من المستحيل أن يعود العالم إلى سابق عهده بعد جائحة الكورونا بغض النظر عن منشئها ومن يقف وراءها، خاصة وأن هذا الوباء دق ناقوس الخطر لأول مرة في تاريخ البشرية الحديث وأرسل رسائل تحذير للعالم أجمع بأن هذا الفيروس قد يكون مجرد مقبلات لما قد يأتي بعده عاجلاً أو آجلاً بسبب الطبيعة أو تصرفات الإنسان الطائشة والمدمرة، لا بل إن كوفيد 19 نفسه قد يتحور ويتطور لاحقاً في نسخ جديدة لا يمكن التنبؤ بعواقبها. ولا نبالغ إذا قلنا إن علاقات الإنتاج والعمل بالمفهوم الماركسي ستنقلب رأساً على عقب في العالم، ليس فقط تحت ضغط كورونا وتهديده ومخاطره، بل ربما بفضله. بعبارة أخرى قد نقول بعد سنوات وربما بعد أشهر قليلة: لا تكره أمراً لعله خير، فقد يكون هذا الوباء نعمة بقدر ما يكون نقمة، على صعيد العلاقات البشرية ووسائل الإنتاج والإدارة العامة في مختلف القطاعات والمجالات.
ولا شك أن الكثير من الشركات العالمية التي تكبدت خسائر هائلة بسبب الإغلاق ربما ستجني ثماراً عظيمة في المستقبل بفضل كورونا، فقد كشف الإغلاق العام أن هناك العديد من الأنشطة الإنتاجية في العالم كانت عبئاً على الشركات وعلى البيئة والحكومات، وأن هناك الكثير من الأنشطة لا تحتاج إلى بنايات شاهقة وأجهزة ووسائل نقل وتأمينات ومصاريف خيالية، بل يمكن القيام بها من المنازل بنفس النوعية والجودة. وقد لاحظنا أن العديد من النشاطات، باستثناء المجمعات التجارية والاستهلاكية والمصانع، استمرت مع الإغلاق العام وكأن شيئاً لم يحدث. حتى رئيس الوزراء البريطاني واصل عمله وهو معزول صحياً من بيته، وقد استمرت الاجتماعات الرسمية على مستوى الوزارات والمؤسسات وحتى الدول عن بعد بفضل تكنولوجيا الاتصالات الرهيبة التي لولاها لكان تأثير كورونا كارثياً على العالم. لكن بفضل الاتصالات الحديثة ظل الكثير من القطاعات يعمل بيسر وبنفس الأداء من داخل البيوت. وقد كشف ذلك أن ملايين الأبنية على مستوى العالم لا حاجة لها عملياً، وأن نفقات تشغيلها وصيانتها يمكن توفيرها لأغراض أكثر نفعاً للدول والشعوب. كم وفرت الحكومات من الكهرباء والماء والنفط ووسائل النقل بعد أن أصبح العمل من المنازل؟
لا شك أن ملايين السيارات والحافلات ستختفي من الطرق والشوارع. لقد كشف الكورونا أن الكثير من الوزارات والشركات والمؤسسات يمكن أن تُدار من المنازل، خاصة وأن الأعمال الإدارية تخلصت من الورق منذ عقود في بعض البلدان وأصبح كل شيء «مؤتمتاً» عبر أجهزة الكومبيوتر الثابتة والمحمولة وأجهزة الموبايل.
لعل أكثر المستفيدين من تباطؤ حركة البشرية والتباعد الاجتماعي هو كوكب الأرض الذي أوسعه الإنسان تنكيلاً وتخريباً وتدميراً، فجاء الفيروس منقذاً لهذا الكوكب الذي بات الكبار قبل الصغار في العالم يتبارون في إيذائه والإضرار به
يقول أحد أصحاب شركات المحاماة على سبيل المثال إن شركته يعمل فيها مئات المحامين والموظفين وأنه يدفع الملايين سنوياً فقط لاستئجار البنايات والمكاتب، لكن كل الأبنية التي يستأجرها أصبحت خاوية على عروشها الآن، مع ذلك العمل يسير بشكل عادي من البيوت، فما فائدة هذه الأبنية الهائلة إذا كانت الشركة تستطيع أن تواصل أعمالها بعيداً عنها؟ ويضيف بنبرة ساخرة: خسرنا مئات قضايا التحرش التي كانت تحدث في أماكن العمل، ولا بأس ففي ذلك خسارة لنا لكن فيه خير للناس.
