شوقٌ إلى الشّامبو…

حجم الخط
0

كنّا على تواصل مُتقطّع قبل الحرب، ولكن خلال الحرب صار التواصل مُلحّاً، طلبتُ منها أن تكتب شبه يوميات، بالفعل كتَبت في اللغة المحكية عدداً لا بأس من الرّسائل، أحببتُ نقل آخرها إلى القراء، بعد إحالتها إلى اللغة المعيارية.
السّلام عليكم ابن عمتي، كيف حالك؟ كيف زوجتك وأهل بيتك؟ أنا بكتب بلغتي وإنت دبّر حالك.
السّبت 31-08-2024
برمجتُ يومي على مواعيد الباعة، في السّادسة والنصف، ينادي بائع خبز الفينو، يليه بائع الشّاي مناديًا بصوته الحماسيّ، شاي سُخن، شاي طازة، وبعد دقائق أسمع بائع المياه العذبة منادياً «مَيّة حِلوَة مَيّة حِلوَة. إنها أصوات الحياة. رغم الإزعاج، ينتابني شعورٌ من الشّفقة عليهم، فهم يطوون مسافات طويلة راجلين لأجل لقمة العيش.
أرتّب فِراشي، ثم أذهبُ إلى الصالون لإلقاء تحية الصباح على ضيفاتي من قريباتنا النازحات من شمال غزّة، عادة يكنّ قد سبقنني في استقبال الصّباح.-كيف أصبحتن؟-الحمد لله.
نجلس معاً لاحتساء فنجان قهوة وتجاذب أطراف الحديث، شو آخر الأخبار؟ هل من جديد؟ طبعاً الجميع ينتظر انفراجة، وصلنا أحياناً إلى التفاؤل، قبل حوالي أربعة أشهر انطلق الناس في الشّوارع مهللين ومكبّرين مع أبواق السّيارات، كان الحديث عن أنّ الطّرفين وافقا على الصّفقة، يومها وقفت على الشُّرفة ودموعي منهمرة من الفَرح، ولكن سرعان ما تبدّد الأمل، وسبّب هذا إحباطاً كبيراً.
الإجابة معروفة، لكنّنا نكرّر السُّؤال الذي نعرف جوابه، لا جديد، قصفٌ هنا وقصفٌ هناك، انفجارات وشهداء، وقلقنا الأكبر خشية صدور أوامر من الاحتلال بالإخلاء، لقد بات الإخلاء قريباً جداً منا.
لا يبعد عنا سوى شارع واحد، وما يقلق الجميع: أين سنذهب إذا جاء أمرٌ بالإخلاء! نستبعد الأمر لإراحة أعصابنا.
المرحلة التالية من التساؤلات هي «ماذا سنطهو اليوم»؟
هذا السُّؤال كان جيّداً في الأيام التي سبقت هذه الحرب، كنا بالفعل نحتار لوجود إمكانيات كثيرة، أحياناً كنت أجري استفتاءً بين أبناء الأسرة، السؤال الآن يثير الابتسام، الأصناف التي ممكن أن نطهوها محدودة جداً، صينية باذنجان أو مجدّرة أو مكرونة، لا خيارات أخرى، ونحن بحالة ممتازة بالنسبة لغيرنا.
تتواصل ضيفتي أحلام مع ابنيها القاطنين خارج قطاع غزة، من خلال الإنترنت للاطمئنان المتبادل.
قبيل الظهيرة تأتي صديقتي ريهام النازحة في الخيام لزيارتنا، تُحدّثنا عن والدتها المُقعدة التي تفقد الذاكرة بشكل مؤقت، لتعود إليها فجأة نقيةً تماماً.
المسكينة تطلب من ريهام في كلِّ يومٍ أن تأتيها بكيس من العصير المثلّج بطعم المانجا.
ريهام حاولت طيلة هذه الفترة إقناع والدتها بأنّ هذا العصير ضارٌ لصحّتها، وأنّه ليس مانغا، بل ماءٌ وسُكّر وصبغة مع نكهة، ولكنَّ والدتها تصرُّ مثل طفل مدلّل، تشتمُ وتبكي وتدعو على نفسها بالموت، وتضطر ريهام لإحضارِه لها.
أخبرتني أنّ مفاجأة طيّبة حدثت يوم أمس، حينما تناولت والدتها كيس العصير، ظهرت ديدان في قعر الكيس، ما جعل الأم تتوقّف عن طلبه نهائياً، وهذا أسعد ريهام وأخواتها، «أجت من عند الله هالشّغلة».
في الظّهيرة، أراقبُ الأوضاع البائسة من خلال النافذة، البسطات التي تضاعفت أعدادها، أرى بائعي الزيت والأندومي، وبعض بسطات الخُضَر والفاكهة. هناك من يسأل عن الأسعار، أتنبأ بأنّه لن يشتري، يصدق حدسي، أعرف هذا من حركة جسده، فهو يسأل وخطوته متأهّبة للانتقال إلى البسطة التالية. هناك من يدور بين البسطات ويداه وراء ظهره، فقط كي يشاهد، وهناك من يوحي للباعة بأنّه يراقب الأسعار، يسأل عن الثّمن ويهز برأسه، لكن هذا لا يردع أحداً، أحدهم يشتري بلا تردّد، يبدو أنّه ميسور الحال، يشتري أكثر من صنف من الخُضَر والفاكهة.
