لم تكن الشجرة التي استشهدت بالقرب منها شيرين أبو عاقلة سوى جزء من رمزية الحالة الفلسطينية، ولم يكن أيضاً الجدار سوى جزء من ذاكرة الفلسطيني التي تشظت، حيث لم تعد الأسوار تؤدي دورها الوظيفي بوصفها بُنيت من أجل الحماية، غير أنها في حالة شيرين لم تكن كذلك، لقد أمسى الجدار ضخماً يقطع أوصال الأرض الفلسطينية، يحوّلها إلى قطاعات باتت تشبه ثقوب الرصاص، لم يتمكن الجدار من حماية شيرين… فقد فقَد دوره الوظيفي، إذ كان الجزء الأكبر منه مهدماً، مقشوطاً كالزمن الفلسطيني، وحدها الشجرة التي بقيت واقفة كما هي شيرين التي لم تسقط… إنما وقفت كما هي الشجرة… تلك الشجرة التي أظلت روحها، تلك الشجرة التي باتت رمزاً للصمود، أو للوقوف، هكذا تضاف صورة جديدة حيث الشجرة وشيرين… وخلفهما الجدار.
ما يجمع الجدار والشجرة وشيرين يتمثل بالأرض، كان التراب الفلسطيني هو آخر ما واجه شيرين، التصقت به كما لم تلتصق من قبل، اشتمت لآخر مرة رائحة التراب الفلسطيني… تلك الرائحة التي طغت على رائحة الرصاص، لم تتحول شيرين إلى خبر صحافي… إنما باتت حالة ثقافية، أو لعلها باتت رمزاً، فالفلسطينيون يتقنون صناعة الرموز، ليس ترفاً، إنما هي حالة، ينقاد إليها الفلسطيني رغماً عنه، لأن الحياة هي أغلى ما يملك، ولأن الأرض هي امتداد الوجود ولا يمكن أن يتخلى كائن عاقل عن وجوده الذي لا يكتمل إلا بالأرض، أو الوطن.
في هذه الحالة.. تبقى شيرين ذلك الارتجاع التراجيدي الذي يبدو أقرب إلى مفارقة، حيث عبرت شيرين كل فلسطين كي تبحث عن الحقيقة، تشهد وتؤطر الكلمة مع الصورة، وفيها كل فلسطين.. كانت تكمل صورة المقاومة، غير أن هذه الأرض أعادت لها الجميل.. ففلسطين حملت شيرين طولاً وعرضاً، هناك حيث تنتهي الحدود، ويتحطم الجدار، تعبر شيرين القدس رغماً عن أنف المحتل، بل هي تعبر كل الأسوار، وتلقي السلام على الأشجار.. تعيد مقولة لا يصدقها البعض، بأن المسألة الفلسطينية ليست عابرة، ولن تنتهي، فهذه الأرض، قادرة على أن تخلق كل يوم مفاجآت.. على الرغم من أن هذه المفاجآت لها أثمان، لكن الفلسطيني يدرك ذلك، وهو يراهن على الأمل، ولعل هذا القدر الذي يُقاد إليه الفلسطيني، ليس نتاج محاولات بطولية يتقصدها، إنما هو يدرك أن هذا جزء بنيوي في تكوينه، يتشكل مع لحظة الوعي الأولى، أو حين تعمل المروية الفلسطينية على صوغ هوية، غير أنه يدرك أنها ليست مكتملة دون الأرض والحرية.
لن تكون شيرين الأخيرة، لكنها ستكون جزءاً من أيقونات الفلسطيني، إذ تصطف شيرين مع كل شهيد، ومع كل مثقف وصحافي ومسعف ومقاتل وطفل مع كل مهجر ولاجئ.. هي جزء من خطاب غسان كنفاني وناجي العلي ومحمود الهمشري وعلي حسن سلامة وغيرهم ممن اغتالهم الكيان الصهيوني، شيرين جزء من تتمة كلمة عبد الرحيم محمود ومحمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم.