هل توقف التعليم المدرسي والجامعي في العالم، أم إنه استمر عن بعد بكفاءة لا بأس بها مطلقاً في البلدان التي تمتلك بنية تحتية الكترونية متطورة. هل يا ترى يجب أن يكون هناك ملايين الأبنية للمدارس والجامعات في العالم مع مصاريفها الخيالية، أم إن وسائل التواصل والاتصالات الحديثة يمكن أن تغير وجه التعليم في العالم إلى الأبد؟ ألا يمكن الآن إنشاء مدارس وحتى جامعات بدون قسم كبير من الأبنية والتجهيزات والمقرات؟ ألا يستطيع المعلم أن يدير صفاً من عشرين طالباً وربما أكثر من خلال تطبيق بسيط على الموبايل، وبدل أن يكون التفاعل والتواصل فيزيائياً داخل غرف المدرسة، يمكن أن يتفاعل الطلاب والمعلم بالصوت والصورة فائقة الدقة عبر الكومبيوتر وحتى الموبايل من بيوتهم؟ وبدل أن ننفق المليارات على بناء المدارس والجامعات تصبح غرفة نوم الطالب قاعة المحاضرات أو غرفة التدريس. أما المكتبات فقد صار الكثير منها موجوداً أصلاً على الانترنت. لا شك أن الجامعات والمدارس بحاجة إلى مختبرات وتجهيزات لا يمكن توفيرها في البيوت. لا بأس يمكن أن تستأجر لها أبنية خاصة، لكن هذه الأبنية ربما ستكلف خمسة بالمائة مما كانت تكلفه المدارس والجامعات التقليدية.
ولا ننسى أن العديد من أجهزة الأمن والشرطة في الغرب تخلت منذ وقت طويل عن وسائل المراقبة التقليدية كسيارات الشرطة ورجال الشرطة والأمن والدوريات وغيرها، وباتت تمتلك مقرات تحت الأرض مجهزة بملايين الكاميرات تراقب كل شاردة وواردة فوق الأرض دون الحاجة لوسائل النقل أو الأفراد. لم تعد بحاجة لترى مئات سيارات الشرطة ولا أفرادها ودورياتها في الشوارع طالما أن الكاميرات تراقب كل شيء بإدارة عدد قليل من الموظفين.
ولعل أكثر المستفيدين من تباطؤ حركة البشرية والتباعد الاجتماعي هو كوكب الأرض الذي أوسعه الإنسان تنكيلاً وتخريباً وتدميراً، فجاء الفيروس منقذاً لهذا الكوكب الذي بات الكبار قبل الصغار في العالم يتبارون في إيذائه والإضرار به. ولا ننسى كيف رفضت أمريكا عدة مرات التوقيع على اتفاقيات المناخ والبيئة، لكنها الآن ستكون بعد كورونا أكثر استعداداً لاحترام الأرض. ألم يصبح الهواء أنقى في كل دول العالم بعد أن خفت حركة السيارات؟ ألا يمكن أن تخف حركة وسائل النقل والتنقل أكثر فأكثر إذا تخلى العالم عن العديد من الأنشطة التقليدية القديمة وراح يمارسها من المنازل؟ ألم يوفر العالم مئات المليارات التي كان ينفقها على وقود السيارات؟
لا نطلب هنا مطلقاً أن ننسى وسائل ومناطق الترفيه كالمنتزهات والمطاعم والنوادي وغيرها، فهذه لا شك ستبقى بمواصفات وشروط جديدة أكثر نفعاً لها ولمرتاديها. لا نطالب طبعاً أن ينحبس الناس في بيوتهم بعد كورونا، لكن الوباء أرشد البشرية إلى العديد من الطرق والوسائل الجديدة لإدارة شؤونها وحياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والانتاجية بسهولة ويسر وتكاليف أقل بآلاف المرات. رب ضارة نافعة. لا تكرهوا أمراً لعله خير.
كاتب واعلامي سوري
[email protected]
مقال رائع شكرا للدكتور فيصل قاسم ودمتم بخير وعافية ان شاء الله
وماذا إذا تعطلت وسائل الاتصالات فجأة أو توقفت اضطراريا ؟ لذلك نتوقع والله اعلم لن يتغير شيء بعد كورونا .
1)- عافانا الله من كورونا وإيجابياتها (؟) .
الجزائر انتقلت ، بين 1900 و 2019 ، من 4,1 مليون إلى 43 مليون نسمة (خمسة وخميسة في عين الحسود) ، بينما فرنسا انتقلت ، في نفس الفترة الزمنية ، من 40,6 مليون إلى 65,1 مليون نسمة .
