لمسنا عبر التجارب الشعرية العالمية أن الشعراء الذين يعيشون حياة قصيرة يخلّفون في الغالب الأعم قصائد خالدة، تحتفي بها الأبدية ويقرّبها الخلود من لمسته الزمنية، وتجسد ذلك في تجارب شعرية عربية وعالمية عديدة، وعبر أوقات وأزمنة مختلفة من عمر الإبداع العالمي.
ثمة تجارب كثيرة لا تحصى في العالمية، وتمكن الإشارة هنا إلى شعراء إنكليز وبريطانيين كثيرين، أبرزهم جون كيتس، ذائع الصيت، المتمتع بالموهبة، وحياته القصيرة التي لم تبلغ ثلاثين عاماً، وكذلك مواطنه بايرون، والفرنسي الأشهر جان آرثر رامبو، ومواطنه لامارتين، وهناك الشاعر الهنغاري جوزيف أتيلا، والكثير غيرهم من ألمان وإيطاليين. وفي العربية على سبيل المثال لا الحصر، هناك بدر شاكر السياب وأبو القاسم الشابي، ومن الجيل الأحدث رياض الصالح الحسين، ودعد حداد، وهنا أتحدث عن الشعراء الذين انتهوا في العشرينيات من عمرهم، أو وهم في مطلع الثلاثين ووسطها كالسياب على سبيل المثال، لكن عطاءه كان كبيراً ومثيراً ومتميزاً، على صعيد الإبداع والابتكار والتجديد والتجاوز. وهناك شعراء مهمون وكبار انتهوا في الأربعين، وما يقارب الخمسين، لكن هذا يعد عمراً مناسباً إلى حد ما في قياس تلك الأزمنة، التي تناوشتها الأوبئة، وانعدام السلامة الصحية ومستلزماتها، في تلك الأوقات الحرجة من عصر الكولونيالات الغاربة.
وعوداً على بدء تنبغي الإشارة في هذا المضمار إلى شاعرة يابانية تنضم بقوة شعرها، وبسطوع جماله وحكمته ولوعته، إلى هذا الرعيل من المبدعين المبكرين في الإبداع والرحيل عن الدنيا، وهي الشاعرة تويوتاما تسونو، التي عبر قراءتي وتمعّني بصنيعها، وجدتها تنضم، بدون شك، إلى هذه الكوكبة اللامعة من المبدعين الراحلين باكراً عن الحياة، والساقطين بدون وعي منهم في الخلود، خلود شعرهم، الذي أشار إلى هذه الميّزة بلا دعاية ودراسات وتنظير، ولفْت الانتباه بقوة العلاقات العامة وليس بقوة إبداعهم.
عاشت الشاعرة اليابانية تويوتاما تسونو اثنين وثلاثين عاماً، وهي المولودة في جزيرة هايكودو الواقعة شمال اليابان عام 1896 وغابت عن عالمنا في عام 1928 في باريس، بعد أن تزوجت وهي في مطالع حياتها من مهندس شاب أخذها إلى العاصمة طوكيو، ومن ثم إلى فرنسا، لتصاب بالسل، وتنتهي في مدينة النور هناك، مخلفة قصائد لافتة، نادرة وقليلة.
تطرح قصائد تويوتاما تسونو في المختارات التي وقعت بين أيدينا، وهي من ترجمة السوري عبدو زغبور، جملة غايات جمالية وفنية وفكرية وفلسفية، ورؤيوية وبنيوية، في تبني الحكمة وبنائها في إطار قصيدة قصيرة ومكثفة، تخاطب الطبيعة بعمق وفن ودراية، ولها حساباتها البنائية والفنية والقياسية، بل هنا نحن في هذه الأشعار أمام عالم متشذر، أي أننا أمام بناء ينتسب إلى صفة التشذير، وبعبارة أدق نحن أمام القُصيِّدة، الشذرة، وهي شذرة بارعة، تنطوي في بنائها الدلائلي على مدلولات كثيرة، وعلى رموز ومعطيات استعارية واضحة كالبلور كقولها:
«على معطفك المعلق في الممر
استقرّ شيء منك،
الأكتاف، الأكمام، آه إنّه ينفذ إلى داخلي».
«أن تكون يده الماهرة
مرتبكة هكذا
إذا أراد نزع الحرير عن كتفي!
آه أرتعش شاكرة».
«زوبعي يا أشجار شجرة الكرز
في ريح الربيع واستمرّي
إلى أن تصلي عتبة داره».
في هذا الشعر الرقيق كالحرير، يتسلل الحب ونداءاته الداخلية، وهي تغلي بالشوق واللقاء، وتتمنى العناق مع الغائب والبعيد، فحتى الأشياء في هذا الحب تتحول إلى كائنات حية، تتحرك وتسمع وترى، ولها مفعول سحري، إنه الشعر الذي ينفذ إلى الداخل، ينفذ إلى الأعماق، يهيمن ويزخر بالمعاني اللامعة والباهرة، تلك التي تضيء نسيج الأبيات من باطنها غير المرئي، ألا وهو المعنى المحجوب والمخفي، كما يتبدى لنا في هذا المجتزأ:
«إذا أردتُ فهمكَ
تتبلبل أفكاري
لكن عندما أرقد إلى جانبكَ،
مؤتمنةً لك في الليل
يكتنفني السلام».
أو في المقطع الآتي:
«يقود خطواتي أثناء الرقص
أريد كل شيء يريده
ولو كان ذلك الفراق».
تقدم تويوتاما ومن خلال مختبرها الشعري القصير، تجربة ملهمة حول الشغف والعاطفة، والحب المشوب بالاحتراق واللوعة الدفينة في الطوايا، ناسجة وبنول منسوج من الرقة والنعومة والرهافة، الكثير من التعابير الجمالية، تلك التي لا تتوقف عند معنى الحب وردائفه، بل تتخطاه إلى معنى الحياة والوجود وطبيعة الكائن البشري. هي هنا، رغم قصر عمرها، لاحظناها تمزج كل هذه المعاني في تداعيات أعماقها، لتبرهن في المآل، بالصنيع البارق والمخترق لحظة وجودنا، على الرغم من مرور مئة عام على كتابة هذه الأشعار المنحازة إلى الأزل، وفي هذا المنحى تقول:
«في الليل حين تشعر/ في المدينة الغريبة/ بلمسة رقيقة على قلبك/ اعلمْ أنها يدي»/ «تأمّل الوردة التي تريد التفتّح…/ هاجس حول أصل الوجود»/ «ومع أني أعرفُ أنك ناء في البعيد/ إلا أنني جفلتُ من أعماق روحي/ عندما لاح لي رجلٌ يشبهك».
وعن الأبدية التي نراها في الشعر الباقي والمؤثر، الذي يدوم طويلاً، مثل أي فن راق وباق وخالد، نراها تمزج الأبد بالطبيعة بطريقة مثلى، كما هي العادة في الشعر الياباني: «تزهرُ سريعاً وسريعاً تموت/ شجرة الورد البريّة، لكن وردة البنغال، تتردّد طويلاً/ قبل أن تتفتح…/ آه يا نفحة الأبدية».
وحين نمعن عمقياً في الشعر الياباني عامة، ومن ضمنه الهايكو، نجد الدوال والانزياحات اللغوية والتعبيرية في نسق القصيدة اليابانية، وهي عموماً قصيدة مختزلة، ومشذبة ومتقشفة لغوياً، نلفيها مكتنزة بالرؤى، وبظلال فلسفية، مصحوبة بمسحة من الحكمة والتبتل الوجودي، والانغماس باللحظة المعيشة، كل ذلك نعثر عليه وهو يكسو بنيتها العامة:
«عند إغلاق مصراعي الباب
يتجمع نصفا شجرة الكامليا ثانية
لو كان دائماً بهذه السهولة
توحيد المنفصلين».
«نشر القيقب
سجادة من الديباج الذهبي
على طريقنا
كيف عرف أنك ستعود اليوم».
«كنُدَف الثلج التي تختفي بدون أثر
في تموّج البحر الرمادي
هكذا يختفي الناس
في تموّج الزمن».
نجد مدلول الزمن وما يماثله كالوقت والحين والدهر، يتردد كثيراً في الشعر الياباني، فالزمن بالنسبة للشعراء عامة، وفي أي مكان، هو جوهر الحياة، وعليه تنبني مجمل تفاصيلنا اليومية، وعندما وجد الشاعر الحياة قصيرة، وليس ثمة من وجود دائم له، حلّت رؤياه في الشعر عله يلامس الأزل في بيت شعري ما، في قول قاله في يوم ما، في تعبير لاح له ووجده، فيراه أنه يمثله، ويحمل عنه عبء المرور العابر في الزمن والحياة، ويعطي بذلك مدلولاً ومعنى لحياته القصيرة، وكذلك الفنان والمبدع في المجالات الأخرى، تلك التي تتعلق بالفن والابتكار والخلق، فهو أيضاً يداري الزمن ويحاول كسبه إلى جانبه، أي يغريه بما يقدمه من رؤى، وفن وحكمة كامنة في قول شعري، كما نراه لدى شاعرتنا وهي تقول:
«أنظر صوب أوراق شجرة البتولا/ السابحة في ضوء القمر،/ كأنّ الكون قريبٌ جداً»/ «حين تلامس الإصبع الممتدة السعادة/ تنتهي تلك السعادة»/ «الريح التي تمسحُ على وجهي برفق/ قادمة من الغرب/ من الغرب حيث أنتَ/لا بد أنّها لمست يديك».
وكذلك هي مع الحب وتجلياته، وتهدجاته، ومقاماته، وأحواله الكثيرة التي تمتح منها الشاعرة، وها هي ذي تنزح الصور والإشراقات من بئر الخيال، لتقدم توليفتها مشرقة المعنى، حافلة بالإشارات والضوء الذي تند عنه هذه الإشراقة الحبية:
«ظل المساء،
اشتعل ضوء المنارة
بدون أن يلاحظه أحد…
هكذا اشتعل الحبّ فيّ أيضاً».
«لا تأتِ إليّ الآن
أيّها النوم المعتم!
ما زال عليّ التفكير فيه».
«إذا كان وجهكَ فوقي
تطلب عيناي الرحمة
لكنَّ يديَّ لا تعرفان ذلك».
قدّم المترجم السوري الشاعرة اليابانية تويوتاما تسونو بلغة دقيقة ومشرقة كشعر الشاعرة، وهي تغور في جوف عالمها، مستنطقة الطبيعة والكون والوجود.
تويوتاما تسونو: «شعر منسدل»
ترجمة: عبدو زغبور
دار ورد للنشر والتوزيع، دمشق 2019
164 صفحة.
٭ شاعر عراقي