الإبداع وفق ما توصّل الإنسان وما لم يتوصّل إليه من معرفة، ما زال عمليةً ملتبَسة، لكنّه يجد بعض مفاتيح أبواب التباسه في ما كشف العلم وما هجس به الشعراء، من أنّ الكون الذي نعيش فيه ويحيطنا بعناصره وكائناته المركّبة من هذه العناصر، هو كونٌ مترابط، بصورة مدهشة لمن تعمق أكثر في أسراره. ولا يخدعنّك الشعراء، بوعي منهم أو بدونه، إن كانوا يعنون القصيدة فقط بما يتحدثون عنه في عملية الإبداع، فهذه العملية، وفقاً لما يُلاحظ من إكثار شعراء الحداثة وما بعدها الحديثِ عن تداخل عملية الكتابة بما يتحدثون عنه، تعمّ الترابط الكونيّ المدهش الذي يتكشّف أكثر كلّما فتحت التكنولوجيا للإنسان آفاقاً جديدةً.
“كم حلّقَ بي
هذا الشعرُ لأعلى علْيَينِ
وعادَ ليقذفَ بي من قمةِ جبلٍ شاهقْ
كم بتُّ أسائلُ نفسي
مشتملاً جلبابَ الحيرةِ:
من منّا المخلوقُ ومن منّا الخالقْ؟”
في “مدخل” مجموعته الشعرية “عشاء وحيد لروحي الوحيدة” والذي يعني به الشاعر السعودي عبد الوهاب أبو زيد قصيدتَه، يتجلّى تركيز الشاعر على الشّعر وتساؤلاته حول عملية الإبداع، ويدلّل تعريفه للقصيدة بعد هذا المدخل، على همّه حول كونها، الذي يتلبّسه، ويخصّص له مجموعةً شعرية كاملة، تتخطّى محاولته في أن يكون القصيدة وتكونه، إلى تجلّي الارتباط الكوني بين العناصر، بتركيزٍ على جهة الشِّعر كمحورٍ لصورة هذا الارتباط. وتتألّق المجموعة في نظمها هذا المحورُ كعقدٍ فريد لا تضير نقاءه تداخلات القصائد مع شعراء متوّجين بالمتنبّي، ومحمود درويش الذي تهيمن روحه على المجموعة، من دون ضير الشاعر الاعتراف بتأثيره على شاعرها وأقرانه في خطابه الرثائي الذي لا يخرج عن فلك محورة المجموعة لنفسها حول الشعر:
“وتركتَ من أثر الفراشةِ/ في طريقك ما تركتَ/ نفضتَ كفيكَ الملطختينِ/ بالحبرِ الإلهي الشفيفِ/ لتسقطَ الكلماتُ مثل الخبز/ ساخنةً بأرواحِ الذينَ تشرّبوكَ/ فأورقت أغصانُهم،/ ونما على أعضائهم/ وردٌ سماويٌّ وحفّهُمُ غمامُ”.
في عَشائه الوحيد الذي يقدم فيه خبزَ جسده، ونبيذَ دمه لقارئه، يضعُ الشاعر أبو زيد مجموعته في بنية ظاهرة تتكون من مدخلٍ يليه تعريفٌ للقصيدة يشي برؤيته عن شرط نيلها شرف انتمائها إلى الشعر، تحت عنوان “محاولات بائسة لتعريف القصيدة”. وتلي ذلك واحدٌ وسبعون قصيدةً تأخذ الأخيرة منها عنوان “خاتمة”، وتُفصح عن رؤية الشاعر للترابط بين موجودات الطبيعة، من خلال الشاعر الذي يحمل وصايا الموجودات والشعر في أن يكونَ الشعر والموجودات: “وقالت لي الشمسُ: كُنْ مشرقًا ومضيئاً/ وأرسلْ خيوطك فوق المدائن، فوق القرى!/ وقال الضبابْ :كُنْ شفيفًا رهيفاً!/ وقال الحجرْ: لُذْ بصمتكَ مثليَ، وابقَ خفيفاً خفيفاً!/ وقال المطرْ /:امتلءْ بي إذا رُفِعتْ للسماءِ الأيادي/ لتسقطَ فوق التراب! / كُنْ حروفاً وأسدلْ عليكَ سطورَ الكتاب!. / قالتِ الكلماتُ /وقال لي الشعر: كُنْ شاعراً/ لتهيمَ إلى آخر العمرِ/ في كلِّ وادِ!”.
