شكراً للتكنولوجيا (1)… ففي عصر العولمة، تنافس غير مسبوق، تسابق البشرية فيه نفسها، وهي تسعى للحاق بركب التطور التقني الهائل، بينما تعمل في الوقت ذاته لزيادة وتيرة التطور العلمي، لتلبي احتياجاتها؛ فلا هي قادرة على الأولى ولا لطموحها حدود في الثانية. لا شك في أن التكنولوجيا قدمت عظيم الخدمات للبشرية، مستثيرة نهمها للمزيد من التقانة، في ظل التغيرات المتسارعة في مناحي الحياة، وما أدت إليه من تغييرات في الفكر والثقافة والسلوك البشري. وفي ظل الحال الراهنة التي تعيشها البشرية، تحت وطأة وباء عالمي ألقى ظلاله الوخيمة على جزئيات الحياة الإنسانية وأدق تفاصيلها، فقد نقلت جائحة القرن سلوك الإنسان وسماته وفكره وثقافته، من حالة بُنيت وفق نمط تراكمي متدحرج مستقر، إلى نمط سلوكي مختلف، أحدثه زلزال صحي عالمي، تمثل في انفجار فيروسي وبائي تتأرجح أمامه أنظمة ودول العالم المتقدم والنامي على حد سواء، بعد أن تهالكت تحت شدته وسرعة انتشاره جميع مكونات ديمومة الحياة؛ الصحية منها والتعليمية والاقتصادية وكل مكونات تلك الديمومة.
باتت إجراءات العزل بفضل التطورات التكنولوجية، ولاسيما في المدن الكبيرة والأسر الميسورة أمراً سهلاً ومريحاً
كانت الصدمة مع ولادة الوباء، فوقفت كل أمة في بداية أمرها حائرة أمام ما يجري، ثم ما لبثت أن همّت بالنهوض، محاولة استقاء العبر والدروس من التجارب الذاتية وتجارب الغير، مستنهضة كفاءة خبرائها في شتى المجالات، ومستعينة بسواها من الأمم لإيجاد الحلول لحماية ذاتها. وكانت التكنولوجيا المحدثة هي بمثابة المنصة الذهبية لدوام تدفق معظم مكونات الحياة اليومية، وفيها وجدت البشرية أفضل السبل الممكنة لمحاولة التغلب على انتكاسات الأمم في مجالات الحياة المختلفة؛ إذ تسارعت المساعي للبحث عن الحلول الخلاقة للمحافظة على حياة الناس، وتقديم الرعاية الصحية الممكنة وتوفير الخدمات اللازمة لهم من الدواء والغذاء، إضافة إلى الإبقاء على الحدود الممكنة من استمرار التعليم، وإنقاذ عالم الأعمال والاقتصاد من الانهيار الكلي. فقد باتت إجراءات العزل بفضل التطورات التكنولوجية، ولاسيما في المدن الكبيرة والأسر الميسورة أمراً سهلاً ومريحاً، مع إمكانية العمل من المنزل، والحصول على التشخيص الطبي عن بعد، وممارسة الرياضة عبر التطبيقات المختلفة، فردياً أو جماعة عبر الإنترنت، مروراً بوسائل الترفيه بالبث التدفقي والتلفزيون الذكي وباقات الترفيه المحمولة عبر كوابل التلفزيون. والمفارقة أن الكثير من التكنولوجيا التي تتعرض عادة للانتقاد الشديد، أصبحت ملجأ نشعر فيه بالأمان في زمن فيروس كورونا المستجد. وتشهد الخدمات المتوافرة عبر الحوسبة السحابية (كلاود) ارتفاعاً صاروخياً؛ ففي ظل تسجيل الأسواق المالية تراجعاً كبيراً، سطع نجم شركات لم تكن ذات حظوة في العالم الرقمي، منها شركة زووم المتخصصة باستضافة وتنظيم الاجتماعات الرقمية، إضافة إلى تطبيقات شركات البيع الإلكتروني، والتوصيل المؤتمت على اختلافها. وقد سجلت أسهم بعض الشركات العالمية ارتفاعاً مذهلاً من حيث السعر؛ فعلى سبيل المثال، ارتفع سعر سهم شركة زووم بنسبة 40% في فبراير/شباط الماضي، نتيجة الطلب الكبير على تكنولوجيا العمل عن بعد، وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الشركات المتخصصة بالاجتماعات عبر الفيديو. وقد استثارت شهية زووم الوليدة شركات عملاقة أخرى، سارعت لتوفير تطبيقها المماثل لزووم، كشركة فيسبوك وغيرها ممن وفر تطبيقات مماثلة كـ»ويب إكس» و«ويبنار». ولم يقف الأمر عند زووم، بل تعدى ذلك إلى حد تحقيق بعض الشركات العملاقة أرباحا خيالية لم تكن تتوقعها من قبل، إذ تبدو الأرقام واضحة بصورة أذهلت الجميع. لقد أدت الجائحة إلى تسريع العديد من الاتجاهات التكنولوجية الرئيسة للمساهمة في الحد من انتشار الفيروس التاجي، وجعل المجتمع الإنساني أكثر مرونة في مواجهة الوباء، والعديد من التهديدات التي تواجهه في شتى مناحي الحياة، لتلعب التكنولوجيا بذلك دوراً حاسماً في الإبقاء على استمرار الحياة في ظل الإغلاقات والحجر الصحي من جهة، ولتبقى ذات تأثير طويل الأمد على ما بعد تجاوز الوباء. ولذلك، بدأت كبرى شركات التكنولوجيا بالعمل على تطوير العديد من الأدوات التكنولوجية لتتبع الفيروس واستبدال الإنسان بالروبوتات في مهام متعددة وفي جوانب حياتية مختلفة. وعليه فإننا ونحن نقدم شكرنا للعلم والتكنولوجيا، لنؤكد على الرغبة القوية التي سنحاول فيها قريباً استعراض آفاق الحاضر من حيث ما وصلت إليه البشرية، وطموحات المستقبل، وما يمكن أن تؤول إليه حال البشرية والتكنولوجيا في مقبل الاعوام. قريباً في مقالات مقبلة سنعرض القطاعات المختلفة التي كان للتكنولوجيا فضل فيها في أوج معركة كورونا… انتظرونا!
كاتب فلسطيني