«شكل الماء» للإيطالي أندريا كاميلليري: الحقيقة هي ما يتوقّف عنده آخر الاحتمالات

حجم الخط
0

المكان الفاسد الغريب، الذي تجري فيه وقائع تلك الجريمة، والتحريات التي جرت حولها، طالع من مخيّلة الكاتب الروائي. من الصفحات الأولى نعرف أن ما يكّون ذلك المكان مأخوذ من بقايا مشاهدات فاسدة تجمّعت في مخيلة ذاك الكاتب وذاكرته. حول المنارة المهجورة، التي ترتفع هناك يكدّ النبّاشون، الباحثون عن رزقهم في المخلّفات، ليعثروا على ضالّتهم من قصاصات ورقية وأكياس بلاستيكية وعلب البيرة والكوكاكولا، مرميّة إلى جانب «الخراء المغطّى بطريقة سيّئة أو المتروك للريح». وبين الحين والحين «يظهر واق ذكَري يتيح للمرء التفكير، إن امتلك الرغبة والمخيلة، أن يتصوّر ذلك اللقاء».
ولم يكتف الكاتب بوصف ذاك المكان الذي أنشأه، بل ابتكر له لغة مخاطبة بين الناس جمع أطرافها من لهجات ولغات مختلفة (عَمِل رامي طويل مترجم الرواية إلى العربية على توليفها، في الحوارات على وجه الخصوص). اختراع ذلك العالم بكل مكوناته، بما فيها السياسة والجريمة والفساد المستشري، طلوعا ونزولا، يوحي بأننا نقرأ ما يتعدى الوصف السريع لإطار مكاني تجري فيه رواية بوليسية. في ما سبق كان المكان الموصوف في هذا النوع من الروايات يقتصر، إما على الوصف السريع وإما على ما يختصّ بحاجة الوقائع البوليسية. هنا يوسع الكاتب الإيطالي، الأكثر مبيعا والمترجمة أعماله إلى عشرين لغة، القواعدَ التقليدية للكتابة البوليسية.
في «فيغاتا» وهو الاسم، المخترع أيضا، لتلك البلدة، يسيطر السياسيون والمسؤولون الإداريون ووارثو الثروات على حياة كل من هم تحت رحمتهم. فمنذ البداية نقرأ كيف أن المسّاحَيْن بينو كاتالانو وسارو مونتابيرتو احتاجا إلى توصية من النائب كوسوماتو إلى رئيس العمّال ليعملا، بعقد مؤقت، كجامعي نفايات في منطقة المنارة تلك. أحدهما، وهو، سارو، عثر أثناء عمله على قلادة ذهبية ثمينة، لم يلبث أن دسّها في جيبه. كان تلك بداية البحث البوليسي في الجريمة التي حدثت في ذلك المكان المتطرف السيئ الصيت، الذي وُجدت فيه جثّة مهندس المصنع المتوقف عن العمل. كان الرجل المقتول جالسا وراء مقود سيارته، منحدرا سرواله إلى الأسفل ليكشف عن تلك المنطقة الحساسة من جسمه. السلطة المحلية والأمنية لم تتأخّر في اعتبار الجريمة عملية انتحار، لكن المحقّق مونتالبانو لم يوافق على ذلك. وهو كان يصر على منحه أياما إضافية ليستكمل عمله.
ألمحقّق مونتالبانو، على غرار شخصيات بوليسية شهيرة، هو في العمر الذي يجعله غير بعيد عن الوصول إلى التقاعد المبكر. ومثل قليلين من أمثاله أبطال الروايات يشكو من مرض يجري التلميح إليه في سياق الرواية. وهو عفيف حين تسعى امرأة إلى أن تبيت في منزله، كما أنه لم يستجب للدعوات التي راحت تأتيه من امرأة خمسينية، حرص المؤلف على وصف جمالها وفتنتها الباقيين. في تحرّيه، ومنذ رؤيته جثّة القتيل، أخفى علينا المؤلّف، والمحقّق تاليا، ما الذي يدعو للظنّ بأننا إزاء جريمة قتل. ذاك أن الرواية اعتمدت على الإخفاء الذي سيدخلنا في ذلك النسيج المحبوك من تفاصيل ووقائع وتصارع على النفوذ. وفوق كل ذلك على إدخال شخصيات جديدة وإضافة تفاصيل متشعّبة على المكان الموصوف، وكذلك على واقعة الجريمة التي تلعب دورا مهما خلالها تفاصيل قليلة الشأن، لكن جرى تضخيم وقعها لتشكّل دلالة حاسمة على مجريات الجريمة. من هذه التفاصيل ما اكتشفته زوجة القتيل من أن زوجها كان، وراء مقوده، يرتدي كيلوته مقلوبا، وهذا ما ينبغي لنا، كقراء، أن نأخذ ذلك التفصيل باعتبار كبير. ولنضف إلى ذلك الخيانة الزوجية خفيفة الوقع على ضحيتها وإظهار الشخصيّات على غير ما كانت عليه في التعريف الأوّلي بها.
أندريا كاميلليري أدخل في بناء روايته الاتجاهات الكثيرة للأعمال الروائية على اختلاف أنواعها، فإضافة إلى كل ما ذُكر أعلاه عمد إلى إعطاء الرواية عنوانا هو «شكل الماء» مختصرا به تلك المقولة التي تشير إلى أن الماء يأخذ شكل ما يوضع فيه، أما في ما يخصّ وقائع تلك الجريمة، فإن ما يقلّبنا بين حقيقة وأخرى هو اللقى التي تغيّر على الدوام على الدوام مسرى الجريمة. ذاك أن التحقيق فيها لن يمكث طويلا عند الحقيقة الأخيرة، إذ ستنقلب هذه بعد حين كاشفة عن أن هناك، في الحياة، نهايات محتملة كثيرة، لمسار الحقيقة. وهذا بعد آخر، حِكَمي وفلسفي، تضيفها الرواية إلى توجّهاتها الكثيرة.

«شكل الماء» رواية أندريا كاميلليري نقلها رامي طويل عن الإيطالية لدار الساقي في238 صفحة، لسنة 2024.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية