عرفنا الشعر السوداني الحديث من خلال أشعار محمد الفيتوري، الذي قَدّمه لنا بصورة ساطعة ومختلفة عما كُنّا نتلقّاه من شعر عربي، إذ تغنّى فيها بافريقيا والتحم بزنوجتها التحاماً فنّياً، مُتخففاً من صيغ الجزالة والفحولة ومازجا أسلوبه بتعابير ومسكوكات قريبة من جماليات الحياة اليومية، المترعة برائحة الأرض والطين والبشر المُهمّشين. لكنّ هذا الشعر بنمطيه، الفصيح والعامي في آن، يمتدّ منذ دولة الفونج القديمة، مرورا بالعصر التركي والحكم الثنائي والثورات المتعاقبة، ولم يكتب بلغة أخرى غير العربية، بل ينطوي في صميمه على نسيج ثقافي متنوّع يفد إلينا من الحضارات النوبية والمروية القديمة بوجهها الافريقي المشرق، ويتواشج مع فسيفساء من التهويمات والتراتيل الصوفية.
مرّ هذا الشعر في العصر الحديث من المشافهة والترنيم إلى الكتابة، واتشح بمسحة تقليدية؛ دينية صوفية أو واقعية صارخة، تحت ضغط الاحتلال والواقع الاجتماعي المزري، وأحيانا برومانسية وجدانية تحت تأثير مجلة «أبولو» وأدب المهجر، كما في أشعار التجاني يوسف بشير ومحمد أحمد محجوب وغيرهما. وعندما هبّتْ حركة الشعر الحر انخرط فيها شعراؤه المحدثون منذ خمسينيات القرن العشرين؛ من أمثال، محيي الدين فارس، وصلاح أحمد إبراهيم، والنور عثمان أبكر، ومحمد المكي إبراهيم، وتاج السر الحسن، وحسين محمد منصور، ومحمد المهدي مجذوب، وجيلي عبد الرحمن، والهادي آدم، وعبد الله شابو وآخرين. وكانت تصطرع داخل هذا الشعر تيارات شعرية لم تخْلُ من نزعة قومية، افريقانية، أو عروبية أو أقلوية، بسبب وازع هاجس مضمونها الأنثروبولوجي والثقافي الخاص، قبل أن يعمل جيل ما بعد الثمانينيات على تثوير الشكل الفني للقصيدة، وهو ما غنمه تيار قصيدة النثر لاحقا.
كتب الشاعر حمزة الملك طنبل في عشرينيّات ذلك القرن مقالات جُمعت تحت عنوان «الأدب السوداني وما يجب أن يكون عليه» يدعو فيها إلى تثمين الخصوصية السودانية في الشعر، بما تنطوي عليه من بساطة وجمال ومَقْتٍ للتكلُّف بقدر ابتعاده عن تقليد الشعر العربي. كما أنّ مجلة «الفجر» التي صدرت سنة 1934، عملت بدورها على رعاية حركة الشعر ونقده، بيد أن نقد الشعر، بما فيه الأكاديمي، لم يُثمّن هذه الدعوة وظلّ الحلقة الأضعف، في ما هو يدور في فلك المحلية، منتصرا للاتجاه التقليدي، ومنقطعا عما استجدّ في المعرفة بالشعر، ما يجعل المنجز النقدي باهت الحضور وغير مؤثّر في أوساط الشعراء، بل ـ وهذا هو الأدهى – لا يصل بينه وبين قراء العربية خارج السودان بصورة كاشفة، فظلّ ذلك الشعر في حكم المنسيّ والمجهول إلى يومنا هذا.
ابتهال مصطفى تريتر: الحياة الشعرية بين مدّ وجزر
أؤثث حديثي حول الشعر السوداني في محاور محددة، لأضع الوصف في قالب يسهل على المتلقي والمخطط والمنفذ قراءة ما هو بائن وخفي، ولم يزل عندي الشعر السوداني منذ بواكير ما رُصد منه في عام 1504، المرتبط بالسلطنة الزرقاء، وحتى الآن، تلازمه العشوائية في التخطيط المؤسسي، وبروز الحالات الفردية التي لا تخدم خطّاً يرتكز عليه ويُستقرأ ما بعده. سأكتفي براهن الحركة الشعرية في السودان منذ عقود قليلة، على نحو يتيح لنا تشريحاً تعقبه أسئلة واستفسارات.
المشهد السياسي وإسقاطاته:
تلقي السياسة ظلالها دائماً، بل تتحكم في رسم الخريطة الثقافية بشكل كبير، ومع تعاقب الأنظمة التي تخدم خطوطاً وواجهات وأيديولوجيات بعينها، يقف في الضفة الأخرى مشهد موازٍ تحكمه ردة الفعل والاضطراب. ففي العقود الماضية؛ منذ الستينيات من القرن الماضي وحتى التسعينيات، ألقت ثورة أكتوبر/تشرين الأول بظلالها البراقة على الحركة الشعرية، فبرزت أصوات المنادين بالحرية والسلام وقهر الظلم والاستبداد، واكتنزت القصائد بالهُتافيّات التي أخرجت للساحة شعراً موغلاً في النضالية، ومسيطراً على المتلقي شكلاً ومضموناً، وموسوما بالجمالية والغناء الوطني المترف، وهو ما ردّده من بعد ذلك الشعب في ثورات متتالية: محمد المكي إبراهيم، مرسي صالح سراج، هاشم صديق، عبدالمجيد حاج الأمين، محمد عبدالقادر أبو شورة، فضل الله محمد، وغيرهم من الأسماء الكبيرة اللامعة.
ثُمّ أعقبت ذلك ثورة إبريل/نيسان 1985 التي أنضجت التجربة أكثر وجُدِّد فيها العهد للثورة الأدبية (جددناك يا أكتوبر في إبريل) وامتدت في الأسماء ذاتها وزيادة، فتمخض عنها أدب عظيم، وأيقظت الأمة السودانية التي تحمل حقيبتي الأدب والسياسة على جناحين من أمل. وشعراء الثورة هم دائماً الأكثر جماهيرية والأبقى خلوداً، وترتبط بهم حركة المنابر والمنصات لفترات طويلة، ما يجعلهم يستأثرون بالمشهد.
ثم بعد غياب ثلاثين عاماً جاءت ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 التي أشعلت الأقلام جميعها، وألهبت الأشعار الشعبية والفصيحة على حد سواء، وقدمت أنموذجاً رفيعاً، وأضافت إلى أرصدة الشعراء لوناً أُهمل لعقود طويلة، ولا بدّ من الاعتراف بأنّ الشعر الشعبي هو الأعلى كعباً في هذا المحور على امتداد التاريخ السوداني.
في السنوات العشر الأخيرة هنالك التفاتة واضحة للمساحات الممنوحة للشعر في البرمجة العامة لأجهزة الإعلام السوداني، ورغم أنه سلاح ذو حدين إلا أنه استطاع تثبيت مساحة حرة للقصيدة، لكونها جزء لا يتجزأ من وجدان السودانيين.
التيارات والمدارس الشعرية السودانية:
لعل مدرسة (الغابة والصحراء) من أهمّ المدارس السودانية التي نادى بها المؤسس النور عثمان أبكر، والتي تقوم على فكرة التمازج الافريقي العربي، الذي يقع السودان ضمن حزامه الجغرافي والإثني؛ فالغابة رمز الافريقانية، والصحراء رمز العروبة. وقد انضمّ إليها نخبة من الشعراء الكبار: محمد عبد الحي، محمد المكي، عبد الله شابو. ولم تزل مؤثرة حتى عصرنا هذا، وتجسد فترة ازدهار القصيدة السودانية، حيث أجابت عن أسئلة الهوية الملحة ووجدت قبولاً لدى العوام قبل الخواص، ومنهم من وصفها بالتكريس للعرقية على حساب القومية فواجهت الكثير من الانتقادات. ثم مدرسة (أبادماك- رمز كوشي) و(أبولو) و(الحداثة وما بعد الحداثة) وهي كلها مجتمعة تشرب من نيلين يكتنزان بسعة المعرفة والمواكبة، وقبول بعضهم بعضاً مع قليل من الحساسيات التي سيذوّبها المد الزمني بعد حين. فالشكل والمضمون جدل قديم متجدد، والحداثة تستقطب القدر الأكبر من المنضوين تحت لواء الشعر، مستوعبةً متغيراتها البنيوية وفاتحةً الباب لأنماط زاخرة بالمدهش الذي يستحق الوقوف.
كيانات ومواسم:
تتشظّى الكيانات المنظمة للعمل الأدبي في السودان بين اتحاد الكتاب السودانيين والاتحاد العام للأدباء والكتاب السودانيين والاتحاد القومي للأدباء السودانيين، لكن رغم ذلك فالشعر يشهد نهضة حقيقية، والمنتوج الشعري يزداد كثافة وارتباطا بمياهه المحلية والإقليمية، وعضد ذلك وجود الوسائط الإلكترونية التي كسرت حاجز المؤسسات، وصار الشاعر مؤسسة نفسه يصل إلى ما شاء بلا بروتوكولات ولا بيروقراطية.
تغيب المهرجانات والملتقيات وأنهرها موسمية ترتبط ببعض الأشخاص أو المسؤولين وتنقطع عقب خروجهم، وهذا يعري المؤسسة الثقافية ويوضح غياب التخطيط الاستراتيجي والرؤية العامة للإدارة الثقافية. أما بخصوص النشر مع قلة حيلته وهوانه على الدولة، ثم الناشر وأركانه، فقد جعلنا ندور في حلقة مفرغة، والأغلب أن يقع فريسة تصاعد الدولار وتذبذب سوق الورق، ثم يحمل كل هذا على كاهله الكثير من العنت فيضيق ذرعاً. وبذا يغيب كثير من الأقلام، وتصعد أخرى قادرة على إحداث الفارق، ولاسيما من طرف شعراء يحرصون بجهودهم الفردية على خلق مشاريع شعرية.
مبادرات حية:
شكلت بعض المبادرات إضافة للمشهد الشعري، ووضعت يدها على الجرح، كمبادرة الشيخ سلطان القاسمي بتأسيس بيوت الشعر في بعض البلاد العربية، مثل بيت الشعر في الخرطوم، الذي يعتبر نقلة للساحة الشعرية، إذ ينفتح على كل التيارات، ويخدم الفكرة المتكاملة ويضع إحداثياته وفق ما يلائم الوضع في السودان ومحيطيه العربي والافريقي، ثم ينفذ أنشطته من أمسيات ومهرجانات وملتقيات، إلى جانب مشاريع جادة؛ فقد أنجز مشروع جمهرة الشعر السوداني، ونفذ أكبر معجم للشعر الفصيح من 1905 إلى 2000.
وهذا عمل غير مسبوق (بيبلوغرافيا وأنطولوجيا) قطع فيه البيت شوطا بعيدا، وحقق أمنية ظلت تراود الكثير من المؤسسات، التي ابتدأت في تحقيقه لكنها لم تستمر فيه لأسباب مركبة. كما أسس البيت ملتقى لنقد الشعر السوداني ليسدّ فجوة كبيرة، ويحاول مدّ جذور الاجتهادات المشتتة والمنقطعة، التي قادها النقاد على قلتهم في العقود الماضية. وهذه محاولة جيدة لإغناء المشهد ببحوث علمية تخضع للمعايير الصارمة والجادة، وبأقلام نقدية شابة تتطلع لمواكبة حقيقية تخرج بالأدب السوداني من تقوقعه، وتمدّ جسوراً له نحو الآخر، بل أخذ يسهم في التعريف بالشعر والشعراء السودانيين في محافل متعددة ويطبع لعدد منهم. في السنوات العشر الأخيرة هنالك التفاتة واضحة للمساحات الممنوحة للشعر في البرمجة العامة لأجهزة الإعلام السوداني، ورغم أنه سلاح ذو حدين إلا أنه استطاع تثبيت مساحة حرة للقصيدة، لكونها جزء لا يتجزأ من وجدان السودانيين، وتسليطها الضوء على عدد من الشعراء مع اختلاف منتوجهم الإبداعي.
عزالدين ميرغني: العامّي والفصيح
الشعر السوداني يمرُّ الآن بعدة تحوّلات في الشكل والمضمون، لعدة أسباب منها تأثره بالأوضاع والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تحدث في بلادنا وفي العالم العربي من حولنا. فقد ساهم هذا الشعر، خاصة في نصوص الشباب، في الحراك الثوري والسياسي، الذي حدث في بلادنا مؤخّراً وفي ثورة ديسمبر، ولاسيما الشعر المكتوب بالعامية أكثر منه المكتوب بالفصحى، فالشباب يؤثرون الكتابة بالعامية، لسهولة التعبير بها، وسرعة انتشار نصوصها في الوجدان الشعبي السوداني. وقد أدى ذلك إلى بروز اتجاه شعري جديد وسط الشباب يسمى بشعر الدوبيت والمسادير، وهو شعر يعتمد على العامية التي تتداول في الريف البعيد، إلى حدّ أصبح ظاهرة تحتاج لأكثر من دراسة.
لعلّ رسوخ قدم الشعر في تربة السودان، هو ما يجعل منه جنسا أدبيا جديرا بالاهتمام في مسيرة الأدب السوداني، رغم منافسة الرواية له، التي أصبحت بدورها تجذب أدباء الشباب، لكن ما تزال منتديات الشعر تجذب الشعراء والشاعرات، وتجعل منتوجهم يتقدم باستمرار في طور التجديد والتجريب.
هنالك أصوات شعرية جديدة آثرت كتابة الشعر الفصيح المقفى والموزون، وبرزت في المشاركة به في المسابقات الشعرية العربية ووجدت فرصتها في الإعلام العربي المسموع والمشاهد. ومن هؤلاء الشعراء الشباب نذكر الشاعر الشاب الواثق يونس، الذي يمتاز شعره بعمق المعنى وتوظيفه الجيد لتقنية التفعيلة، وقد فاز هذا العام بجائزة الطيب صالح العالمية في قطاع الشعر. كما ظهرت أصوات نسائية شعرية قوية، خاصة بعد عهد التغيير، وهي أصوات قوية تدافع عن أحاسيس وعاطفة المرأة بحرية أكبر مما كان في عهود الثمانينيات وما قبلها، وظهر لهنّ العديد من الدواوين. ومن الشاعرات السودانيات اللائي أصبن شهرة في العالم العربي، وكسرن حاجز الشعر التقليدي، وانطلقن بقوة في بداية التسعينيات، نذكر الشاعرة روضة الحاج التي نالت أكثر من جائزة ونالت أكثر من تكريم في الوطن العربي، ولها عدة دواوين وجدت إقبالاً في داخل وخارج السودان. ويمتاز شعرها بالعاطفة الصادقة والموسيقية العالية، أو ما يسميه النقد الحديث بالصدق العاطفي والصدق الفني. والشاعرة منى حسن الحاج التي شاركت، أكثر من مرة، في برامج إمارة الشعر العربي، وشعرها يمتاز باللغة الفصحى الرصينة، ولها أكثر من ديوان ونصوصها وجدت إقبالاً في منطقة الخليج العربي، ثم الشاعرة ابتهال مصطفى، التي تعمل اليوم نائبة لمدير بيت الشعر في الخرطوم.
لعلّ رسوخ قدم الشعر في تربة السودان، هو ما يجعل منه جنسا أدبيا جديرا بالاهتمام في مسيرة الأدب السوداني، رغم منافسة الرواية له، التي أصبحت بدورها تجذب أدباء الشباب، لكن ما تزال منتديات الشعر تجذب الشعراء والشاعرات، وتجعل منتوجهم يتقدم باستمرار في طور التجديد والتجريب.
عمار شرف الدين: هواجس الراهن بعد «القبضة»
دعني أبدأ حديثي بأنّ الشعر في مجمله يمرُّ بحالة من الازدهار كضرب من الفنون المختلفة، والمتابع للكتابة يعرف ذلك. شيء ما في العالم ينقلب رأساً على عقب، يعود فيه الشعر إلى الظهور بصورة قوية، رغم أن العصر اختلفت أدوات تعبيره، وكثرت. لكن ما فعله الشعر من تحديث على مستوى المضمون والشكل أدّى بدوره إلى تغيير كامل في الحضور والتلقي.
أظنُّ أن ذلك، خلال هذه الفترة وما صادفها من ويلات إنسانية، ومن وباء وحروب، قد زرع في داخل الإنسان مخاوف كثيرة كانت غير متحركة، فانطلق الشعر في ظلال هذه التخمة العاطفية التي ألمّتْ بالإنسان، وهذا يشمل الشعراء والشعر على حد سواء وفي العالم أجمع.
التلاقي الافريقي، غير الجغرافي بالطبع، جعل هناك أثراً واضحاً في التقارب الكتابي مع الأدب الافريقي بشكل خاص، فالسودان بتعدده الثقافي، وبإنسانه المتباين تغلغل في جوهر ثقافته وجدان افريقي أصيل، على مستوى الفنون بأشكالها المتباينة مثل، إيقاعات الموسيقى والرقص، والكتابة بالتأكيد لا تنفصل عن هذه الثقافة.
