شيخ الأزهر والتنوير وأشياء أخرى

حجم الخط
12

من عدة أيام دار سجال حاد بين شيخ الأزهر أحمد الطيب ومحمد الخُشْت رئيس جامعة القاهرة، في مؤتمر من المفترض أن الأزهر أقامه لتجديد وتطوير الخطاب الديني، وهو سجال انتهز فيه شيخ الأزهر الفرصة، ليمارس فيه نوعا من الجدل السفسطائي – الذي هو بالمناسبة موضوع دراسته – وليصب جام غضبه على الضيف الذي وقف مبهوتا، لأن الرجل يتحدث حسب كلامه من داخل البيت الفقهي نفسه لا من خارجه، وكانت وجهة نظر الكثيرين؛ أن الشيخ استغل الموقف لتفريغ شحنة ضد تيار بعينه، وليس الكتاب، ولا الضيف محل المناقشة المقصود بذاته، وهو ما نجح فيه الشيخ، إذ انتشرت فيديوهات هذا السجال سريعا بين القطاعات الفئوية العريضة المتعطشة لأي بطولة، والمُستًنفَرة دائما باسم الدفاع عن الدين تجاه أي بوادر فكر مغاير، ولأن الشيخ ليس فوق النقد، ولا أحد من رجال الدين أصلا فوق النقد، فإننا نورد هذه الملاحظات التالية على هذا السجال.
أولا: مقولة أن المشكلة ليست في التراث التي كررها شيخ الأزهر أكثر من مرة، هي مقولة مخاتلة.
لأن المشكلة فعليا وعمليا في التراث، وتحديدا في البنية الابستمولوجيا التي بنيت عليها المعارف الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى، التي تأسست عليها الدعائم التراثية كاملة، وليست المنظومة الفقهية وحدها، التي أفرزت كهنوتين أساسيين؛ الكهنوت السياسي؛ والكهنوت الفقهي، وكليهما غير مفصول عن صاحبه، وهو ما أدى إلى توقف العقل المعرفي الإسلامي عند القرون المراحلية الأولى، وجعل من هذه القرون زمنا سكونيا مقدسا، لا تجوز مفارقته أبدا، بل الواجب علينا استنساخه على الدوام، إذا أردنا الفلاح، وهو ما أدى بنا أيضا إلى ديمومة الفشل، والإعاقة الحضارية التي نعاني منها حتى هذه اللحظة.
ثانيا: دائرة الفقه الإسلامي أصبحت مغايرة ومفارقة تماما لآنية الوقت والزمان والمكان، والتعامل معها بتاريخانية أصبح واجبا وضرورة، فضلا عن كمون عشرات الأحكام فيها التي تصب في صالح روزنامة الكراهية والقتل والدماء، أو الخلل العلمي – مثلا: مدة الحمل أربع سنوات حسب الفقه الشافعي، وليس أدل على ذلك من أن كل التنظيمات الإرهابية العنيفة؛ بدأ من «القاعدة»، مرورا بطالبان، وبوكو حرام، وحركة الشباب، وليس انتهاء بـ«داعش»، استقت أفعالها بشكل أو بأخر من تلك المنظومة الفقهية، التي تدافع عنها المؤسسات الرسمية باستماتة. وإذ لم تصدقني فأنا أتحدى أن يأتي أحدهم بفعل واحد، فعلته «داعش» باجتهاد منها، بدون الرجوع لمنظومة الفقه التقليدية، أوليس له أساس عموما من باطن كتب التراث.

دائرة الفقه الإسلامي أصبحت مغايرة ومفارقة تماما لآنية الوقت والزمان والمكان، والتعامل معها بتاريخانية أصبح واجبا وضرورة، فضلا عن كمون عشرات الأحكام فيها التي تصب في صالح روزنامة الكراهية والقتل والدماء

ثالثا: الحديث عن نسبية المعرفة، وظنية الأحكام، هو قول يتفق ويتناسق تماما حتى مع المنظومة التقليدية للدراسات الشرعية وليست مناهج التنوير الحديثة فقط. فمن المعلوم أن القرآن هو نص قطعي الثبوت، تنقسم آياته إلى ظنية الدلالة، وقطعية الدلالة، أما السُنة فإن تسعة أعشارها ظنية الثبوت ظنية الدلالة «أحاديث الآحاد» وهو ما يفتح المجال للتأويل والاجتهاد. ومن الغريب أن أحاديث الأحاد يُتَحرج منها في مجال العقائد، ولا يُتَحرج منها في الدماء؛ «حديث قتل المرتد، وغيره من الأحاديث التي بنيت عليها أحكام السبي والرق والوطء والرجم»، فهل يعقل أن يباح إزهاق الأرواح، ووطء الأعراض، اتكاء على نصوص ظنية الورود ظنية الفهم؟
رابعا: يقول شيخ الأزهر أن الدين يوظف من جانب الساسة، وعلى حد علمي، وعلم الجميع أيضا، أن الشيخ كان يمارس العمل السياسي تحت مظلة الحزب الوطني، إبان حكم مبارك، وكان ولايزال فاعلا ولاعبا في العديد من المواقف السياسية، حتى إن قرار تعيينه شيخا للأزهر، هو قرار سياسي بامتياز، لأنه لم يأت بانتخابات طالما طالبت بها هيئة كبار العلماء، كنوع من استقلالية الأزهر، بل تواترت الروايات عن توليه المشيخة، حين أفسح الرئيس مبارك المجال لحرمه بأن تسمي حفيدته، على أن يقوم هو بتعيينه شيخا للأزهر بدلا من أحمد عمر هاشم، وهي رواية تعكس عبثية اتخاذ القرارات في المستنقعات العربية خاصتنا، وتعكس أيضا مدى تفرد الشيخ بنفوذ وسلطة وتقرب من الدوئرالحاكمة، أيا ما كانت هذه الدوائر، فضلا عن تمتع فضيلته بصداقات كل حكام المنطقة لا نستثني منهم أحدا. وبهذا الشكل يصبح هو نفسه جزءا من توظيف الدين لخدمة السياسة بشكل أو بآخر. وعليه؛ فإذا كان فضيلته يلعب السياسة مقتنعا بحِل الخلطتين معا؛ إذن فقد سقط مذهبه، وإذا كان يذهب مرغما للمراعي السياسية، فالواجب ألا يحدثنا سماحته بعد ذلك عن تلاعب الساسة واستخدامهم للدين بعد ذلك، والكلام هذا بالمنطق نفسه الذي استخدمه في الحوار.
خامسا: وهو الأهم والأجدر وواجب الوقت الآن، وهو ما أًعِدُهُ مسبقا – ملزما نفسي- بالكف عن نقد التراث والوقوف خلفه، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، إذا فعل ما يجب على رجل في مكانته فعله.
فمعلوم أن فضيلته ألهب حماس الجماهير المسكينة عن شعوره بالعار من ما يسمى بصفقة القرن، وتصفية القضية الفلسطينية، وهو كلام يشعرني أنا حرفيا بالعار، لأنه يتحدث كما لو كان مثلنا من المستضعفين في الأرض، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، لا بوصفه شيخا للأزهر، يتمتع بسلطة روحية هائلة لمليار وستمئة مليون مسلم، باستطاعته أن يجوب الأفاق وأن يملأ الأرض صخبا وضجيجا واحتجاجا، وأن يؤرق ليل المؤسسات الصهيونية العالمية، أو أن يعتصم بأضعف الإيمان ويغلق عليه باب الأزهر، كما فعلها من قبله الشيخ الخراشي، مدعوما بالعِمَم التي كانت تصفق له في المؤتمر كلما همس أو نطق أو أشار، مثل كورال داعم يذكرك بِصَيتَة المقرئين، أظن كان هذا أولى وأجدر بدلا من المخاتلة اللفظية التي جعلته يتصدر زفة وسائل السوشيال ميديا الباحثة عن بودار بطولة ولو كرتونية، فصورت الرجل كحامي حمى المسلمين، وقاطع شأفة التنويرين، ومخرس لسان المرجفين، قدس الله سره، آمين.

٭ كاتب وإعلامي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد يوسف:

    احترمك كثيرا اخي الكروي داود النرويج وأصحح لك أن شيخ الأزهر وقف موقفا بطوليا ضد السيسي في موضوع مذبحة رابعة، ولكن الاعلام المصري استطاع التغطية عليه ولم يبث الا مرة واحدة، ولكنه موجود في اليوتيوب وأنا أكتب هذه الكلمات أستمع للكلمة المتلفزة للشيخ الطيب في الموضوع وفي الأسفل سأضع رابطها لذا اقتضى التوضيح، أما رأيي في المقال فهو رد حانق وملتو وحاقد على موقف بطولي للشيخ الطيب ولمن يحب بطولته، والأخوة المعلقين بينوا الأمر ، وهذا لا يعني أن كل كلام الكاتب باطلا وأن الشيخ الطيب معصوم عن الخطأ، ولكن لماذا كل هذا الحقد والضغينة والاسفاف في التهجم على الشيخ الطيب ؟
    أما رابط بيان الشيخ فهو

    0:04 / 2:31

    بيان شيخ الأزهر د. أحمد الطيب للأمة حول فض إعتصامي رابعة العدوية والنهضة
    https://www.youtube.com/watch?v=sKEAxbZKLug

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية