يبدو رئيس النظام السوري مصمماً على المضي قدماً نحو انتخاباته الرئاسية، ولسان حاله يقول ـ ربما ـ : وهل بوتفليقة والسيسي أحسن مني؟
قد لا يكونان أحسن منه من حيث منطق الحكام المستبدين ومسلكهم، ولكن مؤكد أنهما لم يدمرا بلديهما كما فعل، ولم يتسببا بقتل وإعطاب وأسر وتشريد ملايين من السكان، وهما يسيطران عملياً على كامل الأرض وإن كانت شرعيتهما المجردة مشوبة مثله. حتى في هذه هما في وضع أفضل لأنهما لم يرثا الجمهورية في بلديهما من أبيهما كما فعل. أما من حيث ‘السيادة’ التي يطنب عليها كل يوم، فهو أيضاً خاسر في مضمارها أمام قرينيه.
الانتخابات الرئاسية في الأنظمة الاستبدادية هي دائماً تمديد للحاكم الأزلي. وإذا كان هذا واضحاً في حالة رئيس الكرسي المتحرك في الجزائر الذي جاء به الجيش في أعقاب انقلابه العسكري الدموي في تسعينات القرن الماضي، ناهيكم عن حالة سفّاح دمشق، فالرئاسيات المصرية والتركية لا تختلفان كثيراً. الدكتاتور المصري الذي أحسن معارضوه ‘تكريمه’ بحملة (هاشتاغ) ‘انتخبوا الـ…’ من المحتمل أن ملايين من مؤيديه لا يعرفون حتى اسم عدلي منصور. فإذا حدث وعرفه البعض منهم، عرفوا أكثر صغر حجمه بالقياس إلى ضخامة الكرسي المحجوز لمحبوبهم الذي طالبوه بإكمال جميله. أما الزعيم الكاريزمي التركي الذي وصل إلى السلطة قبل اثني عشر عاماً بآمال عريضة، فهو يحلم اليوم باختتام حياته السياسية على كرسي الرئاسة في قصر تشانكايا كأول رئيس منتخب مباشرةً من الشعب. الرأي العام التركي منشغل بتمامه، هذه الأيام، بمستقبل أردوغان السياسي أكثر من انشغاله بالانتخابات الرئاسية التي يفترض إجراؤها في شهر آب/اغسطس القادم. ذلك أن الرجل الذي حقق إنجازات حقيقية، في فترة حكمه المديدة، في الاقتصاد والسياسة، استهلك في السنة الأخيرة معظم رصيده الإيجابي ومضى في مسالك المستبدين الشرقيين الفاسدين، وقسم المجتمع التركي بصورة حادة من حول شخصه بين مؤيدين ‘شبيحة’ ومعارضين موتورين على المثال السوري الأقرب.
وإذا كان صديقه الأثير في دمشق، طوال سنوات ما قبل القطيعة في 2011، لا تلجمه أي روادع أخلاقية أو وطنية في فعل ما يشاء بما في ذلك استخدام السلاح الكيميائي ضد الشعب السوري، فـ’الطيب’ أردوغان الذي استعاد متأخراً ‘إخوانيته’ في زمن تشرير الإخوان المسلمين وأبلستهم من مصر إلى السعودية، مقيد اليدين والقدمين بنظام ديمقراطي ناجز وإن كان مشوباً بالكثير من العيوب والنواقص. فهو مضطر مثلاً للالتزام بحكم المحكمة الدستورية بشأن بطلان حجبه التعسفي لموقع تويتر، مع أنه قال بصراحة إنه لا يحترم قرارها هذا.
إذا كانت هذه حال الانتخابات الرئاسية المعلنة في أربع دول، فماذا عن أحلام رئاسية لدى معارضين سوريين تعيد تذكيرنا بتلك النبوءة المبكرة المنسوبة للرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي، القائلة إن نصف السوريين يعتقدون أنهم زعماء أو أنبياء؟
لا أحد من المعارضين السوريين يصرح بأحلامه علناً بطبيعة الحال، لكن مؤشرات كثيرة لا تخطئ تخبرنا بطموحاتهم وأحلامهم الجامحة. سأضرب بعض أمثلة ولن أذكر أسماء صريحة لكي لا يعتبر كلامي ردحاً شخصياً بحق أحد. ولا بد من القول، قبل كل شيء، إن الناس أحرار في طموحاتهم السياسية، ومن حق كل سوري، مبدئياً، أن يسعى إلى شغل مناصب عامة بآليات محددة في نظام سياسي مأمول قيامه بعد سقوط النظام الساقط. ولكن بالمقابل لن ينجو معارض يعتقد نفسه زعيماً أو نبياً وتشي أقواله وأفعاله عن طموحات رئاسية في غير أوانها، من سخرية الناس في بيئة مفتوحة من حرية التعبير أتاحتها الثورة السورية لعموم الناس.
أول من يخطر في البال من المعارضين الحالمين بالرئاسة شخصية اكتفت مؤقتاً بـ’رئاسة فخرية’ لأحد أطر المعارضة السياسية بعدما خسر ‘معركة’ جنيف2 بـ’إقصائه’ والإطار السياسي الذي يمثله عنها بقرارات دولية و’تواطؤ’ معارضة ‘الخارج’. في مرحلة سابقة وظروف مختلفة، تداول الإعلام اسمه كرئيس حكومة انتقالية محتمل في ظل رئاسة بشار الأسد. وحين طرح عليه السؤال عن ذلك، في إحدى الصحف العربية الموالية لنظام بشار، لم ينفِ ولم يؤكد، بل اختار جواباً حكيماً ملتبساً عن أن الوقت مبكر على افتراضات مماثلة.
ثاني ‘مرشحي الرئاسة’ الوهميين في المعارضة السورية هو شخص مثقف وذكي بل ألمعي، دأب على إدهاشنا بصدمات قوية في وعينا السياسي وفي حسنا السليم. يتبع في السياسة مبدأ ‘يا لعّيبة يا خرّيبة’ كما يقال في اللهجة السورية، ومعنى العبارة إذا ترجمناها إلى العربية الفصحى: إما أن توافقوا على ضمي إلى الفريق اللاعب، أو أمنعكم من اللعب. مراراً وتكراراً انشق الرجل عن أطر المعارضة السورية، إبان الثورة، وهاجمها بعنف لفظي، ثم سكت بعد ضمه إلى الفريق للتخلص من ابتزازه.
مثالنا الثالث معارض متأخر عالي الصوت والنبرة في الإعلام المرئي ضد النظام، يحذو حذو زميله آنف الذكر في مبدأ ابتزاز الأطر المعارضة، لكنه يختلف عنه في كل شيء آخر. استطاع لفترة طويلة أن يخفي بذكاء أحلامه الرئاسية، وما كان لأحد أن يتخيل أنها تراوده لولا زلة لسان فيسبوكية قاتلة، لا منه بل من زوجته التي نقلت ثرثرات آخر الليل بين زوجين إلى ميادين ‘التواصل الاجتماعي’.
الرابع مثقف مرموق حقاً طالما ألهم بأفكاره مئات السوريين المعارضين منذ السبعينات، وجد نفسه فجأة في موقع رئاسي في معارضة طامحة إلى تمثيل ثورة شعب. رفعت لافتات باسمه في المظاهرات السلمية منذ السنة الأولى للثورة، وقفز رقم المعجبين به من بضع مئات قرأوا كتبه ومقالاته إلى بضع ملايين علقوا عليه آمالاً عريضة. فأسكرته نشوة القيادة السياسية.
أكتفي بهذه الأمثلة من بين عشرات من المحتمل أنهم وعدوا زوجاتهم بلقب ‘السيدة الأولى’ تغزلاً مبكراً في ليالي الضجر.
شهوة الرئاسة في ثقافتنا ظاهرةً كرسها استبداد عمره قرون ودكتاتوريات فظة بدائية استولت على الحكم بعد الاستقلال، وهي ‘سدرة المنتهى’ في شهوة السلطة بصورة أعم وأوسع. وإذا كانت هذه الشهوة لدى الحكام الفعليين مأساة كبيرة، فهي لدى معارضين في زمن ثورة ‘جيولوجية’ كالثورة السورية ملهاة كبيرة.
‘ كاتب سوري