في واحدة من أكبر الحفلات العامة التي شهدتها لندن، يوم السبت الماضي، احتفالا بمرور 70 عاما على تنصيب إليزابيث الثانية ملكة على المملكة المتحدة ودول الكومنولث، ومن بين المساهمات الغنائية والراقصة ورسائل التهنئة من قبل شخصيات سياسية وثقافية بارزة، كانت هناك رسالة واحدة اختلفت عن البقية، التي ركزت كلها على شكر الملكة لتفانيها في أداء واجبها ولبقائها كـ « أم» راعية على رأس المملكة والكنيسة أطول من أي ملك آخر ورث الحكم.
استغرقت الرسالة بضع دقائق إلا انها كانت مختلفة في مضمونها عن بقية البرنامج الحافل. كان صاحبها سير ديفيد آتينبارا وكانت موجهة، وهنا سبب فرادتها، ليس إلى الملكة لشكرها فحسب، وليس لتسلية أفراد العائلة المالكة الجالسين في الصفوف الأمامية للحفل، وليس إلى المحتفلين بالشوارع المحيطة بقصر الملكة، فقط، بل إلى العالم كله.
تضمنت رسالته تحذيرا عالميا عن مسؤولية الناس في تدمير الأرض. وهي استمرارية لأفلامه الوثائقية التي استهلها عام 1979 في برنامج « الحياة على الأرض» وما تلاه من سلسلة برامج، حملت عناوين مثل « الكوكب الحي» جعل محورها علم البيئة وتكّيف المخلوقات الحية مع بيئاتها. حققت البرامج والأفلام نجاحا كبيرا إذ إستقطبت جمهورا واسعا لم يقتصر على القلة من العلماء والمتابعين، وفتحت الأبواب أمام معرفة جماهيرية أكثر تخصصاً عن الطبيعة مثل حياة النباتات الخاصة وإصدار أفلام عن مناطق قلما تمكن أحد من الاطلاع على مجرى الحياة فيها سابقا. وجاء تحذيره في حفل الملكة تكرارا لما ذكره في خطاب ألقاه أمام مجلس الأمن في الأمم المتحدة أثناء نظر المجلس في المخاطر الأمنية التي تشكلها حالة الطوارئ المناخية، قائلا « بغض النظر عما نفعله الآن، فقد فات الأوان لتجنب تغير المناخ، ومن المؤكد أن الأشخاص الأشد فقرًا وضعفًا – أولئك الذين لديهم أقل مستوى من الأمان – سيعانون الآن». ولم يكتف بذلك، بل عاد الى الثيمة نفسها، عند استلامه جائزة برنامج الأمم المتحدة للبيئة لتفانيه في البحث والتوثيق والدعوة لحماية الطبيعة واستعادتها، تساهم دعوته للحفاظ على التنوع البيولوجي وإصلاحه، والانتقال إلى الطاقة المتجددة، والتخفيف من تغير المناخ وتعزيز النظم الغذائية الغنية بالنباتات في تحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة. مُذكرا بالمسؤولية الدولية، بقوله « على العالم أن يجتمع. هذه المشاكل لا يمكن حلها من قبل أمة واحدة، بغض النظر عن حجم تلك الأمة الواحدة، نحن نعلم ما هي المشاكل ونعرف كيفية حلها. كل ما نفتقر إليه هو العمل الموحد».
لا يمكن، بطبيعة الحال، التقليل من أهمية عمل ديفيد آتينبارا واستمراره بأداء العمل وهو بعمر 96، إلا أن دعوته للعمل الموحد لحل مشاكل البيئة، ينقصها البحث في بعض جذور الكارثة التي قلما يتم التطرق اليها في أمريكا وعموم العالم الغربي مما يعيق تحقيقها.
على العالم أن يجتمع. هذه المشاكل لا يمكن حلها من قبل أمة واحدة، بغض النظر عن حجم تلك الأمة الواحدة، نحن نعلم ما هي المشاكل ونعرف كيفية حلها. كل ما نفتقر إليه هو العمل الموحد
من بين ما يتم التعامي عنه الكوارث التي تسببها الحروب الامبريالية وعسكرة المجتمعات والاستخدام المنهجي للأسلحة وإحتلال البلدان وما يترتب عليه من تدمير للبنية التحتية، بكافة المستويات، وتلويث البيئة وإغتيال العلماء وتهديم المشاريع الوطنية ومنع المبادرات الفردية الحامية للبيئة والإنسان. وهي مسؤولية جسيمة لا يمكن ان تُعزى بأي شكل من الاشكال، كما يُشاع عادة، إلى تخلف العالم الثالث.
