر حرية يلتمسون من خلاله نصا مفتوحا. وهو ما كشفته بعض القصائد حين التحمت بالنثر، بما فيه من جماليات السرد والنفس السيري الأوتوبيوغرافي.
ولم يقف الأمر عند انتشار قصيدة النثر؛ بل تعداه إلى الكتابة في شكل شعري آخر، من قبيل الشذرة والهايكو، وهو ما استدعى بلاغة نقدية مغايرة تواكب هذا الشعر في مساره المتجدد. لقد رسخ الشعراء المغاربة انحيازهم للتجريب، باعتباره رهانَ الكتابة. كما أن استدعاءهم للآخر الشعري يعد أحد مظاهر الانفتاح على الكوني والإنساني. إن ما راكمه الشعراء المغاربة، على فترات زمنية متفاوتة، سواء في تجربتيْ العمودي والتفعيلي، أو في تجربتي النثيرة والشذرة أو في غيرها، يذكي الانطباع بأن هذا المنجز الفني لا يخلو من ذاكرة ورسالة.
أخيرا، هناك زحف جديد من الأسماء التي تبحث لها عن موقع قدمٍ في المشهد الشعري العام. فالمتداول الآن، فاض على ضفاف النشر، الورقي منهُ والافتراضي، لذلك، فقد بات لزاما على النقد أن يدخل على الخط، بأدوات نقدية حديثة، لتصفية هذا السيل من أوحاله اللغوية والفنية والإيقاعية. لعلهم قادمون.
صباح الدبي: راهنٌ متعدد وخرائطي
إن الحديث عن راهن الشعر المغربي لا يتأتى من خلال رؤية فاصلة تتبنى حدودا كبرى بين ما راكمه الرواد وأشكال الامتداد، بل من خلال رؤية جوهرانية تواكب سيرورة هذا الامتداد، وعمق تحولاته على المستويات كافة بما يتناسب مع الطبيعة الحيوية للكتابة الشعرية، ومع قابليتها المستمرة للتجدد. وإذا كانت التجارب الشعرية الأولى قد أصلتْ لوجودها المُغايِر عبر أشكال كتابية ارتبطت بسياقاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، وطبيعة تفاعل الذات الشاعرة مع هذا الوجود المُحيط بها والمؤثث لطبيعة رؤيتها للذات وللعالم، فإن الامتداد الشعري سيتخذ مسارات مُغايِرة، وستنخرط من خلاله التجارب في سيرورة حياة جديدة تُسائل الذات والعالم، وتختبر وجودها الشعري وهي تعبر إلى الأقاصي البعيدة في الذات الإنسانية، وتراهن على اجتراح مناطق شعرية ولغوية وشكلية جديدة تتناغم مع طبيعة التحولات الكبرى والمتسارعة التي يشهدها العالم، والتي لا تسلم الذات الشاعرة من أثرها المأهول بالمساءلة والتأمل.
أصبحت الكتابة الشذرية اقتناصا جديدا لتلك الالتماعات والإشراقات الجوانية، لاسيما مع تسارع وتيرة الزمن، ومع التحولات الرقمية التي جعلت منصاتها منبرا شعريا جديدا له إمكاناته الزمنية والمكانية المحدودة، والتي تفترض شكلا مخصوصا من أشكال التلقي.
يطالعنا راهن الشعر المغربي في امتداده الجمالي والزمني، من خلال هذا التراكم الملحوظ الذي شهدته المدونة الشعرية، ومن خلال المسار المُغايِر الذي وسم طرائق اشتغالها ضمن سياقات ذاتية وثقافية واجتماعية جديدة، لذلك كان العبور من السياسي والأيديولوجي إلى المناطق المُتاخِمة لأعماق الذات، رهانا شعريا يعلو من خلاله الصوت العميق المنبعث من باطنيته المفتوحة على المجهول، بعيدا عن الصدى الموحد الذي تلتقي فيه أصوات الجماعة بإيقاع نمطِي مُشترك، بل إن الصوت الجماعي نفسه خضع لحالات تذويت خاصة جعلته يذوب في سراديب الذات ويُعاود نشوءه بشكل متفرد ومخصوص. هذا النزوع إلى الفردانية في التعاطي مع الحالة الشعرية، لا يعني القطع التام مع كل ما هو براني صِرْف لا يهم الذات الشاعرة، وإنما هو استبطان جواني يمتص كل ما يحيط بالذات ويُعيد خلقه وفق رؤيتها الخاصة والمتفردة، ومن ثمة انخرط الصوت المشترك في حالة تشظ توزعتها الذوات لتخلق إحساسها الخاص به. هذا التعاطي الفرداني الخالص، وهذه الشخصنة العالية التي وسمت أشكال الاشتغال الشعري وشبكة الموضوعات، رجحت كفة التعددية، بدل الواحدية، وفتحت بوابات القول الشعري على التجريب والمغامرة على مستوى الموضوعات والأشكال، ولم يعد للذات من رهان وهي تنخرط في الحالة الشعرية، سوى اعتناق الممكن والمحتمل، وركوب الأسئلة الكبرى التي تؤرقها وهي تواجه تشظيها الداخلي ومعضلات الحياة وأسرار العالم.
يبدو أن المنحى المُتعدد الذي وسم المدونة الشعرية المغربية، قد كشف عن الطبيعة الجوهرانية للقول الشعري، بما هو فتح وكشف مستمران، حتى مقولة الزمن في علاقتها بالتجربة الشعرية لم تعد تُهيئ لها ما يمكن أن يكون سَمْتا خاصا يُقَوْلبها داخل إطار زمني مخصوص، لأن الشعر منفلت بطبيعته من كل تحديد، ومن ثمة تراجع مفهوم التصنيف الجيلي للتجارب الشعرية، لصالح الأفق الشعري المفتوح الذي تتجاذب فيه التجارب وتتقاطع، تختلف وتأتلف تبعا لرؤاها، فليس ثمة من أعمار للكتابة، سوى ما تُعلنه راهنيتها ولحظتها الكتابية وتصوراتها للذات وللكون وللعالم؛ إنها أعمار نهرية لا تكف عن الجريان، وتُعلن عن وجودها من خلال جوهر الكتابة، لا من خلال أعمار كاتبيها.
على مستوى الأشكال، أبان المنحى المتعدد عن امتدادات متواصلة، ابتداء بالقصيدة العمودية، رغم انحسارها، مرورا بالقصيدة التفعيلية إلى قصيدة النثر، وإن كان الشكل الأخير هو الأكثر تداولا، رغم ما قد يطرحه من إشكالات جوهرية تتعلق باستسهال كتابته، وبإمكانية الوقوع في وهم المُغايَرة من خلاله؛ فالشكل الشعري يبغي أن يتم التعاطي معه بوصفه اختيارا جماليا، وعمقا كتابيا له شعريته الخاصة التي تنسجم مع عمق التجربة، ومع اختياراتها اللغوية والجمالية، ولا ينبغي أن ينحصر في كونه مجرد آلية ووسيلة متاحة. وإذا تتبعنا هذا الراهن بتحولاته الجذرية والعميقة، يستوقفنا تحول الخطاب وآليات الملفوظ اللغوي والاشتغال التخييلي، وأساليب التعاطي الجمالي، إذ لم تعد لغة القصيدة موحدة تنصهر فيها كل التجارب، بل تعددت لتشمل اللغات الأجنبية والعامية والأمازيغية، وما يستتبع ذلك من تعدد ألسني، تتجلى من خلاله التصورات والرؤى، ومن انفتاح واسع للتلقي الشعري يسمح لجمهور القراء بالامتداد والتوسع على السواء، تماما كما يسمح بفتح آفاق التأويل على ممكنات لا محدودة، فضلا عما يمكن أن تفتحه الترجمة من مناطق شعرية جديدة من خلال العبور اللغوي.
أما أساليب الاشتغال الجمالي، فتنم عن ميل جديد نحو التكثيف والاقتصاد والترميز، وأصبحت الكتابة الشذرية اقتناصا جديدا لتلك الالتماعات والإشراقات الجوانية، لاسيما مع تسارع وتيرة الزمن، ومع التحولات الرقمية التي جعلت منصاتها منبرا شعريا جديدا له إمكاناته الزمنية والمكانية المحدودة، والتي تفترض شكلا مخصوصا من أشكال التلقي، وإن كان الشعر يحفظ طاقات تلقيه الجماهيري التي تتناسب مع كل مقام في داخله، وأصبحنا نتابع هذا النزوع إلى التجريب ومحاولة استنبات أشكال شعرية آتية من بيئات مختلفة كقصيدة الهايكو، وأصبحت القصيدة موطنا لتقاطعات نصية يتعالق فيها الشعري بالسردي والدرامي، ليجد القارئ نفسه أمام شعرياتٍ متشابكة تفتح آفاق التأويل على اللانهائي، وتحولت الهموم اليومية والتفاصيل الصغيرة ونوستالجيا الذات في لحظتها الكتابية إلى تجل شعري عميق تكشفه اللغة، وانخرط المُتخيل الشعري في مسار حيوي متشابك.