وتتداخل القصائد من دون ترتيب بين أربعٍ وخمسين قصيدة تفعيلة، وسبعة عشر قصيدة لا تُصنَّف كلاسيكية رغم نهجها شكل القصيدة العمودي، لكونها تحمل رؤية المفهوم الحديث عن الشعر، ومكتوبة بسطور قصيدة التفعيلة، وتَسْبح خارج رتابة بحيرة القصيدة العمودية.
في بحر هذا العشاء المليء بثمار لا تعدّ حول الإبداع، وداخل بنيته العميقة الزاخرة بتفاصيل عملية إبداع الشعر، يمكن تعداد بعض جمان عقد المجموعة، الذي يتجلّى فيه الشعر كفعل خلق للشاعر والقارئ، بما يعنيه الخلق من ترابط، ينتج معتقدات الإنسان التي تولّد صراعاته، ومثاقل آثامه، وتصورات خلاصه؛ كأمثلة:
ـــ الشعر خطيئة آدم الأولى، التي حرّكت الحياة على الأرض بعد سكون موتها في الجنّة، ومسرى الأنبياء إلى مدنهم الفاضلة، في التأمّل والكشف ومواجهة النور للتنوير: “والشعرُ همزةُ وصلٍ تقودُ خطايَ/ إلى الماوراءِ/ وما يتلامعُ من أنجمٍ في سمائي/ وطُوري ومُعْتَزلي في العراءِ وغارُ حرائي/ وحائي وبائي/ وطيارتي الورقيةُ أرسلها في الفضاءِ”.
ـــ الشعر نديم الشاعر ومُبادِلَه في الخلق، بتداخل الشاعر مع إشراقات محمد الثبيتي الذي اشتهر سطرا شعره: صُبّ لنا وطناً في الكؤوس/ يدير الرؤوس”، في خطابه لشريكه الشعر: “إذا جنَّني الليلُ صحتُ به:/ يا نديمي/ تعالَ إلى حانةِ الروحِ/ حتى نجيبَ نداءَ الكؤوسْ/ وحتى نديرَ الرؤوسْ/ ونصبحَ من فرطِ نشوتنا خالقينِ/ فأنفخ فيك الحياةَ/ وتحيي رميمي”.
ـــ الشعر شيطان الموسيقى المحرّض على معصية ثبات الإيقاع، الشعر انفلات الروح من قيد فلك الإيقاع الزمني، التوقُ المعذّب إلى الحرية حتى حدود إحساس الشاعر بوطأة ما يفعلُ “سجن الإيقاع” من تكبيلٍ لقدرته على فرد جناحيه بالاتساع الذي تتوق إليه نفسه، وإلى حدود تمنّيه الهرب إلى طلاقة قصيدة النثر، ولكنْ:
“أحياناً أشعرُ أنيَ محبوسٌ/ في سجنِ الإيقاعِ/ تساورني الرغبةُ في أن أتفلّتَ منهُ، /وأهربَ نحو وَسَاعَاتِ النثرِ/ وأسرحَ في غابتهِ المسقوفةِ/ بفضاءٍ أرحبَ/ بسماءٍ زرقتها/ أكثرُ إغراءً/ لكنْ/ ما الحيلةُ/ وأنا محضُ وسيطٍ/ تتسللُ عبري الأنغامُ/ وتتخذُ لها من كلماتٍ/ تتلبَّسُني جسدا”.
ـــ الشعر اختلاط الحواس السورياليّ، الكتابة الآلية التي ينقلها رسول الوحي “شعرائيل” كما يسميه الشاعر، قرين جبريل في غار حراء، الشعر السّاري بالكلمات على براق النبيّ، وإيقاع روح محمود درويش في قصيدة “أمّي”، الشعر كتابة الماء على الماء، المتداخل بسورة العاديات في القرآن ووافر بحر مديح المتنبّي.
ـــ الشعر جسر العابرين، وأرجوحة الحيارى ما بين عالمنا الأرضي والغيب، الشعر الكائن الكامن بين الظلام والضياء، المتجسّد لحظة الشعر بما يتجسّد، الشعر تأرجح الشاعر على الصراط الفاصل بين الضلالة والظلال، في مداخلته مع أبيات الشاعر هاشم الجحدلي: “في مساء قديم/ بين جيمين من جنة وجحيم/ مادت الأرض بي/ فتهاويت في الماء/ بعضي يرمم بعضي الرميم”. وتشكّله على صورة: “لكأنني أصغي لهمسٍ قادمٍ من قَعرِ هاويتي:/ أنا الَملَكُ الرجيمْ!/ ما بين جيمينِ انوجدتُ، وسرتُ في دربِ/ الضلالةِ والظلالِ، وما اهتديتُ إلى صراطٍ مستقيمْ!”.
