عجيبة هي الأسماء الأعلام كم تحمل في طياتها من قصص وحكايات. قد يقولون إنّها كلمات خاوية بلا معنى إذ هي تسم أو تعيّن لكن لا تعني .. إن أردت أن تفرغ اسما من دلالته صيّره اسما علما تسمّي به شخصا أو مكانا أو علامة تجارية. لمفتاح مثلا في العربية معنى تامّ؛ لكن إن سمّي به شخص فقد هذا المعنى ونُسي تماما. قال بعض الفلاسفة إنّ الاسم العلم يختلف عن الصفات؛ فإذا كانت الصّفات تدلّ على معنى واحد فإنّ الاسم العلم يدلّ دلالة حافّة على حزمة من الصفات التي تعلق به. فلكلّ شخص صفات يعلمها عنه من له به صلة، سواء أكان يعرفه معرفة عيان أم معرفة سماع؛ وحين يذكر العلم فكأنّما ذُكرت صفاته التي تحدّده. حين أقول زيدٌ ويكون زيد كريما صبورا غيورا مثابرا شجاعا – أنا أتفاءل بزيد هذا كثيرا- فإنّني سأختصر في اسمه هذه الصّفات التي في ذهني عنه. يرى كريبكاي في الاسم العلم «معيِّنا صارما» ويعني به كلّ عبارة يمكن أن تعيّن الموضوع نفسه في جميع العوالم الممكنة التي يوجد فيها. فعلى سبيل المثال فإنّ تسمية كالنّعمان بن المنذر هي معيّن صارم فهو يعيّن ولكنّه لا دلالة حافة له؛ هو يعيّن ولا يقول لنا شيئا عمّن يعيّنه. بينما الصفات التي تعيّن هذا الاسم وتدل دلالة حافة على خصائصه من أنّه ملك الحيرة وقاتل سنّمار أو صاحب قصر الخورنق أو محب الزهر، هي في رأيه معيّنات غير صارمة.
لم يقل شعراء الأمس عن أنفسهم إنّهم مثقّفون.. لقد كانوا شعراء يقصدون النعمان بن المنذر ويمدحونه وحين يغضب يقتل حامل الشعر ويعده راية شرّ.
من لا يسمع بالنعمان بن المنذر فاته شيء كثير وهذه فرصة للتدارك.. قلت للتّدارك لا للتّثقيف.. حاشى كاتب هذا المقال أن يرفع لواء تثقيف الناس. الثّقافة حقّ والتثقيف كذبة؛ لا يدّعي الإحاطة بثقافة إلاّ غَرور لأنّ لكلّ منّا شيئا من الثقافة حول موضوع معيّن ولا يوجد شخص أكثر ثقافة من آخر، لأنّ أداة كيل الثّقافة ليست واحدة، ولأنّ مادة الثقافة ليست هي هي عند الناس جميعا، وأنّ الثقافة شيء متطوّر مختلف باختلاف زاوية النظر، ولا يوجد مثقف يحتكر الثقافة فهذه كذبة قديمة ابتدعها أوّل من ابتدعها من قسموا العالم إلى صاحب مال وصاحب ثقافة.. حين ينادي أصحاب المال أصحاب الثقافة يهرعون إليهم بثقافتهم التي قد تكون شعرا في أيّام وقد تكون كتابة وخطابة في أخرى.. يغيّر أهل الثقافة من ثقافتهم حتّى تتناسب وبردة صاحب المال. لم يقل شعراء الأمس عن أنفسهم إنّهم مثقّفون.. لقد كانوا شعراء يقصدون النعمان بن المنذر ويمدحونه وحين يغضب يقتل حامل الشعر ويعده راية شرّ..
من لم يسمع بالنعمان بن المنذر فاته خير كثير لأنّه سيسمع به حين سيعرف شقائق النعمان أو حين سيسمع بالخورنق أو بالمناذرة .. قد لا يسمع بهذه الأشياء البتّة لكنّه بكلّ تأكيد سيسمع بالمثل العربي الذي يردّد في سياقات المكافأة على خير بشرّ، وما أكثر ما تكافئ ثقافتنا عن خير بشرّ. يقول المثل: جُوزي فلان جَزاء سنّمار.. سنّمار هذا هو مهندس بيزنطي قد يكون اسمه بالبيزنطيّة أكثر تعقيدا فبسّطه العرب كعادتهم حين يبسطون لكسل لغوي فيهم لا يختلف عن كسل لهم آخر.. بكاه العرب الذين يبكون حتى على الغرباء وقلما يبكي غريب عليهم.. تقول الأسطورة إنّ سنّمار بنى قصر الخورنق العجيب وقال للنعمان مالكه إنّ في القصر صخرة أو آجرّة يمكن أن تهدم – إن حُرّكت- القصر كله في رمشة عين. الدسيسة أمّارة بالسوء والسوء محيق بأهله هكذا يقولون في هذه الثقافة لذلك قتل النعمان بن المنذر سنّمار.. جزاء سنّمار في المثل ليس لأنّه اعترف ولا لأنّه بنى قصرا على صخرة، أمّ إن حرّكت انهدم.. جزاء سنّمار فيه تعاطف معه: كيف يبني قصرا بهذه المواصفات العجيبة وبدلا من أن يكافأ يقتل. ظلم النعمان بن المنذر المهندس البيزنطي، ولكنّ المهندس ظلم نفسه بأن قال سرّه الذي انتهى بأن يدفن ويدفن معه. خرج السرّ من القبر وذاع وانتشر هكذا هو حال كلّ سرّ.. لكنّ القصر انتهى بالهدم ليس على رأس صاحبه، بل انهدم ككلّ القصور التي يصفّر فيها الريح بين الصّخور وينادي يا حجارة الركن الركين، لكنّ الصخرة لا تعرف أنّها هي مفتاح الانهدام ربما أسقطتها صخرة أخرى لم تكن في نيّة النعمان ولا سنّمار أن تكون هي التي يسقط بسقوطها القصر.
حوّل دم نعيمان إلى زهرة ملطّخة بالدم في مصير يشبه مصير أدونيس الذي مات متأثرا بجراح أصابه بها الخنزير البرّي.
النعمان بن المنذر هذا له صفات كثيرة ككلّ الملوك يهمّنا منها أنّه كان يعشق زهورا ولع بها وحماها وسقاها ورعاها، والغريب أنّها لم تكن تسمّى قبل أن تحمل صفتها منه وقبل أن يمنحها صحبته وبصحبته تسمّت « شقائق النّعمان». تعرف هذه الزهرة باسم علميّ قديم هو Anemonie coronaria في اسمها الأصلي معنى التاج وقد يكون ذلك لشكلها الذي على صورة التاج . بعض الباحثين عن أصل التسمية يردّونها لا إلى النعمان بن المنذر بل إلى تموز إله الخصب البابلي والذي كان اسمه الفينيقي «نعيمان». تحوّل دم نعيمان إلى زهرة ملطّخة بالدم في مصير يشبه مصير أدونيس الذي مات متأثرا بجراح أصابه بها الخنزير البرّي. هذه الأسطورة تجعلنا ننظر إلى اسم النعمان نفسه في سياق توليد للاسم من سياق حضاري آخر؛ فحتى وإن كانت الشقائق شقائق النعمان الملك لا الإله، فإنّ الملك اسمه متولّد من أصل سابق؛ والقول إنّه ملك كان يعرف بشغفه بالزهور لا تعدّ خصيصة له، وإن كانت خصيصة ملكيّة عامّة. القول إنّ هذه الزهرة نبتت على قبره حين داسته الفيلة هي حكاية فيها استرجاع لحكاية الإله نعيمان بشكل فيه نزول إلى البشريّة أو فيها صعود بالنعمان إلى الألوهيّة وبدلا من أن يمــــوت الإله بأنياب خنزير ويتحوّل دمه إلى زهرة مات النعمان، وعلى دمنته مشت أصحاب الأنياب من الفيلة فحزن الورد ونبت على دمنته آسفا حزينا.
لنفترض أنّي التقيت النّعمان اليوم وقلت له يا صاحب الخورنق فسيسعد ولو قلت له يا صاحب سنّمار سيغضب وربّما شعر أنّي أعيّره بقتل مهندسه سيتذكّر أنّه من أصحاب اليومين وسيكون يومي ذاك يوم بأسه وسيقتلني كما قتل ســــنّمار لا كما قـــتل الخنزير أدونيس. أنا لن ينبت على يدي في يوم بأسه أيّ ورد فالورد شقائق للنّعمان لا تنبت إلاّ له أو لمن أراد.. هل يريد النعمان الورد لغيره؟ أنا لست متأكّدا.. أنا متأكّد من أنّه حين سيقتلني في يوم بأسه سيسأل عن اسمي.. اسمي؟ لن يعني له شيئا سيعني فقط لمن أحبّني وللتاريخ.. هكذا تكون الأعلام صفات مجمّعة وتكون معيّنات صارمة وجامدة بينما تكون الصفات خصائص مفردة غير جامدة : ربّما قالت شقائق النعمان يوما ما قاله جيرار كلاين: أنا ليس لي اسم ولمَ يكون لي اسم فأنا فريد؟ أو ربّما قال النعمان هازئا به كما قال فريديريك بايدغير : متى نقرّ لشخص بأنّه ناجح؟ حين يصبح اسمه العلم اسما مشتركا.
٭ أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة