“أنا شيرين أبو عاقلة – الجزيرة – رام الله ـ فلسطين”
ختمت شيرين أبو عاقلة تغطيتها الانتفاضة الثانية بعبارة مدوية، نشأ جيلي على محاكاتها. ولما استيقظت على خبر مقتلها 11 أيار/ مايو، اعتقدت أن هذه الصرخة محدودة المجال للغاية، لا يتردد صداها لدى الآخرين. وسرعان ما أدركت أن الأمر لم يكن كذلك.
في اللحظة التي أدركت فيها أنها رحلت، طفق يتردد في أذني رنين صوتها العذب المتجذر فينا جميعا؛ وما زال يغمرني وأنا أخط هذه الكلمات. وقد عمّت وسائل التواصل الاجتماعي على الفور، اقتباسات عن كلمتها الختامية المأثورة، وذكريات محاكاة لسانها، وقوة تعبيرها: “اخترت الصحافة لأكون قريبة من الناس. قد لا يكون من السهل تغيير الواقع، لكن على الأقل يمكنني أن أجلب صوتهم إلى العالم. أنا شيرين أبو عاقلة”.
باعتبارها مراسلتنا ولساننا الجماعي وحبالنا الصوتية، تحدثت شيرين بإيقاع عميق متأصل في أجسادنا. وبعد مقتلها مباشرة، عاش جيل بأكمله تجربة الإصغاء إلى حديثها، والاستماع إلى كلماتها خلال إحدى اللحظات الأكثر صدمة وألما ـ والتجارب المركبة التي لا تنتهي أبدا ـ في سجل تاريخنا.
حادثة اغتيال شيرين أبوعاقلة ليست جديدة على السياسة الإسرائيلية. فقد استهدفت قوات الاحتلال عشرات الصحفيين منذ انطلاق الانتفاضة الثانية. وقد اتسع حجم الحداد ردا على مقتلها تزامنا مع إحياء الذكرى الـ 74 للنكبة، ومرور عام واحد بالضبط منذ أن عجّل المستوطنون الصهاينة، بالتعاون مع جنود الاحتلال، بتسريع عملية مصادرة ملكيات العائلات في حي الشيخ جراح. لأول مرة منذ عقود، شعر جيلي، الذي نشأ في ظل الانتفاضة الثانية، بإحساس بالوحدة لم نشعر به من قبل. بدأت شظايا مجتمعنا – لاجئون في الشتات، و48 فلسطينيا من سكان القدس وقطاع غزة والضفة الغربية ـ في لمّ الصفوف في وقت بدا نظام الفصل العنصري كأنه شرع في الانهيار. قبل عام بالضبط هذا الأسبوع، وصفت من خلال هذه الصفحات كيف أن “ألم الإخفاق في إيصال صوتك أكثر مرارة من معرفة الموت المحتمل”. كان هذا هو أصعب شيء يعبر عنه القلم. وبالنظر إلى تجاربنا في الانتفاضة الثانية، فإنّ أشد أنواع الألم تذكُّر الصمت. عندما أنظر إلى الوراء، وأصغي إلى كلمات شيرين أبو عاقلة، تذهلني قدرة رئتيها. فهي لم تنقطع عن الحديث وتزويدنا بالأوكسجين لمدة 25 عاما ـ حتى لو كان الذين يستمعون قليلين. والتحدث بلا جمهور بلا ريب يشعر المرء بالعزلة والارتباك بشكل لا يصدق، لكنها واصلت، بحبال صوتية لا تعرف الألم أبدا، وبرئتين تحملان مقدارا وافرا من الهواء يكفينا جميعا.
رأينا العام الماضي أعراض فشل هيكلي، وبدأت تظهر تصدعات في السد. بدأ أصدقائي اليهود الذين نشأوا في منازل صهيونية في الولايات المتحدة يدركون أن صلتهم باليهودية يمكن أن توجد دون علاقة بدولة إسرائيل؛ لقد بدأوا يصطدمون بصعوبات في محادثاتهم مع الحاخامات وعائلاتهم الداعمة للجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية. بدأت أصوات مزيد من اليهود الإسرائيليين تتعالى عبر شبكات التواصل الاجتماعي، مدافعة عن حقوق الفلسطينيين علنا لأول مرة. تعهد الأكاديميون والفنانون من جميع أنحاء العالم بدعمهم للمقاطعة بوتيرة أسرع من أي وقت مضى. وبدأ الشباب الفلسطيني العمل على بناء أشكال بديلة للحكومة، وكتابة البيانات السياسية، والتنظيم على أرضية الميدان من خلال الحملات البلدية وأبعد من ذلك. مثلما أشارت الباحثة الفلسطينية نورة عريقات خلال إحدى مكالمات الطوارئ عبر برنامج زوم في ذلك الوقت: “نحن نخترق السدّ ـ فواصلوا الدفع”. بدأت أصوات المياه المتساقطة وقطع الركام المتساقط في الظهور. ومعظم التصدع منبثق من جيل عملت شيرين على تربيته.
درست شيرين أبو عاقلة الهندسة المعمارية، التي تعدّ تاريخيا تخصصا يخدم نسبة 1%، لكنها رفضت ممارستها. أتصوّر أنها ستقدِّر فكرة انهيار الهياكل التي هي من صنع الإنسان بصفتها سردا قصصيا، وتدفق أصواتنا من خلالها. على مدار العام الماضي، تساءلنا عما إذا كان هناك بعض التنافر بين السرد المتغير الذي يجلب لنا لحظات من الفرح الشديد (كأن ندرك أنَّ شخصا غريبا في مترو أنفاق لندن يعرف مكان جنين)، مقابل الواقع على أرضية الميدان الذي يطبعه تزايد النهب والاغتيالات وتفجيرات غزة وهلم جرا. لكن ماذا يحدث بعد انهيار السد؟ تُغْمَر الحقولُ، وتعاني الطبيعة من خسائر متعددة، ولكن شيئا فشيئا، ترتوي الأرض وتبرز الشتلات من جديد. في محادثة أخيرة مع عريقات، سأل مارشال غانز، كيف يمكننا إحداث تغيير يتجاوز تغير السرد، موضحا أنَّ الفهم يجب أن يتبع العمل، وليس العكس.
شيرين أبو عاقلة هي الرد على هذا السؤال. فجنازتها في القدس وحدها شهادة على التأثير الذي أحدثه صوتها على أرضية الميدان. وصل مئات الآلاف من الأشخاص من جميع أنحاء البلاد إلى القدس يوم الجمعة، مستعيدين مطالبتهم بها مدينة فلسطينية. راحوا يرفعون الأعلام وهم لا يشعرون بالخوف، على الرغم من القوة الوحشية التي تعرضوا لها عند تدخل الشرطة الإسرائيلية ردا على العلم الذي لف به نعشها. وتجمع مئات الأشخاص في وقفة احتجاجية في لندن مساء الخميس حدادا على فقدانها. صبي يبلغ من العمر ستة أعوام، محاطا بنساء يرتدين ملابس سوداء، بعينين منتفختين، أخذ مكبر الصوت من أحد المنظمين، وقال وهو يشير بإصبعه إلى النساء: “أنت شيرين، أنت شيرين، أنت شيرين، أنا شيرين!”.
اغتيالها، الذي يعدُّ خطأ فادحا من جانب الاحتلال، سيتردد صداه لدى جيل آخر. فالتجربة الصوتية في شهر مايو/أيار الماضي كانت عميقة الأثر يتخللها سماع الترانيم، وبوق السيارات، والتصفيق، والأغاني، والبكاء في جميع أنحاء العالم لأسابيع. واليوم، يتردد صداها عاليا في الأفق. يرن صوت شيرين عاليا، ويعلو صوتنا، ويتشقق السد على نطاق أوسع.
“اخترت الصحافة لتكون قريبة من الناس. قد لا يكون من السهل تغيير الواقع، لكن على الأقل يمكنني أن أجلب صوتهم إلى العالم. أنا شيرين أبو عاقلة”. من خلال صوتها وأصوات كثيرين آخرين مثلها، من الممكن حقا تغيير الواقع.
كاتبة فلسطينية
تمت ترجمة المقال عن مجلة +972
شرين أبو عاقلة هي رمز لكل نساء فلسطين الذين لم يخشين يوما رصاص دويلة الباطل إسرائيل المحتلة لأرض فلسطين التي تقتل الفلسطينيين وتفجر منازلهم بغير وجه حق،. الله يرحم ترابك يا شرين يا درة عروس فلسطين