ـــ الشعر هو النار غير ذات اللهب، زهرة النار في مقلة الشاعر المستحيل طفلاً لحظة الشعر، وهو سارق النار بروميثيوس، الذي على غير ما يتمنّن أبوه على الخلق: “يعيد لكم ما ضاع منكم جهالةً/ ولا يبتغي حمداً ولا يرتجي شكرا”.
ـــ الشعر حيث “لا عاصم إلا الشّعر من القبح الجاثم كالكابوس على صدر العالم”، مسيحٌ جديدٌ، الشعر دم المسيح الذي يحرق إنجيل الوصايا بالتداخل مع صلب المسيح المخلّص.
ـــ الشعر حياةٌ جديدة على مائدة عشاء الشاعر الوحيد، وسببٌ للحياة، بالتداخل مع أمل محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”. الشعر باعث الحياة في الموجودات، الذي: “لو أنّا أنزلنا هذا الشعرَ على جبلٍ/ لتمايلَ طربا/ أو أنّا أنزلناه على نجمٍ ناءٍ/ لدنا واقتربا”.
ـــ الشعر سرير الورق، صلاة الندى، نحلة الكلمات، حديقة القمر، والقصيدةُ أنثى الشاعر.
ـــ والشعر ترابط الكون في ارتحال الشاعر وتجواله وحيداً في صحراء الكلمات المسحورة.
ويمكن للقارئ بوضوح ملاحظة تداخلات قصائد المجموعة سواء في المضمون وفي الشكل، مع التراث الديني من القرآن والأنبياء، ومن التراث الأدبي التاريخي الذي يأتي على رأسه المتنبي، ومن تراث الحداثة الذي يأتي في مقدمته محمود درويش، وعلى الأخص تداخل مقطع: “قمرٌ على بعلبك، ودمٌ على بيروت” في قصيدة بيروت، مع قصيدة “نبيّ يرتل شعراً”. بالإضافة إلى التداخل مع بقية الشعراء في القسم الأخير من المجموعة، والذي ضم خمسة عشر قصيدة معظمها مرثيّات لشعراء أصدقاء للشاعر، من دون الخروج عن خط المجموعة في محورة نفسها حول الشعر.
ومن المهم في هذه الملاحظة الإشارة إلى مدى ما يثيره هذا التداخل في مجموعةٍ تركز على نقاء الشعر من صوت الآخر حتى انعكاس وجه الشاعر في صفحة مياه كوكب المريخ، والتساؤل عن تأثير هذا التداخل في تفّرد القصائد. غير أن النظر بعمق إلى هذا التداخل وعيشه يفصح عن ثراء ما يمتلك الشاعر من معرفةٍ بالشعر، وإثراءِ قصيدته بهذه المعرفة التي تشكّل متعةً مضافة لذائقة القارئ المطّلع. بالإضافة إلى تميّز القصيدة برؤيةٍ ولغةٍ حديثتين، مع استخدامها جمالَ السّرد الشعري المميّز لأحدث إبداعات قصيدة النثر، وإن بإيقاعات البحور المختلطة التفعيلات، والتتفعيلات الصافية. ويمكن للناقد والقارئ، الخبيرين ببحور الشعر العمودي وشعر التفعيلة، رؤية الجهد الخلّاق المبذول في تشكيل قصيدة “ماء الحنين ـــ إلى حسن السّبع في وداعه”، بالتداخل مع تشكيل قصيدة المتنبي: “نُعِدُّ المشرفيّة والعوالي/ وتقتلُنا المنونُ بلا قتالِ”، على بحر الوافر، وخلق الشاعر لتشكيل يُزاوج بين الصيغة العمودية التي سار عليها في المقطع الأول للقصيدة: “ملأتَ يديك من عسلِ الغيابِ/ وأطلقتَ السؤالَ بلا جوابِ”، وصيغة قصيدة التفعيلة في المقطع الثاني، والتي تَختُم مقاطعَها الحرّة المنسرحة بقفلات تفعيلات بحر الوافر، لتُنتج شكلَ ما يريد الشاعر التميّز به من تفرّد.
عبد الوهاب أبو زيد: “عشاء وحيد لروحي الوحيدة“
خطوط وظلال، عمّان، 2020
173 صفحة.