شواهد القبور الشعرية: دراسة نسقية

صدر حديثا كتاب الناقد الجزائري علاوة كوسة «الأنساق المقنعة في الشعر الشاهدي العربي مع معجم الكتابات الشعرية العربية على شواهد القبور والأضرحة: قديما وحديثا) عن دار فكرة كوم للنشر والتوزيع: الجزائر 2022، وهو محاولة جادة هدفها استعادة تراث شعري قديم: حديث ظل منسيا من النقاد والباحثين كأنه لم يكن شيئا مذكورا، هكذا ابتل هاجس الناقد بماء الشعر زمنا طويلا وهو يحاول تأليف أول كتاب نقدي معني بقراءة النقوش الشعرية العربية على القبور والأضرحة، قراءة ثقافية معنية بالكشف عن أنساق (الخلود) و(الفحولة)، فضلا عن عمله المائز الآخر في صناعة معجم خاص بالكتابات، والنقوش الشعرية القديمة، والحديثة فصلا أخيرا في الكتاب.
قسّم الناقد كتابه على بابين كان الأول (الأنساق المقنعة في الشعر الشاهدي العربي: قراءة في الكتابات والنقوش الشعرية العربية على شواهد القبور والأضرحة) وقُسم على فصلين الأول (الكتابات والنقوش الشعرية العربية وأسئلة النقد الثقافي) تحدث في مبحثيه عن النقد الثقافي بوصفه عابرا للثقافات، وعن ضرورة الانتقال من النسق المضمر إلى النسق المقنع، والفصل الثاني (الأنساق المقنعة في الشعر الشاهدي العربي مقاربة تطبيقية) أدرك في مبحثه الأول نسق الخلود بين رهاب الموت، ورغاب الحياة، منطلقا من الخلود مرجعا ومفهوما، معرجا على وهمه، وحتمية الموت من خلال عقدة )جلجامش( الباحثة عن الخلود، وواقعية سيدوري التي آمنت بحتمية الفناء، ثم خصص المبحث الثاني لقراءة نسق الفحولة، من خلال شواهد القبور التي تحيل قراءتها الثقافية على تكريس مبدأ الفحولة مقابل وأد الأنوثة.
كان الباب الثاني (معجم الكتابات والنقوش الشعرية العربية على شواهد القبور والأضرحة قديما وحديثا) وهو من أربعة فصول الأول (الكتابات والنقوش الشعرية في الدواوين الشعرية) وقد تابع الكتابات والنقوش، من خلال دواوين الشعراء، إبراهيم أفندي الأحدب، وابن شهيد الأندلسي، وأبي البحر جعفر بن محمد الخطي، وأبي الطيب المتنبي، وأبي القاسم الشابي، والمعتمد بن عباد، وبدوي الجبل، وغيرهم كثير، وكان الفصل الثاني (الكتابات والنقوش الشعرية من الكتب التأريخية والدينية والأثرية)، وعنوانه دال على محتواه، والفصل الثالث (الكتابات والنقوش الشعرية من رحلات، ومراسلات شخصية)، أما الفصل الرابع فكان (الكتابات والنقوش الشعرية من المواقع الإلكترونية) وهو واضح الهدف والمحتوى.

ومما هو جدير بالملاحظة أن الناقد جعل لكل باب من أبواب الكتاب خاتمة استخلص فيها نتائج إبحاره الثقافي في النصوص الشعرية، والنقوش الخاصة، لتكون بديلا عن الخاتمة، فضلا عن أنه جعل مصادر كل باب ومراجعه ملحقة به لا في نهاية الكتاب.
عرّف الناقد علاوة كوسة الشعر الشاهدي بالنصوص الشعرية التي اتخذت من شواهد القبور والأضرحة بيوتا لأبياتها لتكون شاهدا على شاهد، وجسرا شعريا يربط بين الأموات والأحياء، وهو عنده إرثٌ أدبي ثقافي تراثي ثمين، وسجل تأريخي صديقٌ لم تمتد له يد التحريف ولسان اللحن، وقد هيئت له رؤية نقدية عمادها النقد الثقافي إطارا إجرائيا، ومنظومة فاحصة لنصوصه بهدف الكشف عن أنساقه المضمرة الخفية المقنعة المخاتلة، في رغبة حميمة لاستعادة تراث شعري مهجر منسي، وعند الناقد أن النقد الثقافي مجال رحب منتج بسؤالاته للكم الشعري الشاهدي بنسختيه؛ القديمة والحديثة، وقد تحسس ممكنات ذلك النقد في نسخته العربية المعدلة عن النسخة الغربية الأم، وبهذا الإصرار فتح الناقد لقلمه فرصة العبور نحو أنموذج الإضافة، والمواءمة بعيدا عن التحجر الأيديولوجي المفضي إلى التبعية الثقافية، أملا في تطويع الرؤية الثقافية الغربية لاستنطاق محمولاتنا الثقافية وظواهرها، وله الحق في ذلك، فمما لا شك فيه أن النقد الثقافي استطاع أن يلج النصوص الشعرية العربية القديمة والحديثة، بوصفه نشاطا فكريا ينتسب إلى الثقافة بوجهيها: المادي، والمعنوي بحثا عن الأنساق المضمرة في الأنساق الظاهرة، فضلا عن مخفي الظواهر الاجتماعية، والممارسات الشعبية غير النخبوية في تموضعها المنتمي إلى ذاكرة الشعوب، من هنا أجد دخول الناقد إلى فضاء شواهد القبور، ونقوشها فتحا جديدا في إطار النقد الثقافي فهي – الشواهد والنقوش – في تشكلها وأهدافها، جزء من الممارسات الشعبية المنتمية إلى الذاكرة، بوصفها سجلا من سجلات ثقافتها.

الناقد جعل لكل باب من أبواب الكتاب خاتمة استخلص فيها نتائج إبحاره الثقافي في النصوص الشعرية، والنقوش الخاصة، لتكون بديلا عن الخاتمة، فضلا عن أنه جعل مصادر كل باب ومراجعه ملحقة به لا في نهاية الكتاب.

هكذا دخل الناقدُ النصوص الشعرية مسلحا بسلاح النسق الثقافي، بحثا عن مضمرات شواهد القبور والأضرحة اللائذة وراء أقنعة محكمة تحيل على نسقي الخلود والفحولة، وهما نسقان يجريان في الشعر العربي مجرى الماء في النهر الطويل، الأول بحسب الناقد ورثه متسللا من ملحمة جلجامش الشهيرة القائمة على فكرة الخلود بطعمها الديني، ولونها الأسطوري، والآخر حضر منسلا من قيم الشعر الجاهلي، ومباركة النقد له، عالجهما الناقد بمزيد من الأسئلة التي وقفت على مشارف النصوص، وهي تفكك فكرة الخلود المضادة للموت، والفحولة المضادة لعفن الحياة، وقد استعان بكتب النقد الثقافي الغربي، والعربي، وكتب تأريخية وثقافية عامة، وكانت له زيارات إلى الأضرحة والقبور، فضلا عن استعانته بمراسلات أصدقاء خلّص له، وهو يستخرج من بطون الدواوين شهده الشاهدي ممزوجا برؤى من أحب الحياة.
قدر للناقد البحث في النسق الظاهر، من خلال جملة الأقنعة التي ارتداها الشاعر من دون أن يتجاوز آليات التبادل الدلالي بين النسق نفسه بممكناته كلها، والقناع بوصفه أداة كيد بيده، يحتال من خلالها على المتلقين مختالا في خطابه، وهو لبوس للنسق تسترا، وتجملا، وتحصنا لقداسة الضمور من ابتذال الظهور والقناع، فضلا عن ذلك كله ممارسة ورؤيا، وصمام أمان لمحميات نسقية، ومعابر مؤمنة خاصة بالجمل الثقافية، وقد مارس الناقد نشاطه في الكشف عن نسق الخلود، عاداً وجوده بسبب من عقدة (جلجامش) النقطة المركزية التي شملت الشعر العربي بنسقيها، ولاسيما نصوص شواهد القبور، فقد توحد الجميع أمام سلطة عشبة الخلود الجلجامشية طمعا في البقاء الأبدي، ليقف عند شاهدة قبر الشاعر محمود درويش، التي زُينت بأسطر من شعره: (على هذه الأرض.. سيدة الأرض.. ما يستحق الحياة) رائيا أن المقطع معادل حياتي أسطوري لفكرة الحياة الأبدية (الخلود) معتمدا على ما قاله الناقد يوسف وغليسي وهو يقرأ الأسطر من خلال عصاب الشاعر الرهابي وفق عقدة جلجامش المفضية إلى فكرة الخلود، والتعلق المفرط بالحياة، والخوف الهستيري من الموت، وعدم الاعتراف بنهاية الأجل، وبهذا أحال النص على قناع الشاعر المفتون بمشكلة الوجود.
أما نسق الفحولة فقد وجده الناقد، رفيق الشعراء أيضا فيه الغلبة العددية للرجال على النساء، بفارق كبير جدا، فهو فحولة ثقافية لاحقت الشاعر إلى مثواه الأخير، وليس في هذا عجب، فهو نسق متجذر في الثقافة العربية، لندع الناقد يقف عند قول المتنبي:
وَمَا الدهْرُ إلا مِنْ رُواةِ قَصـــائِدي
إذا قُلتُ شِعراً أصْبَحَ الدهرُ مُنشِدَا
وَدَعْ كل صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنني
أنَا الطائِرُ المَحْكِي وَالآخَرُ الصدَى
الذي عده مثالا واضحا على تفشي أنساق الفحولة في شعر المتنبي مقنّعة متجلية، وهو الذي نظر الأعمى إلى أدبه، وأسمعت كلماته من به صمم، فحلٌ شعري في حياته، وبعد مماته.

هذا الكتابُ جهدٌ كبير يشير صراحة إلى فاعلية الجمع التي استطاع الناقد من خلالها أن يقبض على عدد ليس بالقليل من النصوص الشعرية، والنقوش التي زينت واجهات القبور والاضرحة، وأن يجعل منها متنا شعريا يحيل على ديوان قديم: حديث، فجهد الجمع يشتمل على إعادة توثيق شعر الشواهد، وتنظيمها، وترتيبها، والوقوف مليا عند أسماء شعرائها المعروفين والمجهولين، ومن سقطت أسماؤهم سهوا، أو عمدا، ليلم بعضها على بعض في متن يحيل على مجموع ما كُتب في هذا المجال، والناقد فيه مشغول بتتبع المظان، والتأكد من المصادر، وأسماء الشعراء، وهو جهد يتوازى تماما مع جهد النقد، فكيف إذا اجتمعا في متن واحد؟
لقد قرأت الكتاب بلهفة المحتاج إلى ما فيه، وما فيه أعطى فكرة عن تعب الناقد وتتبعه، فكثرة أسئلته أحالت على إجابات كانت شفاء لمن استعصى عليه فهم مسألة ما، ولعل حرصي على قراءة الكتاب يسوغ لي إبداء ملاحظتين مهمتين، الأولى تخص بناءه الذي قام على فكرة الأبواب بدلا من الفصول، وعندي أن حجم الكتاب ليس بالكبير، وعليه يمكن أن يبنى من مقدمة، وتمهيد عنوانه (النقد الثقافي وشواهد القبور: من النسق إلى القناع)، فيكون التمهيد مهادا لمشكلة الكتاب ومضمونه، أما الفصول فيمكن اختصارها بفصلين حسب: الأول (قناع الخلود) مقاربة إجرائية معنية بتتبع القناع في تلك الشواهد، والآخر (قناع الفحولة) معني بتتبع الفحولة وقناعها في تلك الأشعار والنقوش، وللمعجم أن يكون ملحقا في نهاية الكتاب، لا فصلا ثالثا.
أما الملاحظة الأخرى فتفيد الناقد في طبعة الكتاب المقبلة إن شاء الله، فقد وجدته يهمل وضع سنوات وفيات الشعراء بمحاذاة أسمائهم، وهذا الإهمال قاده إلى أن يضطرب في ترتيب أسماء الشعراء في الإجراء النقدي، فجعل مثلا الشاعر الحديث يتقدم على العباسي، ففي الصفحة (62) استشهد بفحولة نزار قباني قبل أن يستشهد بفحولة المتنبي، وهذا ما فعله في الباب الثاني ضمن الكتابات والنقوش الشعرية من الدواوين، فقدم الشاعر أبا القاسم الشابي (1934)على المعتمد بن عباد (488هـ) على ما بينهما من فارق زمني طويل، وهذا ما تنبه إليه في ص90 من الكتاب ذاكرا وفيات الشعراء، بدءا من الشاعر بطرس كرامة، من دون أن يكمل مشواره معهم.
وبعد: فلا أستطيع حجب إعجابي بلغة الكتاب أعني؛ ثراءها، وقوة متنها، وانسجامها المعرفي الذي أحال على سياقات دالة على شكل كتابي خاص؛ هو أسلوبه المميز الذي ينتمي إلى صوغ استجمع فيه ثقافته، ورؤاه، وقد توشح بحضور لغة القرآن الكريم، سأختار منه بضعة أمثلة من مقدمة الكتاب للتدليل على ما ذكرت حسب؛ يقول الناقد وهو بصدد الحديث عن السنوات التي صرفها وهو يعد العدة لجمع أصول الكتاب: (اشتغلت على جمعه سنين عددا)، وهو قول أخذ نسقه الشكلي من سورة الكهف الآية: 11، ويقول عن منهج تأليف الكتاب: (وقد هيأت له متكأ نقديا يليق بجلال هذه الغنيمة)، والقول استل شكله من سورة يوسف الآية: 31، وتحدث عن إحالة الشعر المدروس على النقد الثقافي بقوله: (فقد كدت له كيدا نسقيا جميلا)، وهو قول يحيل المرجع على الآية: 5 من سورة يوسف أيضا، هكذا يقدم الكتاب إلى متلقيه منحازا إلى الثقافة، وجادا في تحليل مظاهرها.

ناقد وأكاديمي من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد الأحمد:

    قراءة تذهب الى متن النقد الثقافي باهداف الكشف عما يستحق اعادة النظر. وقفة نقدية استحقت الوقوف لم فيها من تعميق لمفهوم ان على هذه الأرض الواعية ما يستحق القول، ويستحق الحياة.

    1. يقول علاوة كوسة:

      تقديري ومحبتي

إشترك في قائمتنا البريدية