يسود الاعتقاد اليوم بأنّ راهن الشعر المغربي هو مقترحات جمالية فردية أكثر منه غنيمة جيل كما حدث في العهود السالفة؛ أي أرخبيلي وخرائطي أكثر منه تجميعيا وطائفيا كيفما اتفق. تجارب شعرية متزامنة وممتدة، فكّتْ ارتباطها بالإحالات المعروفة، وآمنت أكثر بما تضيفه إلى حقل الشعرية المغربية. لابسَ شعراء مثل هذه التجارب نصُّ القلق والعصيان، ونشطت حدوساتهم وتأمّلاتهم النظرية، وأخذ وعيهم بِشَرط كتاباتهم المحسوس والمرئي يتقوّى ويبرز بوضوح، حتى وجدنا عندهم ضروباً متنوعة من الكتابة، التي لا تخضع لقواعد، أو على الأقل تفرض قواعد خاصة بها، تُفجّرها من داخلها، وقد مالت أكثر إلى القِصر والاقتصاد في اللغة، والتكثيف الرمزي – الكنائي لبناء الصورة الشعرية خارج وجوه البلاغة المعهودة، وسعت إلى تشظية وعي الأنا بنفسها وبالعالم، أو الارتقاء به ملحميّاً بشروط كتابية وإحالات معرفية جديدة، بقدر سعيها إلى تشذير البناء النصي وإيلاء الدالّ ـ بمعناه الجمالي والفلسفي، لا اللساني الأجوف – الأسبقية في تشييد مُتخيّلها الشخصي – السير ذاتي وإعادة تسميته في آن.
وإذن، داخل حالة اللااطمئنان وشريعة القلق، يظلُّ الراهن راهناً، والنقد الشعري مُطالَبٌ بتجديد أسئلته لبحث ما فيه اعتبار، هنا والآن.
صلاح بوسريف: في معنى أن يكون الشعر خارج «القصيدة»
ثمة غموض في المشهد الشعري المغربي، مثله في ذلك، مثل المشهد الشعري العربي، في عمومه. عن ماذا سنتحدَّث في الشِّعر، عن أي جيل أو أي سياق، أو أي نسق إذا شئنا. كانت الأمور إلى حدود الجيل الشعري الثالث، أعني جيل الثمانينيات، واضحة، لأن ما كان قبلنا من شعر، كان غارقاً في السياق السياسي، وفي الشفاهية الخطابية، وكان الشِّعْر محكوماً بالصوت، وما زال، ومحكوماً بالغنائية، الصوت الواحد الذي يمتص باقي الأصوات، أو هي من تمتصّه بالأحرى ويجري في مائها، ما جعل تجربة هذين الجيلين، تبقى خارج السياق الفني الجمالي، الذي سنراه يتخلَّق مع جيل الثمانينيات، وتشرع الذات في توسيع مراياها، وفي إحداث الاختراقات، في اعتبار مهمة الشاعر الأولى والأخيرة، هي أن يكون هو نفسه، صوته يجيء منه، لا من خارجه، بكل ما يحتمله من مُضاعفات وأقنعة ورموز ودلالات.
هذا الجيل نفسه، اليوم، حدثت فيه انشقاقات، من حيث هذا المعنى، منه من شُلَّ بالمرة، ولم يعد يضيف شيئاً، ومنه من كان، في أساسه، كما بيَّنْتُ ذلك في كتاباتي النقدية، استمراراً لجيل السبعينيات وما زال، رغم ما نقرأه في ما يكتبه من تنويعات على ترجمات مأخوذة من هنا وهناك. الباقون من هذا الجيل، هم أفراد. انتهينا اليوم، من مفهوم الجيل، وغيره من المفاهيم الأخرى التي يمكن أن نقترحها، وأصبحنا أمام تجارب فردية، معزولة، تعمل في مشغلها الشّعرِيّ، في منأى عن الانتماءات التي باتت غير قادرة على خلق أفق شعري مغاير، أو قابل لأن يكون زُرْقَةً وطريقاً.
ما لم نوازِ الشعري بالنظري، وما لم تصبح المعرفة الشعرية، أو المعرفة بالشعر، يقظة، تفرك عينيها باستمرار حتَّى لا تسرقها غفلة النوم، لا يمكن أن نخرج بالشِّعر من وضع «القصيدة» الذي هو الوضع المهيمن على الكتابة الشعرية في المغرب، وفي العالم العربي.
الأجيال اللاحقة، بدورها، تعيش هذا الوضع، وضع العمل الفردي، أو المشغل المعزول، لذلك، في الأطاريح الجامعية، وفي الكتابات النقدية، أصبحنا نجد مفهوم التجربة، تجربة شاعر، أو تجارب شعراء محدودوين من حيث العدد. الأطاريح والقراءات التي كانت تتوخَّى الصوت الجماعي، والبنيات والقوانين المشتركة، لم تعد تصلح في ما يُكْتَب اليوم، لأن الشِّعْر استقلّ بنفسه، تحرَّر، وشرع، في بعض التجارب المعدودة على رؤوس الأصابع، يتأسس على المعرفة بالشِّعْر، من خلال النظر فيه، ومن خلال تأمله، في علاقته بغيره من الأنواع الكتابية، أو الأساليب وطرق الكتابة، واللغة لم تعد تعبأ بالمسافة بين النثري والشعري، ولم تعد وحدها ما يُحدِّد مفهوم النص، بعكس الخطاب، الذي هو ماض، اللغة هي ما يحكمه، كما أن المفاهيم والتسميات، باتت غير مستقرة على ما أتانا من الماضي، وسلَّمْنا به، بنوع من النسيان؛ أعني، حين النظرية يستغرقها العامّ، والمشترك، والقانون والقاعدة، أو المبتذل، ما ينطق به الجميع. فهي، في مثل هذا الوضع، كما سمَّيْتُها في نقدي للشعرية العربية المعاصرة، تصبح فكراً نائماً.
ما لم نوازِ الشعري بالنظري، وما لم تصبح المعرفة الشعرية، أو المعرفة بالشعر، يقظة، تفرك عينيها باستمرار حتَّى لا تسرقها غفلة النوم، لا يمكن أن نخرج بالشِّعر من وضع «القصيدة» الذي هو الوضع المهيمن على الكتابة الشعرية في المغرب، وفي العالم العربي، وأنا هنا، أميّز بين التجربة الشعرية، والكتابة الشعرية، لأنّ الكتابة الشعرية هي السائدة، أما التجارب فهي معدودة ومعروفة، بما راكمته من أعمال، ومن تصورات حول الشعر ذاته. والفرق بينهما هو أن التجربة تراكم نوعي، والكتابة تراكم كمِّي فقط، ما يزال في حاجة إلى أن نفرزه، لنعرف ما يجري فيه، مثل البستان الذي تغلب فيه الطحالب على الزهر والورد. ما لم نخرج من الشفاهة والإنشاد، ومن الغنائية المفرطة، وما لم نُعِد تسمية الشِّعْر بما يليق به، وما لم نذهب إلى مفهوم العمل الشعرِيّ بمعناه الملحمي المركب، أو الشبكي الخرائطيّ، الذي فيه تتداخل الأصوات والضمائر، ونعود بالسرد إلى أصله الشعرِيّ، كما نراه في الملاحم الأولى والكبرى، وكذلك الحوار. لا نستطيع أن ندخل ما أسميه بحداثة الكتابة، والماضي سيبقى هو ما نستمدّ منه الحداثة، وهذا، في ذاته، عطب في الخيال والعقل الشعرِيَيْن معاً. التجارب التي أحدثت الخرق، هي تجارب تأتي من خارج الكتابات السائدة، تحفر مجراها نحو المستقبل، لأنها أدركت، عربياً، وليس في المغرب فقط، أن قارئها هو غير قارئ «القصيدة» وهو قارئ محكوم بشرطي الدهشة والرعشة والجمال، قارئ مفهومه للشعر يتشكَّل، عنده، إبَّان القراءة والاكتشاف، وفي النص ذاته، وليس بما هو سابق على القراءة والاكتشاف، أو يأتي من خارج النص.
من هنا يأتي التشوُّش الحادث في الكتابات، لأنها لم تعِ التجربة والمشروع الشعرِيّ، كشرط للخروج، ليس من الفكر النائم، بل ومن الشعر النائم أيضاً، وهما سيان.
محمد بودويك: هل في المغرب شعراء؟ وهل عندنا شعر؟
هو سؤالٌ مُلْغِز وملغوم، بيِّنٌ وواضح في الآن نفسه. سؤال مفتوح على المناوشة والمشاكسة، والتشكيك بغاية الدفاع عن ذاك الوجود الفعلي الواقعي أو المفترض؛ لأنّ المسألة، في الأول والأخير، تقوم على الرأي المحسوب، والموقف المتزن، والمقترب العلمي الموصول بالبحث والتنخيل، والمقارنة والموازنة، ووضع المعيار على المعيار: معيار الشعر كما بُنِيَ، سابقا، وَفْقاً لرؤية وتوجُّه وتصوُّر، واستلهام من المتون المدروسة في فترات متفاوتات خاضعة لسؤال الثقافة والفكر واللغة، والدين، وغيرها. وعيار آخر يتمدد ويتجدد حسبان النظر الإبستيمي، والحفر المعرفي، والتحول العرفاني والبرهاني والبياني. ما يعني أنّ الشعر لا يثبت على حال، ولا يظل على سمت بعينه، ولا يستكين إلى بناء وتركيب وتخييل كما قعده آباؤنا الروحيّون، وإلا فقد روحه وجوهره اللذين يقومان، بالأساس، على أرضية عطشى لا تني تبحث عن أمواه وأنساغ، مروراً بالسراب، وأقواس المطر، وعمائم السحب المنذرة بالبروق والرعود.