لم أعد أرى مواد التنظيف التي كنت أستعملها للجلي والغسيل وتعقيم الحمّامات، ما يعرض هي مواد رديئة تباع بثمن مرتفع، أشتاق للشّامبو الذي أحبّه لشعري، طار ثمنه عشرة أضعاف، ثم اختفى نهائياً، كنت أتمنى أن يكون الشّامبو ضمن المساعدات التي توزّع، يبدو أن في الشّامبو رائحة ومَلمساً جعلني مدمنة عليه، في كل الأحوال لم نحظ من هذه المساعدات سوى بمعلبات يمقتها الجميع، سمعنا عن مساعدات كبيرة من عندكم، من مناطق الثمانية وأربعين، لم نر منها شيئاً حتى الآن. أرى وأسمع بائع البرّاد المثلّج وهو ينادي «العطشان يبرّد على حالو»، أشفق عليه، ينادي وهو يتصبّب عرقاً تحت أشعة الشّمس الحارقة، وبين حين وآخر يمسح جبهته بمنشفة على كتفه، سيبقى هكذا إلى أن تغيب الشّمس ويختفي مع صوته، بلا شك أن هناك من ينتظره، أتمنى سماع صوته صبيحة الغد، صيحات الباعة دليل على أن هناك جانباً من الحياة ما زال نابضاً.
نظرتُ إلى حبل غسيل جيراننا، لفت نظري وجود غسيل لطفلٍ حديث الولادة، لون الملابس الزهري. صحيح، فجارتنا رجاء أنجبت ابنتها الثانية في الحرب، بعدما نزحت من بيت الزوجية في خانيونس، وعادت إلى أهلها.
تغيّبت هيفاء التي كنت أراها يومياً، نلقي التحية على بعضنا من خلال النافذة، ثم نتحاور بلغة الإشارة، كي لا يسمعنا من يجلسون ويقفون تحتنا في الشّارع.
هيفاء على خلاف مزمن مع زوجها، أتحيّز لها، بينما ينحاز زوجي إلى زوجها عماد، حتى الآن لم نعرف من هو الظالم أو المظلوم بينهما، ولكن عادة ما تنتهي الشكاوى بالضحك، ونلاحظ مرحلة من السّلام بينهما، حتى الجولة التالية من الشكاوى.
يزداد نزوح الناس إلى مدينتنا بشكل كبير، لدى جارينا هيفاء وعماد مخزن، أجّراه منذ بداية الحرب لأسرة كبيرة، فيها من كلِّ الأجيال، وما لبث أن جاء آخرون، أجّرهم غرفة الضُّيوف مع حمامها الخارجي. هذه الغرفة كنزٌ بالنسبة للنازحين مقارنة بخيمةٍ، حيث تضطر للاستيقاظ مبكّراً للوقوف في طابور الماء أو الحمّام. هي فرصة لعماد وهيفاء، فتأجيرالغرفة لشهرٍ واحد يساوي تأجيرها لخمسة أشهر قبل الحرب، الفائدة للطرفين، المستأجر يبدو ميسوراً، أما عماد وهيفاء فهما في حالة بطالة مُزمنة، وهذه فرصتهما للرّبح.
بعد التاسعة مساءً بقليل، لا أذكر التوقيت تماماً وبينما كنت أعد الشّاي، سمعت صوت انفجار، ارتعدت الغرفة، قلت لابني محمد هذا القصف قريب جداً، فقال: لا يا أمي، هذا بعيد، فقلت بإصرار: إنه قريبٌ جداً، هذا صاروخ استطلاع وليس من طائرة حربية. هذا يستخدم ضد الأفراد، والثاني لتدمير المنازل.
خلال هذا، دخَلت سندس زوجة ابن شقيقي مذهولة وباكية، بأنّ محمد ابن شقيقتي ضمن مجموعة تعرّضت للقصف.
صُعقت، ارتديت عباءتي، وهرولت إلى الشارع حيث الظلام الدامس تماماً، أتلمّس الطريق على ضوء هاتفي الضعيف لأبحث عن ابن اختي، لكن الإسعاف سبقني وحمله مع آخرين إلى المشفى.
درت حول نفسي في الشارع أبحث عن أي شخص يوصلني إلى المشفى، كنت في حالة انهيار، أرجوكم خذوني إلى المستشفى!
فوجئت بيد تربّت على كتفي ومن خلفي من يقول لي: سأحضر سيارة وأوصلك إلى المستشفى.
لم أر وجهه بسبب الظلام، لكن عرفته من صوته، هذا ابن فاطمة شقيقتي الأخرى، هدّأ من روعي. ما إن سرنا بضع خطوات حتى انطلقت صليات من الرّصاص من طائرة كواد كابتر، كان هذا قريباً جداً من حولنا، كأنها تقصدنا، فعَدوْنا في اتّجاه العمارة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية