في سنة 2006 أصدرت فرح كريم – كوبر كتابها الأوّل «موادّ التجميل في مسرح شكسبير ودراما عصر النهضة»، فشكّل فاتحة بحثية نوعيّة وخارجة عن المألوف إذا جاز القول، ضمن حقول الدراسات الشكسبيرية المتشابكة المتداخلة. بعد 10 سنوات، سوف تصدر كتابها الثاني «اليد على مسرح شكسبير: الإيماءة واللمسة وعرض تقطيع الأوصال»؛ الذي لم يكن أقلّ انطواء على مباحث مذهلة، متعمقة ومفاجئة، في جوانب شتى تخصّ لغة الجسد والإشارة والملمح في مسرح فريد أصلاً، وبالغ الثراء والاحتواء. وأمّا هذه السنة، فقد شاءت الذهاب إلى حيث يندر أن يتوجه الباحثون في نصوص شكسبير الشعرية والمسرحية؛ أي إلى العرق والعنصرية، البياض والسواد، وعلم اجتماع التمييز على أساس اللون والمحتد، ثمّ قضايا السياسة الاستعمارية في قلب هذه الشبكات، فأصدرت كتابها «الشاعر الكبير الأبيض».
ثمة، في صدد هذه الباحثة تحديداً، بُعد خاصّ لا يصحّ تجاهله، والأحرى التسليم بأنّ قلّة قليلة من المعلقين تقبل إغفاله أو التقليل من قيمته؛ وهو أنها هندية الأصول، آسيوية المحتد و«بُنّية البشرة» كما تصف نفسها، وسط رهط حاشد من دارسي شكسبير الذين ينتمون، بنسبة طاغية تماماً، إلى الغرب الأوروبي والأمريكي، واللون الأبيض ما دام الحديث يخصّ العروق والألوان. ليس هذا فقط، بل هي تعمد في المقدمة إلى التذكير بأنّ ملوّني البشرة بين أساتذة شكسبير في الجامعات البريطانية هم ثلاثة فقط، من جنوب آسيا، وليس بينهم أيّ أستاذ أسود! ذلك لم يمنع أنها اليوم تشغل منصب مديرة التعليم العالي والأبحاث في مسرح «غلوب» الشكسبيري العريق، وأستاذة دراسات شكسبير في كنغز كوليج، لندن؛ وقد أدارت عشرات الندوات والمهرجانات والمؤتمرات التي عُقدت تحت عنوان «شكسبير والعرق» أو «شكسبير ومناهضة العنصرية»، وسبق لها أن خدمت كرئيسة لـ«رابطة شكسبير الأمريكية»
ليس عجيباً، بالتالي، أن العنوان الفرعي لكتابها الأخير يسير هكذا: «كيف يمكن أن نحبّ شكسبير ونناقش العرق في آن معاً»؛ وأنها، منذ السطور الأولى في المقدّمة، تذكّر بأنّ محبة شكسبير تقتضي معرفته: «عند نقطة معينة، يتطلب الحبّ أن نصالح أنفسنا مع النقائص وجوانب القصور، وفي عداد طرائق تفحّص شكسبير أن نحملق في عينيه، وهذا أمر صعب إذا كنّا سنبقيه عائماً مرفوعاً». وكلما سُئلت، من طلابها أو زوّار الـ»غلوب» أو حضور الملتقيات، عن معنى العرق في مسرح شكسبير؛ كانت تحيل السائل إلى خمس مسرحيات على وجه التحديد: «تيتوس أندرونيكس»، «أنتوني وكليوباترا»، «عطيل»، «تاجر البندقية»، و»العاصفة»؛ لأنّ كلّ واحد من هذه الأعمال يلقي الضوء على كيفيات، متقاربة أو متباعدة، تتيح إدراك الأبعاد العنصرية لدى الشاعر والمسرحي الإنكليزي والكوني الكبير.
منظار آسيوي، وربما جاز القول إنه أسمر، ذاك الذي تعتمده كريم – كوبر في قراءة هذه المسرحيات؛ منفردة حيث تحلل مسائل السلطة والعرق والتوسع الإمبراطوري والتمييز الديني وإقصاء الغريب، أو مجتمعة من خلال قواسم مشتركة عديدة على غرار الفصل السادس الذي يتناول شخصية المستوطن الأبيض، أو الفصل الثامن الذي يستعرض الكوميديا المناهضة للسود، فضلاً عن الفصل الثاني الذي يفصّل القول في الاستعراضات ذات الطابع «البربري» الذي تعمّد شكسبير إدخالها هنا وهناك. وهو منظور تبذل الباحثة جهوداً، فريدة حقاً وجديرة بالتقدير العالي، ليس لتثبيت مقوّماته ومناهجه وخلاصاته فحسب؛ بل كذلك ولعله الأهمّ الأجدى، على سبيل مساجلة الأطروحة الأبرز ضمن الثوابت الراسخة في الغالبية الساحقة للدراسات الشكسبيرية: تلك القائلة بأنّ العرق لم يكن موجوداً في زمن شكسبير، ولذلك فالعنصرية لم تكن شائعة أصلاً.
ردّ كريم – كوبر على سجال كهذا يتمثل أوّلاً في سلسلة من عمليات تفكيك مسرحيات شكسبير، التراجيدية منها والكوميدية، وتشخيص أنماط حضور «التشكيل العنصري» عبر السياقات غالباً وليس بالضرورة اعتماداً على توصيف العرق المباشر أو المسمّى. ذلك لأنّ الوسائط التي استخدمها شكسبير للانخراط في مفاهيم العرق كانت أكثر براعة، وخفاء ربما، من أن تلجأ إلى التعبير الصريح؛ فتجلت استطراداً، في الشخصية واللغة والمجاز، وهذه ليست سوى «مداميك البناء في الدراما الشكسبيرية» حسب تعبير الكاتبة.
وكما فعلت في الفصل الأوّل، تشير كريم – كوبر في خاتمة كتابها إلى أنّ بريطانيا رسّخت شكسبير كرمز أيقوني للاستثنائية الإنكليزية، وكعبقرية وطنية وبلدية؛ وقد آن الأوان للتخلي عن هذا التوجّه، الأصعب عند العامة قبل النخبة. وكان صعباً، ربما، أن يعفّ منظارها الآسيوي عن استعادة مناخات شكسبيرية اتكأ عليها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير سنة 2003، ضمن تحضيرات انخراط بريطانيا إلى جانب أمريكا في غزو العراق؛ وكيف جاء الردّ من مسرح الـ»غلوب» تحديداً، بوصفه منصّة سياسية أيضاً، في إنتاج صاعق لمسرحية «ريشارد الثاني» شاركت في إخراجه الممثلة البريطانية السوداء أدجوا أندوه ولعبت دور البطولة. وإلى جانب الدلالات السياسية والحضارية الكثيرة التي حفل بها النصّ الشكسبيري أصلاً، تقصد ذلك العرض التشديد على أفول أمجاد الإمبراطورية.
وتلك، منذ القرن التاسع عشر حين سُمح للملونين بأداء أدوار البيض في مسرحيات شكسبير، كانت برهة فاصلة على طريق محبة سيّد الشعراء والمسرحيين، وفي الآن ذاته تلمّس السياسة العنصرية في بواطن روائعه.