وعن المنجز الشعري النسائي المغربي، يمكن القول إنه حقق تراكما كميا ونوعيا لافتا، لاسيما في الألفية الثالثة، إذ انخرط في مسار التعدد الذي رسمته شبكة المُتخيلات بعيدا عن كل تحديد نوعي نمطي، وتَحول فعل الكتابة إلى فعل وجود يتخلق عبر اللغة، واستطاعت الذات الشاعرة أن تُسائل هموم الأنثى وتصدعاتها، من خلال تصوراتها للذات وللآخر والعالم، وأصبحت القصيدة وجودا لغويا مضاعفا، تطرح من خلاله الذات أسئلة الكينونة والجسد والكتابة، في ارتباطها بالأسئلة الوجودية الجوهرية. ومن ثمة لم نعد إزاء مُتخيل شعري واحد يسِم هذه الكتابة ويحدد نوعها، لكن بصدد متخيلات لا تكف عن التحول، تبعا لاختلاف تصورات الذات، ونشأت هويات متعددة للجسد بعيدا عن حدوده الفيزيقية، وقريبا من وجوده الرمزي، الذي تبدو من خلاله ملامح الكينونة الأنثوية الجديدة عبر أسطرته والإقامة في غيبته، أو عبر رَوْحنة وجوده المادي، والتخلص من قيده الطيني، أو عبر تثوير بعده الفلسفي والأنطولوجي. وفي علاقتها بالذات والآخر كشفت النصوص الشعرية عن حكاية الأنا المتخيلة وهي تنقل مقول الحياة إلى المقول الشعري، مع تفاوت واضح في الوعي بالمعطى الأوطوبيوغرافي الذي قد تعكسه النصوص، في حين تبدى الآخر/ الغير في علاقته بالأنا الشعري بوصفه وجودا آخر للذات، تنقل من خلاله هواجسها ومخاوفها وخيباتها وأشكال تمردها، وهذا ما يكشف عن تعدد وغنى الأنساق التخيلية، التي تؤثث هذه الكتابة في تحولها العميق، وفي ارتباطها بالأشكال واللغة والرؤى الجوهرانية للقول الشعري.
محمد علوط: سؤال الراهنية
إن المساءلة حول أوضاع الشعر المغربي الراهن، تضعنا في حدي المسافة الملتبسة بين الراهنية كسؤال، والمحلية كسؤال مخصوص بالمتن الشعري المغربي. الواقع، بالنسبة لي شخصيا، أن سؤال الراهنية كف عن أن يكون سؤالا «لحظويا» مخصوصا بالتفكير في حاضر مجرد، فكل راهنية هي تمثل لـ»مآل» يتشكل في السيرورة التخصيبية لأزمنة الشعر المتعددة؛ كما أنه في قلب هذا «المآل» تغير الوعي الشعري الراهن، وصار التفكير بالشعر تفكيرا بنص كوني إنساني خرائطي الانتسابات، تضعف فيه التأويلية المقترنة بتنسيبات المحلية.
الشعرية الجوهرية موضوعها الأنطولوجي هو الإنسان، واستناداتها الجمالية هي الحفر الأستطيقي في مجهول «الغيريات الجمالية» كمرتكزات ليس فقط لقراءة العالم، بل لإعادة تأسيسه.
من جهة أخرى أساسية، فإن التجارب الشعرية الراهنة التي تؤسس لدينامية كتابة شعرية تنتمي إلى مستقبل الشعر، هي التي تحررت من الثقل المرجعي لأقنوم (الحداثة) وطوطم (الأيديولوجيا)؛ فالشعرية الجوهرية موضوعها الأنطولوجي هو الإنسان، واستناداتها الجمالية هي الحفر الأستطيقي في مجهول «الغيريات الجمالية» كمرتكزات ليس فقط لقراءة العالم، بل لإعادة تأسيسه. بالطبع هذا «المآل» الذي نتحدث عنه هو محمول على الماء الكثير الذي جرى تحت جسر القصيدة المغربية، ومنحنا وعيا شعريا مغايرا ببصمة اختلافية تضع القصيدة في صلب تاريخها الإنساني، وفي عمق تجذيراتها الجمالية التي كفتْ عن استعارتها من سلط خارج نصها الكوني الخلاق (الواقع، الدين، التاريخ، السلطة، الأيديولوجيا، إلخ). هذا الوعي الراهن بالشعر كتابة في خرائط الغيريات الجمالية، هو الذي صقل روح القصيدة عند شعراء مغاربة استثنائيين، مثل: محمد السرغيني، ومحمد بنيس، ومحمد بنطلحة، ومحمد الأشعري، وصلاح بوسريف، وعبدالله زريقة، وعبد الكريم الطبال، والمهدي أخريف، وحسن نجمي وأسماء أخرى لا يتسع المجال لذكرها كلها..
ما يمنح لهذه الراهنية خصوصيتها الشعرية المغربية، كونها في اختبار كينونتها الغيرية دشنتْ لمتخيل القصيدة أفقا للتفكير في لاوعي اللغة، واجتراحا لكتابة شعرية لا حدودية تهجس بدينامية الاختراق، سواء في تعالقات الشعر بالمنظومات الغيرية للأجناس الأدبية، ومحو تلك المسافات الوهمية بين الذات والعالم والإنسان والكون، وإعادة تفكيك العلاقات الميتافيزيقية بين الدال والمدلول في تشكلات المعنى والصورة والرمز، والسعي إلى الحفاظ على الجوهري المطلق للشعر في أزمنة الهيمنة الاستبدادية للعلامة الرقمية ومحيطاتها الفاتكة.
كاتب مغربي