ليست عملية القراءة وليدة للصدفة، ولهذا فهي ليست لعبة أو سياحة، بل القراءة مشروع ذاتي وتصميم ينبعث من دواعٍ سيكولوجية بالدرجة الأولى، فلا يكتب الإنسان النقدَ إلا راغبا أو راهبا أو حاقدا أو كارها أومتزلفا، فلا قراءة بالمجان أو من مؤشر الفراغ. وتتفاوت المشاريع القرائية بحسب النص المقروء شكلا ومضمونا، فمن يقرأ قصيدة ليس كمن يقرأ ديوانا، ومن يقرأ رواية ليس كمن يقرأ مجموع روايات الكاتب أو روايات المرحلة التاريخية كلها، ومن يتصدى لقراءة قصيدة مكثفة اللغة والصور ليس كمن يقرأ قصيدة أو ديوانا مكشوفا يقترب من التقريرية ودرجة الصفر في الكتابة. فليس حجم العمل الإبداعي هو بالضرورة من يربك خطوات القارئ الناقد، بل طريقة التعامل مع اللغة أداةِ الإبداع ومستوى العمق والرؤية التي ينظر بها المبدع إلى العالم.
كل قراءة تدعي براءتها فقد وقعت في الوهم، ولا نقصد أبدا بغياب البراءة سوء الظن وتبييت الشر والعداء، ولكننا نقصد بذلك أن كل مشروع قراءة مهما ضاق أو اتسع ينطلق من نوايا معينة، ولكننا ندعو دائما إلى تهذيب النوايا وتلطيفها، لأن قراءة الحب الزائد تعطي نقدا تبجيليا بالمعنى الأركوني يسكت عن جوانب التقصير ويخشى إثارة الأسئلة التي هي مراد النقد، وقراءة الوعيد والعداء ستنتج قراءة مبتورة تتحول اللغة النقدية بموجبها إلى جمر ولفح وتضل بالتالي عن غاية النقد المتمثلة في مساءلة العمل بغض النظر عن صاحبه.
إن الناقد برأيي مطالب باستحضار القارئ باستمرار، لأنه في كل الأحوال يكتب له. إنه الوسيط بين العمل الإبداعي والقارئ، العمل الإبداعي المكسو بأردية الغموض والانزياح والتورية والأحابيل اللغوية والفنية وبين القارئ الذي لا ينبغي دائما أن نطمئن إلى إمكاناته الفكرية وأسلحته الثقافية. عندما يغيِّب الناقدُ القارئَ أثناء الكتابة ويكتب لنفسه فقط يقع في النخبوية ويتعالى في بروج وخدور قد تكون دافئة لكنها قد تكون كرتونية لا تصمد أمام النقد الحقيقي الذي يؤسس للحوار والتواصل.
للإبداع الحقيقي جاذبيته، وخصوصا الإبداع الشعري المتميز حيث تتداخل الصورة الشعرية مع المضمون والرؤيا الشعريين من أجل خلق العالم الشعري الذي يذهب بالنفس كل مذهب كما عبر الصوت النقدي القديم. وهذا ما أحسسته وأنا أقرأ ديوان الشاعرة والإعلامية البحرينية بروين حبيب بعنوان ‘ الفراشة’، هذا العالم الفني الباذخ الذي يملك كل خيوط العملية الإبداعية ومقوماتها.
اختارت الشاعرة لديوانها عنوان الفراشة، وهو عنوان ينضح بدلالات ثرة، فالفراشة هي ذلك الكائن الجميل خفيف الظل المزهو بألوانه ورقته وقدرته العجيبة على الرقص بجناحيه وفق هارمونية جمناستيكية بديعة، ترتاد الزهور وترتع في جنباتها دون أن تسيء إليها فلا تكسر أكمامها ولا تدنسها، لكنها رغم الجمال فهي ترمز إلى الهشاشة والضعف لذلك هي رمز شائع ومتواتر في الكتابة الشعرية الحديثة، فدرجة مقاومة الفراشة من أجل البقاء ضعيفة تكاد لا تذكر. الفراشة تتطابق مع نرسيس في الأسطورة اليونانية، فإذا كان نرسيس افتتن بصورته فارتمى في الماء ليقبل وجهه ليلقى حتفه في رحاب الماء، فإن الفراشة بمحض إرادتها تعشق الضوء وتعانقه وتطوف به محدثة طقوسا وشعائر إلى أن تختار الفناء والغرق في ألسنة النار على أن تعود إلى الظلام.
وفق هاته الدلالات التي وفرها العنوان لنا نتقرب من وإلى ديوان الشاعرة. تعترف الشاعرة بامتلاكها غواية الأنثى التعالي والمباهاة والعبادة، تقول في قصيدة ‘أنا الأقحوانة’:
– أنا الوردة العابقة بفكرة الحب.ص76
والحقيقة أن الشاعرة بلعبها الطفولي بالكلمات والمعاني تخفي باستمرار علامات افتتانها بذاتها، فما أن تدخل هيكلها للتملي في قسمات وسمات جمالها حتى تنحت من اللغة ما يعكر شهادتها لتضليل القارئ، لأنها تدرك أن الإقرار بالكمال وقوع في قبضة الموت وأن عبادة الذات خطيئة، تواصل في القصيدة السابقة:
– أنا الوردة العابقة بفكرة الحب
نضرة، وذابلة، ومصوحة الألوان.ص76
وتقول في قصيدة ‘هذا الوجه’:
– ما أن يكتسي بأسراره/هذا الوجه/ما أن يذرف أسراره/عارية/متلألئة/غريبة/حتى يتعاظم فيَّ الشغف/هكذا أدمنت مرآتي أثرك/روحي تنتشي.ص94
أليس هذا مديحا خالصا للذات لولا كلمة ‘تذرف’ التي تحيل إلى الدمع والألم؟ ولكنها تقنية شعرية لتلطِّفَ الطوافَ الطقوسي بالذات وتمنعَ الشاعرةَ من معانقة صورتها أمام الملإ والتماهي الكلي بها.
في قصيدة ‘نحن الثلاثة’ يبلغ التعاظم بالذات مداه، فإذا كان الإنسان يقف أمام المرآة لاستراق النظر إلى صورته أو بعض صورته، فإن بروين تعكس الآية لتجعل نفسها مراد المرآة وطريدتها، تقول بألق شعري:
– المرآة تنظرني/وترسم،/المرآة تقرأني/وتكتب../المرآة لص حائر.ص96
فالمرآة في المقطع هي الفاعل والساعي وراء الفعل الأصل الذي هو الشاعرة (تقرأني، تنظرني)، لتتقمص المرآةُ دور المبدع الحائر، فقد حذفت الشاعرة مفعولي أو مفاعيل الفعلين المتعديين ‘ترسم وتكتب’ لتشقي القارئ وتشركه في البحث عن المعنى المنفلت والهارب والفاتن وتقليب الظنون لتخيل شكل المرسوم والمكتوب. وتتمادى الشاعرة في جَلد المرآة والهزء بها، فحين رقت الشاعرة لها سمحت لها بأن تعكس ظهرها فقط، وكأن المرآة لا تقوى على وجه الشاعرة:
– أعطيت المرآة ظهري
وهنا لم تطق المرآة الصمت والحياد فأفصحت:
– فقالت
أنتِ كهف، والحبيب مسافر نائم في كهف.
وهنا تستنتج الشاعرة أجمل إشراقة شعرية برأيي على الإطلاق في جغرافية الديوان كله. تقول الشاعرة:
– في ملكوت الشوق
أدركت
أخيرا،
أن جسدا واحدا لا يسع الأرض كلها.ص97
تعي الشاعرة تمام الوعي ألا لذة خالصة، وأن الألم والعذاب واللذة والحب والموت كلها أعداء حميمة أو أصدقاء ألِدَّاء، ها هي تتوحد بالفراشة الهشاشة الباحثة عن اللحظة المثالية التي تعانق الرغبة فيها الحتوفَ لتقول:
– مأخوذة بإنهاكة البحار
وصلافة الفراش حول الرغبة/الممات.ص16
وليس موت الفراشة في عسل الضوء موتا مجانيا ولكنه نوم فاتن وانتحار مخطط له. تقول في قصيدة ‘الفراشة’:
– الفراشة تختار جيئتها وذهابها/تختار جناحها/وتختار تخطفها/ لكن الزهرة فتنة الفراشة/والظل ريشتها.ص20
وتقول بكثافة شعرية ثقيلة في قصيدة ‘الوردة النازفة’:
– شغفي وردة تنزف.ص23
وتشعر الشاعرة بهشاشتها كالفراشة وأنها منسية ومتروكة كجثة من صلصال، ولن يعيد لها الحياة ولن ينفخ الروح فيها سوى الرجل الحبيب، تقول في قصيدة ‘المسافرة’:
– امرأة دمية/لوحة في الجدار/هاربة/ورجل يتأمل الشارع الخالي./امرأة في السرير عيناها/من وسن/وقهوتها باردة../امرأة كالجريدة/أخبارها لاهية../لكنها الصباح،يوما،في وردة مهملة../قلبي يعصر روحي/ويتركها باكية.ص24
وتحلي الحبيب بكل صفات البطولة والكمال والفحولة، تقول في قصيدة ‘حب’:
– في صوتك يختبئ البرق/صهيل أخضر يقبل/وحبك السر/حبك الأغنية المفردة/الغيمة لما غمرتني،/الكلمات أنصافا أنصافا هي والوجيب/التماع السر في الموج/فوح الغموض حبك،الزبد.ص83
وتنقاد له انقيادا لأن حضورها بحضوره، ولا تملك سوى سلاح الإغراء والغواية،تقول في قصيدة ‘رهبة الظمأ’:
– منذورة كالتفاحة العصماء/وأنت تقرأ أنوثتي،/ تلتف كاللغز/وأنا فيك ناهلة.ص30
ولا تحب الشاعرة لاقتناص متعة عابرة يتربص الألم بها ويسعى وراءها لتنغيصها وتكديرها، ولكنها تحب لإيجاد هويتها والعثور على كينونتها، تقول في قصيدة ‘أي غاب؟’:
– أحبك
لأكون الزنبقة في وحشة بياضك،
وأحبك لأكون.ص51
ليس الحب عند شاعرتنا مجرد عاطفة سخية أو تجاوب عواطف تسعى إلى التطابق والاتحاد، وليس شعارا يرفعه الجسد للارتواء والانغماس في نزوات سامة، ولكنه قراءة ‘وأنت تقرأ أنوثتي’ ص30، والقراءة فعل الإبداع والخصوبة والإنجاز والعطاء، وهو (الحب) رديف الألم، يستدعيه باستمرار ولا يتخلى عنه أبدا ‘كنا على موعد يتهاوى’ ص32،و ‘نحن الذين يختطفنا الياسمين إلى رذاذ القبور’ ص38، و’أسلمت قلبي لطعنة نار’ ص58، وما النار سوى سرير الفراشة المأمول أو قبرها. والحب فتح وكشف وصناعة للأمل ‘أحملك وأفتح نهار العابرين’ص33، وهو تجربة صوفية ملغومة تتطلب من الذات قدرة خيالية على التضحية والمجاهدة والفيض.
وليس الحب في عرف الشاعرة أمْنًا وسكينة كما هو شائع ‘الحب خوف يتكدس في دفء الدم/سارق يبقى وجهه مشغولا بالسراب’ص107، وهو طريق لاحب باتجاه الموت ‘حبه كان منتهى السوط/وذروة البرق في مقبرة’ص109.
وهو إبداع بقلمين وورقتين ‘هذا الوقت وقتك، كيف أرعد دونك؟’ص41.
عندما يصبح الحب توجسا ولغما وخوفا يخلق علاقة متوترة بالزمن، فإذا كان الزمن لدى العشاق العاديين يتوقف في لحظة الوصال ويتكثف ليصبح الزمن كله، كما قال شوقي (جمع الزمان فكان يوم لقاك)، فإن الزمن لدى بروين حبيب يتجمع لا ليصبح الزمن كله، بل ليصير لحظة مسروقة رجراجة عابرة مثقلة بالخوف سيتولى القدر إطفاءها ونسفها، تقول في قصيدة ‘رفيف’:
– خذ قلبي، وانسج كنزة له
خذ وجهي، وارسم في ليله
واهجع فيَّ حتى يستحيل التماع جسدنا
برهة تنهمر.ص40.
ما استطاعت هاته الورقة العجلى أن تضيء الديوان كله ، فالكثير من المستويات الفنية في ثناياه تستحقق وقفات طويلة كالجوانب الصوتية والصرفية والتركيبة والمعجمية والإيقاعية والدلالية أيضا. وأخيرا نقول إن الشاعرة تملك طاقات فنية عجيبة على اقتناص الرواء الشعري، وعلى النقد الالتفات إليها لينصفها ويرافق إبداعها.