ذهبت ذات مرة إلى مقبرة ‘ أكادير مقورن ‘ ببلدة تكموت ، جنوب المغرب ، لزيارة قبر جدي ، رحمه الله ، فوجدت اسما منقوشا على شاهد قبره هو اسم طبق الأصل للتعريف الذي أحمله في كياني ، كُتب على اللوحة هاتين المفردتين القريبتين والبعيدتين عن الذات في الآن نفسه ‘ ‘ ، ما أصعب أن يجد الإنسان اسمه منقوشا على قبر غيره ! حينها انتابني إحساس غريب لم أكن لأعبر عنه بذلك الإدراك الطفولي ، ما أتذكره في تلك اللحظات هو السؤال عن تلك النسخة الأولية من الاسم التي كانت في عالمنا الذي نحيا فيه ، وتركت من صلبها نسخة أخرى هو هذا الحفيد الذي سَيُحْمَلُ على النعش ذات يوم في مشهد لن يسره ولن يسر حامليه ما لم يترك إنجازا يُتَرَحّمُ عليه في هذه الدنيا ويُجازى عليه في الآخرة . نفس الحكاية وقعت مع روائية فرنسية وكَـتَبـَتْ حولها رواية ، تفسر هذا المشهد ، صاحبة الرواية قالت إنها أصيبت بصدمة عندما وجدت اسمها منقوشا على شاهد قبر سيدة أخرى في إحدى المقابر الكاثوليكية بباريس . هذا المشهد دفعها للتنقيب عن أصول تلك السيدة فوجدت أنها من عائلة أرستقراطية .. بل وَسَّعَتْ دائرة البحث لتشمل أشخاص كثيرين انطلاقا من شاهد قبرهم . وتتحدث الروائية عن حسن حظها لوجود جَوّ من حرية البحث العلمي مَكّنَهَا من سبر أغوار كثير من العائلات الأرستقراطية التي ُيضرب إلى وقت قريب حولها أسوار من التعتيم والكولسة فيما يخص حياة أفرادها ما داموا يستحوذون على النصيب الأكبر من ثروات بلادهم ويؤثرون في الكثير من الوقائع التي تشهدها أوطانهم إنْ سلبا أو إيجابا . وهنا أتساءل : هل يستطيع أحدنا أن يسأل عائلة الملك محمد الخامس ، رحمه الله ، عن حياته انطلاقا من شاهد قبره ؟ .. واقع البحث العلمي بالمغرب كفيل بالإجابة عن هذا السؤال . سُئلت الصديقة الفرنسية : وماذا تتمنين أن يكتب على شاهد قبرك ؟ أجابت بكل تواضع وثقة في النفس ‘ أتمنى أن يكتب على شاهد قبري أني لم أُضَيّعْ وقتي يوما .. ‘ ، آهٍ لو تذكر المسلمون قول النبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام ‘ نعمتان مغبون فيهما كل مؤمن : الصحة والفراغ ‘ ، آهٍ لو تذكروا نَصِيحَتَهُ باغتنام خَمْسٍ قبل خَمْس ، ومن بينها الحياة قبل الموت .. لكن ‘ نحلة الغالب ‘ بتعبير ابن خلدون ، دفعتنا للتفريط في كنوز تراثنا الإسلامي . ويُفهم من كلام صديقتنا الفرنسية أن الإنسان الذي سيعيش لحظة الموت الحتمي ، حيث لن يبقى في هذا العالَم سوى وجه ربنا ذو الجلال والإكرام ، عليه أن يغتنم أوقاته كلها فيما يفيده ويفيد به غيره ، ولأن هذا الحيز الزمني مضبوط فإنه في نفس الوقت فرصة لاستنفاذ جميع الطاقات الكامنة في كياننا الذاتي والجماعي .. رحم الله الخليفة الراشدي ، عمر بن الخطاب ، حين قال ‘ اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ‘ . ولكن ، كيف يمكن للإنسان أن يستنفذ جهده في الحياة ومشهد القبر ولحظة النهاية الحتمية ماثلة بين عينه ؟ لماذا لا أستنفذ أوقاتي في ‘ مشاهدة التلفزيون ، التواصل عبر الإنترنيت ، الجلوس في المقاهي ، ارتياد مطاعم الوجبات السريعة ، ارتياد الحانات ونوادي الرقص ، التفرج في إحدى الفعاليات الرياضية .. ؟ ‘ ، كما سيدعي بعض الميسورين عندنا ، هنا تجيب الصديقة الفرنسية ‘ مشهد القبر والموت ليس سوى تعبيرا عن الاحتفاء الحياة ‘ . نعم ، الاحتفاء بالحياة ، ليس على طريقة الميسورين عندنا والذين يضيعون معظم أوقاتهم في المقاهي وفي دور الأزياء ، ليس على طريقة أثرياء الخليج الذين يضيعون أوقاتهم وأموالهم في السهرات الباذخة والسفريات العديمة الفائدة ، ليس على طريقة من يفهم أن الحياة فقط هي الجري وراء الأرباح السريعة وجني المزيد من الأموال ، كل ما سبق لم يكن سوى تجليات تدمير الحياة .. أن تحتفي بالحياة يعني بالنسبة لي ، أن تستنفذ جهدك في إسعاد غيرك قبل نفسك ، أن تسموا بأخلاقك لتكون قدوة لمحيطك ، أن تقتل في نفسك أمراض الحسد والحقد والكراهية والعنصرية ، ومربط الفرس في كل هذا أن تكون فردا منتجا .. قد يسألني أحد الزملاء العاطلين عن العمل : وكيف أكون منتجا وكل الأبواب موصدة في وجهي ؟ وكيف أكون منتجا وأنا ضحية سياسات تمجد الريع وتشجع الكسل ؟ .. هنا لن أجد سوى أن أردد ما قاله صديق لي ذات يوم ‘ دُقَّ الباب الكبير ، تطرق الأبواب الصغيرة وتترك الباب الكبير : دُقَّ باب الخالق الرازق ‘ .. قد لا يكون هذا الجواب مقنعا لكثير من الجاحدين ، لكن الوقائع تقول إن الصادقين المخلصين نالوا جزاءهم في الدنيا قبل الآخرة وأصبحوا منجزين ناجحين . ُسئل روائي أرجنتيني ، بدين الجسم : ماذا تتمنى أن يكتب على شاهد قبرك ؟ فَكَّر للحظة وأجاب ‘ أتمنى أن يكتب على شاهد قبري : مات نحيلا ‘ ، هذا الرجل البدين تمنى أن يستنفذ في هذه الحياة كل طاقة جسده في الإنجاز والعمل ، بما في ذلك عظامه ولحمه ، وأنتم ماذا تتمنون أن يكتب على شواهد قبوركم ؟ .. لحظة للتأمل مع الذات نتمناها للجميع .