شعرية الربابة!
ssخيري منصورsssppكلما سمعت أو قرأت ما يقوله بعض الشعراء العرب عن السياسة وشجونها والتعالي الذي توحي به عباراتهم عما يدور في الواقع، خطرت ببالي حكاية للشاعر ستفن سبندر، عن تلك الشاعرة البريطانية الشابة التي عاشت خلال الحرب العالمية الثانية بعيدا عن الأحداث وكانت شديدة التعلق بأبيها الذي قتل في الحرب، فأدركت بعد فوات الأوان أن السياسة تتسرب إلي فراشها وإلي ملح الطعام في بيتها، وأخيرا إلي قلبها رغما عنها، فالأب قتل خلال حرب هي سياسة بأدوات قاتلة!pppوالشاعر العربي المتذرع بما بعد الحداثة شكلا وتماهيا، وتمظهرا سطحيا، لا يعف عن السياسة بسبب ما لديه من فائض الجماليات، أو الانصراف إلي الداخل، حيث يعج باطن الذات وعالمها السفلي بما هو فوق التاريخ وبعيدا عن جاذبية الجغرافيا، وكل ما في الأمر أن السلطة السياسية العربية ومؤسساتها أدركت منذ الدبابة الأولي في الطريق إلي القصر الرئاسي أن هناك شريحة من المثقفين أو المتثاقفين بمعني أدق تلوذ بالهامش، وتتقي به المجابهة مع المتن، فألقت بقطعة حلوي الي الصغير المشاغب كي ينصرف بعيدا عن القاعات وعن كل ما يدور في الغرف المقفلة، حيث تضع قرارات وثيقة الصلة بنسبة البروتين التي يحتاجها الجسد وبعدد السعرات الحرارية اللازمة للتوازن، وأخيرا تتحكم بمنسوب حليب الأطفال وثمن الدواء وأدوات الرسم والورق!من انصرفوا بعيدا عن القاعات، وتقمصوا شعراء وفنانين لا يعرفون عنهم أكثر من بعض الترجمات التي تناولت سيرهم الذاتية وغرائبهم، لا يعلمون الآن بأن الشروط التي تحاصرهم اجتماعيا واقتصاديا هي من صنيعة ساسة استخفوا بهم، وأقصوهم بأرخص الأثمان، خصوصا بعد أن اتضح للنظام السياسي العربي أن التسعيرة التقليدية للمثقفين المعروضين في الواجهات كالأحذية للبيع أو العجلات للإيجار، غير دقيقة، وأن التضخم غيرها، واستبدلها بأجور زهيدة قد يعف عنها حتي هؤلاء الذين أوصاهم الحطيئة بالمسألة فالرجل لم يشعر بأي حرج وهو يقول بأن قصائده هن بناته وينكحهن من يشاء!وقد تكون وظيفة صغيرة في سياق إدارة الثقافة وبيروقراطية مؤسساتها هي العظمة التي يتلهي بها جرو جائع، يدرب علي السباق بأسلوب لا يخطر إلا ببال من استبطنوا الذات المجوفة، بحيث يربط إلي ذراع مروحة خشبية تدور، وتربط قطعة اللحم بذراع مروحة خشبية تدور، وتربط قطعة اللحم بذراع آخر، وتبقي المسافة ثابتة بين الذراعين، وبالتالي بين الجرو واللحم! وهذه خير طريقة لاستحلاب لعاب الجرو حتي آخر قطرة، والحصول علي أعلي منسوب للنباح!أتاح لي عملي وتنوع حقول الكتابة أن أقارن علي نحو مباشر وأحيانا فوري بين مؤتمرات أدبية وندوات فكرية، التباين شديد بين من شاركوا في هذين النمطين من الحوار، وللوهلة الأولي ظننت أن الفارق هو بين الدفاع الذي يمثله المفكرون والقلب الذي يعتمده الأدباء مرجعية وحيدة، لكن هذه القسمة لم تدم غير دقائق، وكان علي أن أكون جيكل وهايد كي أمارس دوري في النشاطين بالحماس ذاته، ويبدو أن الشيزوفرينيا ليست مرضا يصاب به الافراد فقط بل انها تشمل أحيانا مجتمعات برمتها، بحيث ينشطر الخطاب الي مونولوج ليلي طويل وديالوج نهاري متقطع، هذا بالرغم من أن هناك من يصغون إلي مقاطع ليلية في عز الظهيرة، فالنهار للجميع، لكن لكل ساهر ليله الخاص وليلاه التي يعزف لها!ولعلها مناسبة للاعتراف، بل للبوح بأنني أشفقت علي نفسي كثيرا في المرحلة التي كنت فيها أسير ثقافة أدبية رخوة، تتراوح بين الرواية والمسرح والشعر، ففي تلك المرحلة الصفراء لا الزرقاء أو الوردية، كانت السياسة تبدو أشبه بسيرك، اتفرج علي حباله وعلي من يثبون عليها، وأتذكر قصيدة أحبها لأحمد حجازي عن لاعب السيرك، الذي لا يسمح له حتي بخطأ واحد، فهو محكوم إما بالنجاح والتصفيق أو الموت!ولم تكن حكاية ستفن سبندر التي أوردتها عن الفتاة الانكليزية التي فقدت أباها لأسباب سياسية رغم نأيها وتعاليها عن السياسة هي الحكاية الوحيدة التي دفعتني الي اكتشاف الخلل البنيوي في ذهنية تختزل الكون والتاريخ والإنسان إلي بُعد واحد، وأذكر أن عددا من الكتاب في أمريكا اللاتينية ألفوا كتابا مشتركا عن المتغيرات المتوقعة للإنسان في بلادهم إذا تحررت تلك البلاد من الهيمنة الأمريكية، وقد تحدث هؤلاء بالأرقام، عن الأنيميا، ونقص المناعة والأمراض الباطنية التي يصاب بها شعب يعيش علي نفايات ما يتناوله الآخرون.أما الحكاية الثالثة، فكانت من تأليف كاتب آسيوي غير مشهور وهي عن اشكال الأثاث السائد في مجتمع ما، وكذلك العمران لأنهما يصلحان دليلا للتعرف علي المزاج السياسي السائد، الاستدارة ليست كالزوايا الحادة، والبرتقالي ليس كالأسود أو الأصفر، لأن فكرة المائدة المستديرة التي تعود تاريخيا الي الملك آرثر وفرسانه الذين استحقوا المساواة، لها مغزي يتجاوز المصطلح المتداول، وقد أعادني هذا الكاتب المغامر الي المعمار السائد في قريتي، المسجد والسوق والمدرسة والحارات التي تتفرع كالشرايين من الساحة الرئيسية، وسرعان ما اتضح لي أن تضاريس المدن والقري سواء كانت من طراز لندن وباريس أو من طراز أصغر قرية في آسيا هي المعادل المعماري لتضاريس طبقية تحكمها أنماط الانتاج.وحين سمعت من صديق أن منتجي محصول الزيتون في حوض البحر المتوسط هم كثيرو الكلام، ولديهم امتيازات مكتسبة في السرد، استغربت ما سمعت، إلي أن قال صديقي موضحا أن هذا النمط من الانتاج الزراعي يتيح للفلاحين البطالة ثلاثة أرباع السنة، وبالطبع تغير الأمر بعد أن أصبحت الزراعة خاضعة للتكنولوجيا، ولم تعد أسيرة الموسمية!يترتب علي التعالي الأدني عن الثقافة بمختلف مرجعياتها المعرفية، عدة نتائج، منها بل في مقدمتها رخاوة النص، وأفقيته، وبالتالي التحدد الغنائي الذي يحوله إلي عزف علي ربابة أو ناي في أحسن الأحوال، وقد وجدت عن طريق الاستقراء المقصود والمنهجي لكثير من النصوص المنسوبة الي الحداثة مضامين رعوية، وأطلالا ذات أقنعة بلاغية، وباختصار وجدت وعيا سالبا، فإن كان المثقف المتورط بهذه الرؤية الغنائية والأفقية للتاريخ والكون روائيا تحول شخوصه إلي دمي، وأحيانا إلي أبواق تردد صدي صوته، لأنه لا يستطيع تبعا لثقافته أحادية البعد ولغنائيته التي تأسر رؤاه أن يكون أي شخص آخر أثناء الكتابة، وهذا ما أوضحه مبكرا حتي الشعراء الرومانسيون وبالتحديد كيتس عندما قال ان الشاعر هو من يستطيع أن يتحرر من شخصه ليكتب عن إنسان ليس بالضرورة مجرد صورة طبق الأصل له، وبالطبع وجدت هذه الفكرة تطويرا مثيرا لدي ت، إس، اليوت عندما كتب عما أسماه المعادل الموضوعي من خلال قراءته الخاصة والنقدية لمسرحية هاملت.فالحزين شعريا ليس من يصرح بحزنه وكذلك الغريب والفرح، والمندهش، إذ لابد من صور يتشكل منها المعادل الموضوعي لهذه العواطف والانفعالات.وإذا سلمنا بما يقال في العديد من المناسبات عن الأمية الأخري، وهي أمية المتعلمين ومن يتقمصون سمت المثقف، فإن الحاجة تصبح كبيرة لما يمكن تسميته تثقيف المثقف وتعليم المتعلم، لأن التعريف الكلاسيكي للمعلم والمثقف ولد في زمن العثمنة و”سفر برلك”، والكتاتيب!إن أسوأ ما حاصر المصطلحات الحديثة هو الالتباس الناجم عن معانيها المعجمية القديمة بحيث يظن من يقع علي واحد منها أنه يعرفه جيدا، وقد لاحظت أن هناك من يتعاملون مع مصطلح الاقتصاد المعرفي أو الاقتصاد الثقافي أو اقتصاديات الشهرة كما لو أنها أسماء جديدة لمقتنيات قديمة، وحقيقة الأمر أن الحداثة في بعدها الرؤيوي، والمفاهيمي، شكلت انقلابا مبكرا في العالم، وقد يستغرب البعض أن بيان نعيها صدر في برلين عام 1815 كما يقول ماكفرلين مؤلف كتاب الحداثة!ان النصوص الداجنة، والتي تستعيض عن حداثة الرؤي والجوهر بطلاء بلاغي أو بقطع مفتعل لمتواليات تقليدية، قابلة لأن تعاد إلي زمن آخر قبل الزمن الذي كتبت فيه!وقد كتب العرب المعاصرون آلاف القصائد عن السيف في زمن القنابل الذكية، وعن الدروع في زمن الباتريوت وعن الوطن ـ المغمور بالأطلال والأثافي وبعر الآرام في زمن الخرائط الصارمة، والتي رسمت بأسلحة الحروب الحديثة وليس بروث خيول الفاتحين!لهذا لا ندري أحيانا عم يتحدث الشاعر ذو الوتر الواحد؟ عن وطن تاريخي أم عن طلل دارس، وعن حبيبة أم عن كل النساء؟ وإذا كان شاعرنا القديم يستدعي صاحبيه كي يبوح بأشواقه، فإن حفيده الخامس عشر يستدعي قارئا متخيلا وأحيانا يستدعي جمهورا متخيلا، يضبط خطوات رقصة علي ايقاع انفعالاته، ويتضح هذا بشكل بالغ الدقة والتجسد في العلاقة البافلوفية بين القافية والتصفيق، وان كان الجمهور يستبق الشاعر أحيانا لأنه يحزر مسبقا ما الذي سيقوله.ان هذا التعالي عن المعرفة لصالح الارتهان لوادي عبقر الوهمي، جعل الشاعر العربي يرتعد هلعا من أية شوائب ثقافية تعلق بصفة الشاعر المحض، أو الشاعر العاطل عن كل شيء باستثناء الغناء أمام المرايا!0