مصر انتقلت ، بين 1900 إلى 2019 ، من 10 مليون إلى 100 مليون نسمة (خمسة وخميسة في عين الحسود) ، بينما ألمانيا انتقلت ، في نفس الفترة الزمنية ، من 56,5 مليون إلى 83 مليون نسمة .
التكنولوجيات الحديثة ابتكرها الغرب ، قبل كورونا بعقود ، لتعويض اليد العاملة ، المستقرة أو المتناقصة في أغلب بلدانهم ، وكذلك بحثا عن المردودية المطلقة لجمع وتكديس الأموال .
أما البلدان العربية والمسلمة ، حيث “تكاثروا فإني مباه بكم الأمم” ، الذي أدى ومازال إلى الانفجارات الديموغرافية اللا محدودة واللا معقولة بعد تحسن الرعاية الصحية وتطعيم الأطفال فإنها إذا لجأت إلى العمل من داخل البيوت ، بيسر وبنفس الأداء ، في الكثير من القطاعات (التعليم ، التجارة والخدمات الأخرى … ) ، فما هو مصير جيوش العاطلين عن العمل ، وهي التي تشكوا من البطالة أصلا .
2)- الهند بلغت إلى عنان السماء لكن أغلب مواطنيها يعيشون في الحضيض بسبب الديموغرافيا .
أظن أن فكر أمثال هذا المحامي هو الذي أدى إلى الرأسمالية المتوحشة في الغرب ، التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان في أوطاننا بينما تخلت أثناء وباء كورونا ، عن المسنين (من مواطنيهم) وتركتهم يموتون وحيدين في دور العجزة في أوطانها .
رئيس الوزراء البريطاني ترك منصبه بكل بساطة لشخص آخر دون الخوف على ضياعه ثم عاد إليه ووجده كما هو لم يتغير فيه شيء .
هل رئيس الوزراء أو حتى مدير شركة ، في العالم العربي ، يستطيع أن يثق بكل اطمئنان دون الخوف من الانقلابات عليه شخصيا ، أو على ما أنجزه من عمل ، إن ترك منصبه لإنسان آخر ولو كان صديقا ؟ .
لا خير في أي مرض كان . والعواقب سوف تكون كارثية على الدول الغنية والمتطورة وما بالك بالدول الفقيرة والمتخلفة .
ثم لا يجب التهليل لوباء كورونا ، لأنه لو كانت كل الأمور على ما يرام ، في الغرب عامة وفي أمريكا خاصة ، بعد مرور جائحة كورونا ، لما استمر رئيس أمريكا ، وهي أغنى وأقوى دولة في العالم ، في تهديد الصين بالتعويض عن خسائر كورونا ، والسعودية بخفض إنتاج النفط لإنقاذ شركات نفط بلاده من الإفلاس .
فعلاً من وجهة نظري الشخصية كانت هذه الجائحة خير من عدة جوانب منها ماذكر ومنها لم يذكر في هذا المقال الرائع ولكم منا فائق الاحترام والتقدير
يحاول الكاتب جاهداً أن يرسم صورة وردية للعالم بعد كورونا ولكنه في الواقع رسم صورة بالغة التشاؤم من حيث لا يدري ثم يقول لنا في الآخر لا تكرهوا أمراً لعله خير! خير منين ولا كيف ياخوي؟
يزعم الكاتب “إن المستحيل أن يعود العالم إلى سابق عهده بعد جائحة الكورونا”….في حين أن العالم بأسره يؤمن أن إكتشاف لقاح كفيل بعودة الأمور لسابق عهدها
الأكيد أن زمن كرونا أتى بدروس يمكن الإستفادة منها لحماية البيئة، وهي أشياء معروفة أصلا لكنها لم تجرب فعليا إلا في وقت الحجر الصحي,
كم أتمنى أن تعود الأمور لى نصابها. ما احلى ان تخرج من بيتك متوجه إلى العمل وتقضي ثلث يومك فى عمل مثمر وتستمتع بتغير الجو والحديث إلى زملاء العمل وبعد انتهاء العمل تذهب مع الزملاء لشرب القهوه او إلى تمارين رياضيه. اما العمل من البيت فسوف يكون انتحار بطئ او الموت السريع للبعض.
لا أخفيك مع كورونا صرت اسمع صوت زقزقة العصافير في جوار بيتي وحينا….سبحان الله العظيم
تسلم كتير ي دكتور فيصل قاسم علي المنشورك الرائع جدا تسلم علي يدك و عقلك