من الأخبار اللافتة نهاية الأسبوع الماضي، ذلك الذي ورد على لسان مدّعي عام المحكمة الجنائية الدولية عن طلب بتحريك دعوى قضائية بشأن الأراضي الفلسطينية تلقته المحكمة الجنائية الدولية من كلٍّ من: بنغلاديش وجنوب إفريقيا وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي.
رغم أن الوضع لا يسمح إطلاقا بالهزل، ومع كل الاحترام للجميع، أسمح لنفسي بالقول إن القائمة ينقصها الصومال وهايتي وتيمور الشرقية وبابوا غينيا الجديدة لتكتمل وتحقق هدفها.
هذه القائمة مثيرة للفضول وتدعو للتساؤل لماذا هذه الدول بالذات وليس غيرها من الدول صاحبة الصوت والتأثير. وماذا يجمع هذه الدول الخمس حتى تلتقي حول هذه الفكرة المتقدمة مقارنة بما يفكر فيه باقي العالم.
ليس من الخطأ الجزم بأن هذا الطلب لا يملك أيّ فرصة للمضي قدما، ليس فقط لعجز أصحابه عن التأثير في اتجاه تفعيله، ولكن أيضا لأن الجنائية الدولية تنظر أصلا في طلبات متعلقة بالأراضي الفلسطينية تعود إلى سنوات مضت.
وأكثر من ذلك، المحكمة الجنائية الدولية، مثل كل المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، تُصاب بالشلل ويغمرها العار عندما تكون إسرائيل هي المجرمة.
ثلاث من الدول المذكورة (بنغلاديش وجيبوتي وجزر القمر) لم ترتبط بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ورغم ذلك فغالبا يتضمن طلب الدول الخمس مساواة بين إسرائيل وحركة حماس، ويشدد على التحقيق في ممارسات الإثنتين. لا تستطيع المحكمة الجنائية الدولية التطرق إلى أيّ حرب على غزة (الحالية والحروب التي سبقتها) أو الضفة الغربية دون الزج بالطرف الفلسطيني في الموضوع ومساواته مع إسرائيل. ولو اقتصرت التحقيقات الدولية فقط على ما يُنسب للفلسطينيين لصدرت الأحكام وأوامر القبض منذ سنوات طويلة وقُضي الأمر مثلما فعلوا في حالات أخرى كان المتهم فيها خصما للغرب الاستعماري. «حظ» الفلسطينيين هنا أن إسرائيل لا تعترف بهذه المحكمة بل تحتقرها.
رغم كل هذا هناك دول لا زالت تعلّق الأمل على المحكمة الجنائية الدولية وتنتظر منها شيئا. لكن من سخرية الحال أن الدول التي تحركت هذه المرة هي فقط المذكورة آنفا.
أين الدول العربية؟ والدول الإسلامية؟ أين الدول التي ترفع شعارات حقوق الإنسان والمساواة ورايات تحقيق العدالة في الأرض؟
أين الأثرياء العرب وأموالهم الطائلة وأرصدتهم التي لا تُحصى في كل ربوع الأرض؟ أين الذين زايدوا على القضية الفلسطينية واحتكروها؟ أين المطبّعون وأين الذين سخروا من المطبّعين؟ أين الكل؟ كيف اتفق هؤلاء جميعا على الاختفاء واكتفوا بالتنديد والشجب وكأنهم ناشطون يكتبون على حيطان منصات التواصل الاجتماعي؟
من مزايا الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل وأمريكا على قطاع غزة، إذا كانت لها مزايا، أنها لم تترك أحدا إلا عرَّته. لم يبق أحد مستورا أو يدَّعي الستر
يستطيع العرب الضغط ويمكنهم التحرك بفعالية وقوة على المسرح القضائي الدولي. العرب يملكون الثروة والنفوذ والعلاقات والمعرفة، ومعنيون بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أكثر من بنغلاديش وجيبوتي وبوليفيا، وأكثر من بقية العالم. ويستطيعون تسخير أكبر مكاتب المحاماة والاستشارات وأفضل شركات العلاقات العامة في العالم لتفعيل دعوى قضائية بالشكل الذي يناسب كون إسرائيل ليست عضوا فيها. هناك فرص هائلة لمطاردة قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين وإدانتهم، وليس صحيحا الزعم أن كل شركات العلاقات العامة في أمريكا والغرب حليفة لإسرائيل ومتواطئة معها. يكفي أن ينظر المرء للهبّة الإنسانية في عواصم الغرب ليدرك أن العالم الغربي ليس كله مع إسرائيل، وأن بين مئات الآلاف الذين غمروا الشوارع طيلة الأسابيع الماضية بالضرورة محامين وخبراء قانون ومستشارين في إمكانهم أن يفعلوا شيئا. الاختباء وراء أن إسرائيل ولوبياتها سيطرتا على كل شيء مجرد اختفاء وراء الأصبع للتهرب من المواجهة والمسؤولية.
صحيح أن المحكمة الجنائية الدولية مسيَّسة وموجّهة وخاضعة لضغوط الحكومات الغربية، بدليل أنها تحركت بسرعة البرق في حرب روسيا على أوكرانيا وحددت الجاني وأدانته وأصدرت أمرا بالقضاء على الرئيس بوتين. فعلت كل شيء كما أرادت أوروبا والولايات المتحدة وتعاملت مع تلك الحرب وتجاهلت وجود طرف آخر اسمه أوكرانيا يمتلك ميليشيات لم تقصر في ارتكاب ممارسات لا يوجد أسهل من تصنيفها جرائم حرب ومحاكمة مرتكبيها وفقا لذلك.
كل هذا صحيح… لكن من الخطأ تناسي أن المال والضغط والتهديد عوامل مؤثرة يمتلكها العرب والمسلمون ويستطيعون فرض إرادتهم بها.
هذا من حيث الاستطاعة، لكن المشكلة متوقفة أكثر عند عامل الإرادة، هنا مربط الفرس. القادة العرب مكتوفو الإرادة وليس الأيادي. مشكلتهم ليست فقط أنهم لا يريدون التورط شخصيا وتوريط بلدانهم ومصالحهم الخاصة والعامة في الصراع مع إسرائيل، مشكلتهم أن البعض منهم، خصوصا من انتزعوا القدرة على التأثير في الشأن الإقليمي، شركاء في جريمة سفك دماء أطفال غزة والضفة الغربية.. مرة بالصمت ومرة بالتطبيع ودعم إسرائيل وثالثة بتحميل الضحية مسؤولية سفك دمه.
لو تآمر العرب على إسرائيل مثلما تآمر بعضهم على بعض وحاصر بعضهم البعض الآخر، لكان سكان غزة في راحة وسلام.
لقد زالت الفروق في السنوات القليلة الماضية بين كثير من القادة العرب ونظرائهم البعيدين جدا عن آلام الفلسطينيين. بعضهم يزاود أكثر من بعض الغربيين ويطلق ذبابه يروّج إلى أن الفلسطينيين أضاعوا ما يكفي من الفرص للوصول إلى سلام مع إسرائيل.
العرب الذين منعوا صدور بيان في القمة الأخيرة يحمّل إسرائيل المسؤولية الكاملة، لن يجدوا غضاضة في منع ملاحقتها أمام الجنائية الدولية.
من مزايا الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل وأمريكا على قطاع غزة، إذا كانت لها مزايا، أنها لم تترك أحدا إلا عرَّته. لم يبق أحد مستورا أو يدَّعي الستر. وأول العراة هؤلاء الذين يقودون المنطقة. يكفي المرء أن يتأمل القمة الماضية ونتائجها ليتأكد فعلا أن مَن لم تحركه أهوال غزة لا أمل فيه وشيء سيحركه.
كاتب صحافي جزائري