صخرة الديمقراطية بين القمم والقاع
د. علي محمد فخروصخرة الديمقراطية بين القمم والقاعتمٌّر الغالبية السًّاحقة من بلدان العرب بتراجعات في مسيرتها الديمقراطية. وعندما يقارن المشاهد زخم الأمل الديمقراطي في أغلب بلاد العرب منذ بضع سنوات بالتراجعات الكثيرة التي تشهدها اليوم، فانه يدرك أن صخرة الديمقراطية عند العرب تشبه صخرة البطل الإغريقي سيسيفوس التي ما إن يوصلها البطل قريباً من قمة الجبل حتي تتدحرج إلي القاع. إن تلك اللعنة التي كتبها الإله زيوس علي البطل هي معنا وأولاد وأحفاد زيوس يتأكدون من عيشنا الدائم لتلك اللعنة.فقبل أكثر من قرن تطلًّع العرب نحو الديمقراطية. لكن ما إن بدأوا مسيرتهم حتي تدخًّل آلهة الاستعمار، ثم العساكر وأجهزتهم القمعية، ثم الوجود الصهيوني وإفرازاته، ثم دولة البترول الريعية القادرة علي الشراء، ثم جنون الأصولية المسيحية الأمريكية، فساهموا كل بطريقته الخاصة في إخفاق مشاريع الديمقراطية أو في تزويرها لتصبح شكلية بلا مضمون. أما الإله زيوس الأمريكي فقد احتلًّ العراق باسم الديمقراطية ليجعله جيفة نتنة، فيبدأ الناس بالتساؤل المشكٍّك: أهذه هي الديمقراطية؟لكن من الضروري الإيمان بأن الرٌّضوخ والإذعان لتلك اللًّعنة لن يجدي، ذلك أن أكبر معضلات العرب ستحتاج لصخرة الديمقراطية من أجل مواجهتها. فأولاً هناك الإرث التاريخي لظاهرة الإستبداد في الحكم، والتي فرًّخت عبر السنين ثقافة وطبائع السيطرة والاستبداد في كل مستويات وحقول المجتمعات العربية. هذا الإرث في الفكر والممارسة الاستبداديًّين نحتاج إلي تصحيحه والخروج من تحت عباءته وتغيير مساره نحو كل ماهو ضدًّه.وثانياً هناك المشروع النهضوي العربي المتعثرة كل مكوناته الستة بسبب غياب الديمقراطية. فالفساد المالي والنُّهب الواسع للثروات من قبل البعض في السلطة دون وجود مؤسسات ورقابة ديمقراطية سيجعل الحديث عن التنمية العربية نوعاً من الهذر. والوحدة العربية لن تتحقق علي يد مغامرين أو إنتهازيين لايستفتون شعوبهم بشأنها. والتجديد الحضاري يحتاج إلي حرية التفكير والتعبير والتسامح. والعدالة الاجتماعية هي لبُّ وروح الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية. والإستقلال الوطني لايمكن أن يحافظ عليه نظام حكم يعتمد في بقائه وشرعيته علي رضي القوي الخارجية الاستعمارية. وهكذا فتلك المكونات الخمسة يعتمد تحققها إلي حدٍّ كبير علي المكون السادس وهي الديمقراطية. وثالثاً هناك معضلة إنقسامات المجتمع العربي الحادُّة والتاريخية علي أسس قبلية وعرقية ودينية ومذهبية وإيديولوجية. وقد أنهكت تلك الإنقسامات والصٍّراعات المجتمع العربي عبر القرون. ولايستطيع الإنسان تجاهل الصٍّراعات السياسية بين الإسلاميين والقوميين واليساريين والليبراليين عبر القرن الماضي كله والتي لاتزال معنا. ولقد استطاعت الدولة العربية القوية المستبدة جعل تلك الصٍّراعات تحت السيطرة، بل واستفادت من ترجيح كفًّة هذه الجماعة أو تلك لصالحها. فأطفأت تلك الدولة النار لكنها حتما لم تٌزل الرًّماد القابل للإشتعال في أية لحظة. وها نحن نري النيران تشتعل في كل بلاد العرب بعد أن ضعفت الكثير من السلطات العربية. ومرة أخري فإن الحلًّ هو تعايش الأفكار والمكونات والثقافات والأصول دون استئصال لأحد، وهذا لا يمكن أن يكون إلاً في الأجواء الديمقراطية المتسامحة.ورابعاً هناك معضلة التعامل مع الآخر، مع الغرب الاستعماري منذ الحروب الصليبية ومع الصهيونية الاستيطانية منذ ضياع فلسطين. إن عودة الاستعمار في شكل احتلالات كاحتلال العراق وتدخلات سافرة كما نراه في لبنان والسودان والصومال وتواجد كما تسمح به الاتفاقيات الأمنية المتزايدة، وإن التوسع الهائل في المشروع والوجود الصهيوني كما تشهد عليه التراجعات الفلسطينية وخطوات التطبيع، إن كل ذلك يعني أن النظام العربي الرسمي قد وصل مرحلة العقم ويحتاج إلي مجتمعاته المدنية لتعينه علي الخروج من أزماته.إن الدولة العربية الحالية في محنة أيُّاً تكون الإيديولوجية التي تتبعها. إنها دولة يحكمها بصورة عامة نظام سياسي فاسد، وتعيش علي اقتصاد ريعي غير إنتاجي، ويتبعها مجتمع مقموع سلبي، وتتجاذبها قوي خارجية طامعة أو حاقدة، إنها دولة في خطر كبير ولا يمكن أن يعالج معضلاتها تلك إلاً نظام ديمقراطي يجعل المواطنين لاعبين أساسيين ويجعل المجتمع مساويا لسلطة الدولة. المطلوب أن لانسمح بأي تراجع للديمقراطية العربية الوليدة.9