ففي فلسطين، مثلا، قام العالم والمؤلف مازن بطرس قُمصية، بتأسيس متحف فلسطين للتاريخ الطبيعي ومعهد فلسطين للتنوع البيولوجي والاستدامة في جامعة بيت لحم، بمبادرة شخصية. ولان قُمصية يعيش يوميات الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، فإنه يُشخص بوضوح أسباب التدهور البيئي، متجنبا الفصل المتعمد، غالبا « ويربط بين الأضرار السابقة والتهديدات الراهنة وطاقات الاستدامة الكامنة، بتأثير السياسات والممارسات الاستعمارية والنيوليبرالية من جهة، ودور الفرد والمجتمع في الحفاظ على الانسجام مع بيئتهم وطبيعتهم، من جهة أخرى». ويذكر قُمصية، في مقابلة صحافية مع صحيفة الاتحاد، أن مشاريع الحفاظ على البيئة والاستدامة مشاريع مقاومة لأنها تساعد في بقاء الإنسان على أرضه « في ظل إصرار الاستعمار الإسرائيلي على اقتلاعنا من أرضنا، وتهويد تراثنا الطبيعي».
وإذا كانت المحافظة على النباتات جزءا لا يتجزأ من ديمومة الحياة على الأرض، كما يُرينا آتينبارا في أفلامه الوثائقية، فإن محاولات علماء النبات بالعراق لتوثيق الموجود منها وتكثيرها وإغناء استخداماتها، واجهت من العوائق ما جعل استمرار العمل، جراء تعرض العلماء أنفسهم للمخاطر، مستحيلا. وهو وجه مُهمل آخر للنظر في سيرورة تدمير الارض.
من بين العلماء الذين خسرهم العراق، في ظل الاحتلال الأنكلو أمريكي، هو عبد الجليل إبراهيم القره غولي، الذي كان يطلق عليه تحببا « الدكتور العّشاب». وقد قام عبد الجليل، خلال فترتي الحرب والحصار وندرة الأدوية االمسموح باستيرادها، بتوثيق النباتات واستخداماتها الطبية. كما افتتح عيادة محلية في عام 1990، ولمدة ست سنوات قام بتوزيع الأدوية العشبية عندما كان المرضى في أمس الحاجة إليها. كانت حصيلة عمله الدؤوب توثيق النباتات الطبية من أرجاء البلاد في ثلاثة مجلدات تحتوي على ثروة من المعلومات عن 834 نباتًا واستخداماتها التقليدية. وتوقف عمله حين قُتل في هجوم إرهابي عام 2009.
إلا أن وثائقه ونتائج بحوثه التي تشكل ثروة معرفية وتراثا ثقافيا، نجت، لحسن حظ العراق والعالم، من التخريب، فقامت إبنته رنا، من متحف تاريخ العلوم بجامعة أكسفورد، بالمحافظة عليها وإصدار نماذج منها في كتاب صدر أخيرا باللغتين العربية والانكليزية بعنوان « عشبة العراق».
قام بتحريره خبراء من جامعة أكسفورد والحدائق النباتية الملكية ( كيو). يصف الكتاب خمسين نباتًا واستخداماتها في طب الأعشاب التقليدي في المنطقة. وبالإضافة إلى ثروة المعلومات، تم توضيح الأعشاب برسوم رائعة الجمال، مما يجعل الكتاب مصدرا ثمينا للمعلومة البيئية ولوحة للجمال. أملا، كما جاء في الكتاب « أن يساعد نشره في الحفاظ على استمرار الطب الإسلامي التقليدي، وأهميته العميقة في علاج الأمراض، في المناطق التي فُقدت فيها معرفة الأجيال بسبب الحرب».
كاتبة من العراق
الطب الحديث يعرف فوائد الأعشاب في العلاج الطبي الآمن,
لكن شركات الأدوية العالمية لا يريدون صنع الدواء منها !
والسؤال هو: من بيده القرار؟ ولا حول ولا قوة الا بالله
تحياتي لك سيدتي الجليله ..دائما مقالاتك ممتعه ومميزه ومعلومات غنيه كافيه ووافيه كما نقول