لقد حسم الغربُ وغير الغرب، الأمرَ، ولم يعد النقد المتابع يثير أهمية الشكل الشعري، الذي صبّ فيه الشاعر شعره، بقدر ما أضحى مهجوساً بما تحقق من شعرية في الشعر، بمنأى عن وزنه العروضي، أو خلوّه منه.
ومن ثمة، يعسر ـ تماما- إطلاق الشعرية في مفهومها الياكوبسوني على نوع مخصوص من الإبداع الشعري، وليكن، مثلا، الشعر العمودي. كما يعسر الكلام عن الشعرية الكامنة والحافة بالشعر التفعيلي دون قصيدة النثر، والعكس بالعكس؛ إذ أنّ الشعرية: الجمرة الملتهبة التي ترمي بشرر، وتتوهج كعين نمر الشاعر (بْلاَيْكْ) في الليل الأليل، توجد حيث يوجد الشعر، أي حيث توجد اللغة مكسوة بريش طائر السيمورغ، وعارية إلا من بياضها الناصع، وسوادها اللاذع. وفي ذلك فليجتهد المجتهدون، وليتَقَصَّ أغوارها – بحثا عما يفتن فيها – النقاد والدارسون. فلا معنى ـ في تقديري ـ للكلام عن شعر يحمل رسالة، عن شعرٍ دَعَويٍّ، فالدَّعَويُّ كالمنظوم سواء بسواء، زادُ الشعر فيه ضئيل إنْ لم يكن معدوماً جملة وتفصيلا. ولا جدوى من وراء الكلام عن شعر موزون ومقفى، يدلُّ على معنى، فهذا النوع من «الشع» أصلح للشعر التعليمي الدّيدَكْتيكي، بل أصبح في خبر كان، ولم يعد دالّا على العصر، وكيف يدلُّ عليه، وهو لا يدلُّ حتى على نفسه بوصفه شعرا؟
الشعر فينا يُطوّر لغته، ويموقع نظامه التلفُّظي المخصوص، ويمتشق جمرته، ويمتطي خياله المتوثب، ويصفق مُترحّلاً من دالّ إلى دالّ، ثم يهدل، أو يعدل، أو يصهل باثّاً لوعته، حزنه وفرحه، دهشته وذهوله، قلقه وطمأنينته، موقعا رقصته الذبيحة، هازّاً أعطافه مُدَوَّراً أو مُشَذَّراً، أو مُسَوَّراً بشوك الورد، ودم السياج.
القوالب قوالب، والشعر شعر، لأنّه اللغة العليا، الشاهقة السامقة، الجارحة والناعمة في آن، الماتعة والساعية إلى رَجِّ أركان النفس والذات والجموع. أما القوالب فهي أردية توضع بعد أن تستوي اللغة شعراً، وتنصهر في أتون الجمال والجلال، وفرن الإبداع والابتداع، وقدسية الملكوت، وطين الناسوت. وعليه، فإن صراع الأشكال الشعرية الثلاثة، واصطفاف الناس بين منتصر لهذا الشكل دون ذاك، ما هو إلا مضيعة للجهد والعقل والقلب والوقت؛ إذ الصراع ينبغي أن ينصب على حضور الشعرية ضمن ذلك الشكل الإيقاعي من عدمه.
