بعدما استتب الأمر للمماليك في حكم مصر، وبلاد الشام، وغيرها. أخذوا يتصارعون في ما بينهم بشكل دائم، ويقتلون بعضهم. والشعب يتفرج، ولا يكترث بما يحدث، وكأن الأمر لا يعنيه، لا من قريب، ولا من بعيد. فسلطان يذهب، وآخر تتم بيعته، وآخر ينقلبون عليه، فيغتالونه، والناس في عالمهم والمماليك في معمعتهم. فالشعوب كانت تعتبرهم أغرابًا يحكمونهم، وليسوا من أبناء الجلدة، وعندما كانت تشتد المعارك بين قادة المماليك، يعتكف الناس في بيوتهم، ويقفلون على أنفسهم الأبواب، من دون حراك. منتظرين انتهاء الصراع، وجفاف بحار الدماء. فكان يمر عليهم أحيانًا الأسبوع، والأسبوعان، وهم على هذه الحالة. لكي لا يعرضوا أنفسهم للمهانة، وربما للقتل، أو يعرضوا أعراضهم للسبي، وأموالهم للنهب.
نضالات من أجل الحرية والاستقلال
وعندما نطالع هذا الموقف السلبي، من قبل أبناء العروبة حينها، على طول بلادنا وامتدادها، وننظر إلى حالنا اليوم، فإننا لا نجد أن الأمور قد تغيرت كثيرًا، اللهم إلا في مرحلة كانت قصيرةً في حياة شعوبنا وبلادنا، وهي المرحلة التي شهدت نضالات شعوبنا من أجل الحرية والاستقلال. لتعود شعوبنا بعدها إلى سابق عهدها. خصوصًا بعدما أخذت تستيقظ كل يوم على انقلاب باسم الشعب، وتحرير فلسطين، ومن أجل تحقيق الوحدة بين أقطارنا، التي مزقتها سايكس بيكو، وتنام على آخر، تحت المسميات والأهداف نفسها. حتى أصبح الشعب متفرجًا، وإذا ما فكر في لحظة بالتفاعل، طالما أن الانقلابات باسمه، فإنه سريعًا ما يرتد إليه بصره خاسئًا وهو حسير، مصابًا بخيبة أمل، حتى من قبل أن تتحرك قدماه من مكانهما، أو حتى يخرج صوته من فمه. هذا في ما لو وفره القمع والاعتقالات، التي كانوا يقومون بها عقب كل انقلاب. لتأتي علينا مرحلة ابتلينا فيها بحكام، لا يستطيع بعضهم أحيانًا تنظيم السير ومخالفات المرور، وتوفير طريق الأمان للمواطن، فما بالكم بالخطط الخمسية، والعشرية، والميزانيات التي هي عبارة عن كم كبير من الأرقام؟ هذا إذا علمنا أن بعضهم لا يجيد أصلا مبادئ الحساب، ولا حتى الكتابة أحيانًا. ولكنهم يعرفون تمامًا كيف يجمعون الثروات وسرقة، ونهب خيرات الأوطان. ويجيدون قسمتها في ما بينهم. وأما الضرب والإهانة، والقمع، فإنها خاصة بالمواطن المسكين. المغلوب على أمره. عند أول زيارة له لأحد أقسام الشرطة، بسبب همسة، تبعتها وشاية من أحد العبيد. أو من أجل معاملة بسيطة.
وبما أن شعوبنا قد استقالت عن القيام بدورها في تعرية الحكام، وفضح ممارساتهم. فإن المآسي التي تحل بالبلاد منذ عدة عقود، وتتوالى بلا توقف. هي التي أصبحت تقوم بهذا الدور. وتكشف كل مشاريع الساسة، التي قامت في الأساس دون دراسات فعلية معمقة. وصرف عليها أضعاف قيمتها الحقيقية. وكلها إما مشاريع سريعًا ما تتبخر مع الرياح. أو أنها لا تؤدي إلا دورًا شكليا، ينتهي بعد حفل الافتتاح، والصور التذكارية. لكونها عبارة عن « هجص » مع الاعتذار من الراحل توفيق الدقن… مع العلم أن هناك آلاف المشاريع التي وضعت لها الدراسات، وصرفت لها المخصصات، لم تر النور. ولكن رأى الساسة الأفاضل خيراتهًا، أرقامًا تضخمت في حساباتهم المصرفية…!