لا شيء يمكن أن ينسى من هذا، على الرغم من بغض العالم وانحطاطه، حيث تسكن الغرب عنصرية مقيتة، كما التّعامي عن الإقرار بالحقيقة، ولاسيما في كل ما يتعلق بفلسطين. إنه مسكون بمصطلحات لا يتقن توظيفها إلا ما يتعلق بالفلسطيني، يتحرى خطابه، وممارسته بتلك المعايير المزدوجة التي لم يعد لها مبرر في هذا الزمن.. في عالم يدعي الحضارة، لكنه في ما يتعلق بفلسطين يُصاب بالخرس، يتحول إلى كائن بدائي، ولا نبالغ إذا ما قلنا إنه يمارس شيئاً من الإعاقة العقلية بوعي منه، ولعله لا أحد يرغب بالاعتراف، ولاسيما الصهيونية عينها بأنها أمست جزءاً من تاريخ دموي.. كما تنبأت الفيلسوفة اليهودية حنة أرنت، ما يعني حتمية فناء الكيان لأنه قام على أسس واهية، ولا يمكن أن ندرك كيف لعاقل أن يتقبل أو يتعاطف مع هذا الوجود المشوّه، الذي قام على الجثث والدماء!
لا يوجد خلف الفلسطيني جدار يمكن أن يتكئ عليه سوى ذاته، فثمة دروس ينبغي أن تعلمها، كما ثمة تراكم تاريخي ومعرفي وخبرة تقول، بأنه رغم السياقات التي تضغط تجاه تصفية هذه القضية، غير أن الفلسطيني على المستوى الشعبي، وفي لاوعيه الثقافي، يدرك أنه لن يتقبل محو الوجود. وعلى الرغم من رمزية القضية الفلسطينية، وأبعادها الدينية والثقافية والتاريخية والحضارية، وما يكمن من ذخيرة تكمن خلف هذا الوجود عبر الثقل الإسلامي والعربي والإنساني، غير أن المحكات على مستوى الممارسة مرهونة بالوعي الفلسطيني الذي يقود هذا النضال، وهو لن يتوقف أو يتقبل عملية التصفية الحضارية الوجودية، ففلسطين مسكونة بتاريخها، ورمزية المعنى الإسلامي، كما العربي الذي لن يكتمل إلا بفلسطين، وحين لا تكون فلسطين لن يكون هناك من شيء، لأن وجود فلسطين مركزي… ولا يمكن أن تغتفر أي محاولة لإقصائه.
لن تكون شيرين الأخيرة، لكنها ستكون جزءاً من أيقونات الفلسطيني، إذ تصطف شيرين مع كل شهيد، ومع كل مثقف وصحافي ومسعف ومقاتل وطفل مع كل مهجر ولاجئ.. هي جزء من خطاب غسان كنفاني وناجي العلي ومحمود الهمشري وعلي حسن سلامة وغيرهم ممن اغتالهم الكيان الصهيوني، شيرين جزء من تتمة كلمة عبد الرحيم محمود ومحمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم.
شيرين جاءت من بعيد كي تعيد الفلسطيني إلى وحدته، لتصل أجزاء أرضها التي تشظّت مع الاتفاقيات، لتعيد موضعة الجغرافيا الفلسطينية، وتعيد قيمة فلسطين بوصفها أرض الأنبياء والرسل، وأرض جميع الديانات، لقد حملت شيرين على أكتاف المسلمين والمسيحيين في مشهد بدا اعتياديا، وغير اعتيادي.. اعتياديا لأن بعض الأجيال لم تشهده من قبل، وبعض الأجيال شهدته مع استشهاد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والشاعر محمود درويش، لكنهم اعتادوا أيضاً أن تجوب مواكب الشهداء القرى والمدن والمخيمات… هكذا عبرت شيرين بعد أن مضى ربع قرن من عمرها، وهي تجوب فلسطين… تنقل الحدث الذي ينتهي بتوقيع اسمها، مع التأكيد على ذكر فلسطين أو القدس أو الأراضي المحتلة، كما كل قرية ومدينة ومخيم… ربع قرن من ذاكرة الفلسطينيين صاغته شيرين بتقاريرها الصحافية، وهكذا مكثت شيرين في وعي الأجيال الفلسطينية.. هكذا هي شيرين لم تكن تؤدي عملاً وحسب، إنما كانت تؤدي شغفها وإيمانها بالحقيقة والإنسانية، والأهم قضيتها، كانت تحب الأرض التي تقف عليها، شيرين كانت تثق بالأرض.. لهذا اختارت أن تعانق الأرض التي أحبتها.
كاتب فلسطيني أردني
أحسنت النشر ابن العم