لقد حسم الغربُ وغير الغرب، الأمرَ، ولم يعد النقد المتابع يثير أهمية الشكل الشعري، الذي صبّ فيه الشاعر شعره، بقدر ما أضحى مهجوساً بما تحقق من شعرية في الشعر، بمنأى عن وزنه العروضي، أو خلوّه منه. ولا غرو، فإن الشعر موجود في القصائد الشعرية التي نقرأ والتي تغزونا في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي المنابر الصحافية والإلكترونية، وعبر المجاميع الشعرية المطبوعة، لكن بأي نسبة وجرعة ومنسوب؟ ذلكم هو مربط الفرس. وإنّه لسؤالٌ يعيدنا إلى العنوان بداهةً: هل في المغرب شعراء؟ وبالتداعي والتراسل: هل في العالم العربي شعراء؟ وإذا كان الجواب بنعم، فكم عددهم؟ وفي أي حقبة زمنية هم مركونون؟ أفي الستينيات من القرن الفائت؟ أم في السبعينيات، أم في الثمانينيات؟ أم في القرن الحالي، القرن الحادي والعشرين؟
ولنا أن نسارع إلى القول بأن الشعر قليلٌ، والشعراء كثيرٌ. لكننا لا نذهب مذهب الذين يقولون بأن عدد الشعراء في المغرب لا يتعدى العشرة، وفي أحسن الحالات، العشرين، وأنه لا يوجد مئة شاعر في العالم العربي برمته، علماً بأنّ ساكنته تربو على، أو تقترب من 300 مليون عربي؟ وإذن، سيكون صادماً القول إن بلد المليون شاعر الذي هو موريتانيا، ليس سوى سَحْتٍ وَنَحْتٍ وَإفْكٍ، ولربّما نكون أكثر صدقية، وأقرب إلى الواقع، عند توصيف هذا المليون بالناظمين لا الشعراء، ما خلا قلةً معدودةً. ثم ما هو عيار الشعر الذي نميز به الشعر من اللاشعر، ونقيس في ضوئه عدد الشعراء المفترض في بلادنا؟ يصعب الجواب تماماً، غير أنه بمُكْنتنا المجازفة بالقول: نعم، يوجد شعراء في المغرب لا يعلم بعدتهم إلا الله. لكن، هل يوجد شعر بديع، فاتن، جميل، هائل البناء، عميق الفكر الثاوي، رفيع اللغة والصورة والتخييل، في ما نقرأ من شعر ضمن الأشكال الإيقاعية الثلاثة: الخليلية، والتفعيلية، والنثرية؟ وهل دَرَى الشعراء أن الشعر في حدّه الجامعِ، هو مغامرةٌ باللغة في اللغة، ووَعْيٌ بها، ورؤيا تتكئ على ثقافة كثيفة ومُشعّة؟
مرة أخرى، بصيغة أخرى: هل في المغرب شعر؟ ما نوعيته؟ ما إضافاته؟ ما مداه؟ ما أثره وتأثيره؟ هل يُتَلَقَّى التلقي المطلوب والمرغوب والمنشود؟ وكيف السبيل إلى معرفة ذلك؟ عن طريق أيّ استقراء؟ أيّ استبيان؟ أيّ استمزاج للرأي؟
تلك هي الأسئلة الشائكة الكبرى، وذلك هو السؤال الكبير على حد تعبير ويليام شكسبير: that is the question!
يحيى عمارة: في الحاجة إلى نقد فلسفي للشعر
إنّ اهتمام النقد المغربي بالنص الشعري ظلّ ضيق الأفق، نتيجة ضيق بدايته ووسطه، حيث ظل في البداية حبيس التصوُّرين البلاغي والدلالي، بين انزياحات جان كوهن، مُمثّلاً للمدرسة الشعرية البنيوية والبنيات الاجتماعية للوسيان غولدمان مُمثّلاً للمدرسة الأيديولوجية – السياسية، وفي الوسط تهافت على الحداثة في المكونات النصية الجمالية. وهذا إن كان مفيداً في القراءات الجديدة التي تبين استقلالية تبعية النقد المغربي للنقد المشرقي في موضوع الحداثة، فإنّه لم يتمكن من إدماج عنصر المعرفة في مفهوم الحداثة الأدبية، ولم ينظر إلى النص الشعري بوصفه فلسفة وفكراً يحمل مرجعية فلسفية وفكرية تشير إلى قوة حضور البعد المعرفي في النص الشعري، وهو البعد الذي يقدم للإبداع المغربي فلسفته الحضارية والجمالية والتأويلية؛ لأنّ مفهوم الشعر في الحياة المعاصرة لم يعد مُحدّداً في المكونات الجمالية فقط، بل حتى في الأبعاد المعرفية، وفي التفاعل الجديد للكتابة الشعرية مع باقي أصناف الكتابات الإنسانية الأخرى. هناك أمثلة على ما نقول: من عالج هذه الإشكالية في كتاب خاص عند الشعراء المغاربة المفكرين الذين أبدعوا قصائد كونية باللغتين العربية والفرنسية؛ من أمثال: محمد عزيز الحبابي، وعبد الكبير الخطيبي، ومحمد خير الدين، وعبد اللطيف اللعبي وآخرين؟
ومن هذا الباب المفتوح على كنوز التجربة الإنسانية، اكتشف الشاعر المغربي نفسه وموقفه من الحياة والكون والوجود، في محاولة للنهوض من كبواته السابقة، واللحاق بركب الحضارة المتطور بسرعة مذهلة.
في هذا السياق، لم يقدم لنا النقد المغربي المعاصر معا ناقداً متخصّصاً في مشروع نقدي للشعر يجمع بين الشعر والفلسفة، وبين الشعر والفكر مثلما نجد في النقد الشعري الغربي والمشرقي، حيث هناك أمثلة كثيرة يصعب حصرها، نذكر منها غاستون باشلار، وبيير ماشيري، وموريس بلانشو… وفي المشرق عبد الغفار مكاوي. ولعلّ الأمر يعود إلى عدم استطاعة الناقد المغربي للشعر هو الآخر التحرر من مجموعة من الأفكار والتصورات، التي ظلت تتحكم في مكونات المثقف المغربي منذ عهود وعهود، أو ربما كان النقد كذلك ضحية الحصار المؤسساتي والمجتمعي للمشروع الفلسفي الفكري المغربي سنوات الثمانين والتسعين من القرن العشرين. وهنا نطرح السؤال: ألم يتأثر الناقد المغربي بظاهرة حصار الفكر والفلسفة في المعرفة المغربية بكل مراتبها؟ وهنا، يمكن القول إنّ الخطاب النقدي السردي المغربي أحيانا استدرك هذه الثغرة.
ثُمّ إن النقد المغربي في أجوبته عن أسئلة الشعر المغربي سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي قدّم «حكما مجحفا» في حق خصوصيات القصيدة المغربية المعاصرة، حينما ربط التجربة المغربية بالتجربة المشرقية ربطا آليّاً مستنسخاً، ناسياً أو متناسياً أنّ التجربة المغربية في تلك السنوات كانت مُتّسمة بانفتاح الشاعر المغربي على الآداب العالمية، وهذه الخاصية من أهم عناصر التحول الكبير في المسيرة الشعرية المغربية، إن لم يكن أهمّها، وهو عنصر لا يقلل من ميسم الجدة والأصالة.
ومن هذا الباب المفتوح على كنوز التجربة الإنسانية، اكتشف الشاعر المغربي نفسه وموقفه من الحياة والكون والوجود، في محاولة للنهوض من كبواته السابقة، واللحاق بركب الحضارة المتطور بسرعة مذهلة. هذا يلغي مقولة الصوت والصدى التي أغفلت الفهم الصحيح للتأثير والتأثر، وهي المقولة التي عانى منها الشعر المغربي كثيراً وما زال يعاني منها. أما في ما يخص الشعر المغربي الحالي، فإنه يعيش إشكالية البحث عن المختلف في زمن التحولات الكبرى المدهشة التي يشهدها العالم، ونعتقد بأنّ بحثه شرعي، شريطة أن يكون اختلافا أصيلا يراعي السياقات والأنساق التي تترعرع فيها القصيدة المغربية المعاصرة، لأنها مثل باقي قصائد العالم، تتعرض للتحولات والمؤثرات وللهزات نتيجة تغيُّرٍ في بنى المجتمع المغربي، ولاسيما على صعيد الاحتكاك الحضاري – الثقافي في نهج الحياة والنظم السياسية والصراعات الاجتماعية والتحولات المجتمعية الكبرى، بيد أنها على الرغم من هذا وذاك، تظل رفيقة سؤال لا يمكنه أن يكون جديدا أو صحيحا، إلا بالرجوع إلى الأسئلة السابقة عليه؛ بمعنى نريد القول إنّ الشعر المغربي في حاجة إلى طرح فلسفي جديد، لكي يؤكد شرعية البحث عن أفق شعري بديل.
كاتب مغربي
سئمـتُ تحاسُدَ الشعـراءِ حتى
بقيتُ وليسَ لـي مِـنهم حَمِيمُ
قلـيلٌ خـيرُهــم ولـذا تَراهُـــمْ
بوادي الإفـكِ أغـلبُـهـم يَهِــيمُ
سـأترُكُـهُــم بواديهِـمْ وأمضِـي
إلـى مَـن لا يُـرَى فـيهم لَـِئيمُ
إذا الأشعـارُ لم تُكسِبْك خُـلْـقًا
فـأنتَ بـذا عـلى شــرٍّ مُـقِيـمُ
ومَـن كـانــت لــه الآثـامُ دارًا
فسُكــناهُ بأخــراهُ الجَـحـيـمُ