أما عن المشهد الشعري في السودان فإنّ ثمة ثلاث حالات في منظوري: الشعر في عمومه، والقصيدة على مستويين؛ فعلى مستوى الشكل ما زالت القصيدة هنا عالقة في خدمة الشكل القديم، وهذا – كما أظن – يؤثر في صعوبة تناولها لمقتضيات الحال الإنسانية التي يمرُّ بها الإنسان. إذن فمردُّ ركود الشعر هنا أرجعه إلى عدم كثرة المحاولات الجادة في تكسير جمود الشكل الفني للكتابة، وهذه أحسبها نقطة انطلاق الشاعرية، أي أن تنفكَّ عن كل قيد.
أما على مستوى الحراك الثقافي بشكل عام، فأظنُّ أننا مررنا بمرحلة غياب شبه تامّ له في ظل الديكتاتورية الباطشة طوال ثلاثين عاماً، وبذلك لا أقول إن للدولة سلطة على الفن، لكنه لا محالة سيلقي ظلاله على المشهد الثقافي، ويؤثر في حراكه وفاعليته، وذلك التأثير سيتضمن الشعر بشكل أكبر، رغم حالة التثوير الكبيرة التي مرّ بها الإنسان. وعلى الرغم من أنّ هناك أصواتاً وأشكالاً كتابية جديدة، على قلّتها، تفعل في القصيدة ما يشفع لغيابها، لكن أظن أنها أقلّ مما يمنح الفرصة للفوز بالبروز. من جهة أخرى، فإن الوسائط الإلكترونية ساعدت كثيراً في ردم الهوة، كما حدث في جميع أرجاء العالم، حيث أسهمت بشكل فاعل في نقل وتلاقي الشعر وحداثته، بالإضافة إلى أنها خلقت حالةً دائمة من الكتابة والمكاتبة، الأمر الذي أدى بدوره إلى خلق وجدانٍ كتابي صار، أو كاد أن يكون، سمة جديدة للشعر في هذا العصر، لكن قلة من الشاعرات والشعراء أيضاً، وللأسف، تجدهم في خضم هذا الدفق الكتابي، باتوا على مستوى التحديث مع ما تتناوله قصيدة اليوم من موضوعات.
ومما يجدر التنويه إليه فإن التلاقي الافريقي، غير الجغرافي بالطبع، جعل هناك أثراً واضحاً في التقارب الكتابي مع الأدب الافريقي بشكل خاص، فالسودان بتعدده الثقافي، وبإنسانه المتباين تغلغل في جوهر ثقافته وجدان افريقي أصيل، على مستوى الفنون بأشكالها المتباينة مثل، إيقاعات الموسيقى والرقص، والكتابة بالتأكيد لا تنفصل عن هذه الثقافة، بالإضافة إلى ما تقاسيه هذه المناطق من فقر واحتراب وتدهور اقتصادي، خلق تقارباً كبيراً على مستوى التركيب النفسي للإنسان، وبالتالي على منتوجه العام. لكن كما ذكرت آنفاً، فإن القبضة الرقابية المحكمة، حرمت الكتابة تحديداً من تقارب كان سيكون أكبر مما هو حادث، فعلى مرّ عقود حُرمت المكتبة السودانية من كتابات جاراتها، بل ومن كتابات البلاد ذاتها التي تتناول ما لا ترغب الدولة الباطشة الحديث عنه.
ختاماً، أرى أنّ الراهن الشعري هنا، خاصة عقب التخلص أخيراً من القبضة الحديدية، التي كانت تضغط على عنقه، يحتاج إلى مواكبة أكثر، كما يحتاج إلى مغامرة كبيرة تدع هاجس ما بعد الكتابة ينطلق بعيداً لخدمة الشعر، أقصد هاجس من سيقرؤني.
كاتب مغربي
سئمـتُ تحاسُدَ الشعـراءِ حتى
بقيتُ وليسَ لـي مِـنهم حَمِيمُ
قلـيلٌ خـيرُهــم ولـذا تَراهُـــمْ
بوادي الإفـكِ أغـلبُـهـم يَهِــيمُ
سـأترُكُـهُــم بواديهِـمْ وأمضِـي
إلـى مَـن لا يُـرَى فـيهم لَـِئيمُ
إذا الأشعـارُ لم تُكسِبْك خُـلْـقًا
فـأنتَ بـذا عـلى شــرٍّ مُـقِيـمُ
ومَـن كـانــت لــه الآثـامُ دارًا
فسُكــناهُ بأخــراهُ الجَـحـيـمُ