تهب على الأوطان رياح الأوبئة. فتكتشف شعوبنا أن كثيرًا من المستشفيات بلا تجهيزات أساسية، تمكنها من التصدي للمأساة. وأن المجهزة منها، تعمل بالبركة، وكيفما تسنى للقائمين عليها. وأن عملها هذا سيكون لفترة لن تطول، بسبب عدم صيانة الأجهزة. أو لفقدان قطع الغيار. ويبدأ الصياح عبر الإعلام، عن نقصان الخبرات الطبية اللازمة. بينما تدخل شعوبنا في متاهة الوصفات، التي لا تنفع إلا جيوب بائعي الخضار، والفاكهة، والعطارين. في الوقت الذي يتكدس فيه المواطنون البؤساء، أمام أبواب المستشفيات، بلا شفقة ولا رحمة. أما في حال أمطرت السماء، زيادةً عن النسب المعتادة، تنسد مجارير وقنوات تصريف المياه. ويكتشف المواطنون المظلومون، أن هذه المجارير، لا تصلح لتسليك بول طفل صغير. ويستيقظون في اليوم التالي، والأمطار قد فاضت. ودخلت بيوتهم، ومحلاتهم. وابتلعت سياراتهم، وأرزاقهم، ومزروعاتهم، ومواشيهم… وغرق عشرات البؤساء، الذين ذهبت أرواحهم هدرًا دون حساب، أو عقاب، للمقصرين. ودون مساءلة، لمن كانوا السبب. وتتكرر نفس المأساة في كل مرة تمطر السماء، أكثر من المعتاد، على طول بلادنا وعرضها. والساسة يتعللون بغضب الله، على الشعوب. يدعمهم في حجتهم أئمة المساجد، والوعاظ. الذين لم يحرموا من بعض الدراهم، ذات الرنين. بينما الشعوب تبكي ما فقدت من أرواح وأرزاق…
انكشاف ستر الأنظمة
وعندما تشب الحرائق في الجبال، والغابات. يكتشف المواطن، أن طائرات الإطفاء التي سمع عنها، ورأى في الإعلام صورها الجميلة، بألوانها الزاهية، لم تتحرك من مكانها. لأنها وببساطة، تحتاج إلى قطع غيار. وبلا صيانة منذ أمد طويل. وعندما تقع كارثة في وسائل النقل، ويموت بسببها مئات الضحايا الأبرياء أو تقع انهيارات، وانزلاقات في طبقة التربة، ينتج عنها تهدم للبيوت وابتلاع للأسفلت، الذي سريعًا ما ينسلخ، ويتبعثر كقشر الموز، كونه طبقة رقيقة جدا، وتصبح الطرقات غير صالحة للسير عليها. لتبقى الطرقات التي تركها المستعمر الفرنسي، أو الإنكليزي، أو الإيطالي، على حالها ومنذ عقود وعقود، ويشار إليها بالبنان. ويتبرع عندها خبراء الأمة الاستراتيجيون، الذين يعرفون كل شيء… ويفهمون في كل شيء… بتأدية دور المبرراتية للساسة. ويدفعون الشبه عنهم. ويطهرونهم من الدنس، والآثام. ومن المسؤولية، في معمودية مبنية على الكذب، والتضليل. هذا إذا لم يحملوا المواطن المسكين ببجاحة وعهر، سبب الكارثة.
تتوالى المآسي والشعوب في بلادنا متروكة وحيدة. تصارع بمفردها الكوارث المتعاقبة في حالة من الارتباك لا تحسد عليها. في الوقت الذي ينكشف فيه ستر الأنظمة. وتتعرى حتى من أوراق التوت. أنظمة من المفروض أن تكون هي من يحمي الشعوب، من خلال مشاريعها البنيوية، والإعمارية. ولكنها غدت أكثر ارتباكا من المواطن نفسه، في اتخاذ أي قرار، يخفف من وقع المآسي، والصدمات. وبعض رجالاتها يجلسون يتفرجون من وراء ستار. وينتظرون تدخل القدر، لكي يسقط المسؤولية عن كاهلهم. غير أن شعوبنا اكتشفت ومنذ عقود جبنهم، وخساستهم. وأن المؤسسة الوحيدة في الدولة التي تم بناؤها دون تهاون، وبعناية فائقة، هي المؤسسة الأمنية، والعسكرية. التي تقوم عند الضرورة التي تقررها الأنظمة بدورها، على أتم وجه. وبكافة الوسائل في قمع المواطن، وكتم أنفاسه.
منذ بداية هذا القرن، ومجتمعاتنا تغلي، وتتحرك. وإن هذا الجيل الجديد، عاد عن استقالته. ليطالب بحقوقه الدنيا، والبسيطة، في العيش الكريم، والمواطنة. وإن ارتدادات ثورات ربيعه، ما زالت تتجدد باستمرار، ودون توقف، وبديناميكية تبهر المراقبين. وإن النجاح مرهون بعامل الوقت، الذي يمر مسرعًا لمصلحة هذا الجيل بالدرجة الأولى. جيل أصبح يعرف ألاعيب الساسة، وأساليبهم. إن كان بتفجير الفضائح الأخلاقية. أو المالية المدوية. لكي يغطوا من خلالها على ما ارتكبوه بحق الوطن والمواطن. أو بتسويق الحديث عن نظرية « المؤامرة ». ويعرف أيضًا، أن الصدمات المتواصلة التي يقوم بها لكسر جدران الأنظمة، هي الوسيلة الوحيدة المتاحة للتغيير مرحليًا. طالما أن الأنظمة ودولتها العميقة معقدة البناء والتركيب. ومدعومة من المستعمر القديم والجديد في الخارج. ومن أبناء القبيلة، أو الطائفة في الداخل. وقد يكون الحل السوداني يوما، أحد السبل فيما لو قبلت الأنظمة التنازل عن جزء من مكتسباتها، وقطعة من الكعكة. ولكن لا يبدو ذلك في الأفق إلى الآن. أو قد يكون مطروحًا داخل أروقة الأنظمة نفسها. ولكنه الورقة الأخيرة التي من الممكن أن يضعها ثعالب الحكم والسياسة على الطاولة إذا ما ضاق الخناق حول رقابهم.
كاتب وباحث لبناني