الجامع المشترك بين فرنسا وتركيا هو الإكثار من لفظ «الجمهورية» كما لو أنّه مضمون يدلّ على ذاته بذاته. ولأجل ذلك أيضاً يقدّم «تصادم الجمهوريتين العلمانيتين» مختبراً مثالياً لرصد ما يمكن أن تجرّه «المحاكاة» من احتقان بين المتشابهَين إذا ما عُدنا لمقاربة رينيه جيرار لأنثروبولوجيا العنف.
ليس بالتماثل يكون التشابه: ففرنسا قائمة علمانيتها على مبدأ الفصل بين الدولة والكنيسة. أما تركيا فعلمانيتها إدماج للشؤون الدينية بدولة بلا دين إلا هلال علمها. وعلمانية فرنسا «ما بعد مسيحية» في حين تعكف تركيا على التحوّل من علمانية عسكرية ما بعد إسلاميّة إلى علمانية إسلامية مدنيّة بإرث سلطانيّ.
تاريخياً، لعبت المجانسة العنيفة، سواء كانت دينية أو إثنية أو لغوية، دوراً أساسياً لإقتضاء هذا النوع من العلمنة والجمهوروية في البلدين. في الوقت نفسه، وعلى غرار المصالحة بين إرث الجمهورية وبين تركة السلطنة عند أردوغان، ينادي ماكرون بمصالحة فرنسا الجمهورية بفرنسا الكاثدرائيات. وإذا وجد بين فقهاء الدستور المقارَن من صنّف أساساً «الجمهورية الخامسة» التي أقامها شارل ديغول على أنّها أشبه ما تكون إلى «الملكية الدستورية» ولو كانت من دون ملك متوّج، فقد تنطّح ماكرون، منذ الشكل الذي اختاره لدخوله إلى الإليزيه، لتلبّس هذه الهالة الملكية.
تتصادم اليوم شرق وغرب المتوسط جمهوريتان علمانيتان نوستالجيتان بأشكال ووتائر مختلفة للفترة السابقة على الجمهورية في كل منهما. للناظر من بعيد، واحدة منهما هي «علمانية النصارى» والثانية هي «علمانية المسلمين». الأخيرة احتاجت لتقليص عدد النصارى لتأمين السبيل لعلمانيتها، والثانية تفزع اليوم على علمانيتها من صيرورتها «ثنائية الدين» إسلامية ـ مسيحية، وتطارد هذه الثنائية كشبح إنفصاليّ متناثر جغرافياً.
أما الناظر للأمد الأطول، فربّما كانت عليه مشاركة فابريس بوتييون في كتابه «لا شرعية الجمهوريّة» من حيث تخطئته النظرة للأطروحة التي ترى أن الثورة الفرنسية نجحت في المحصّلة، وأنّ الجمهورية هي نتاج تلك الثورة.
يسخر بوتييون من هذا ويذكّر بأنّه «من 1789 إلى 1914، كل التاريخ السياسي للقرن التاسع عشر الفرنسي يُعلّل بفشل الثورة الفرنسية» وليس نجاحها، وأن الطابع الغالب على تلك الحقبة كان الإفتقاد إلى الشرعية، ويعرّف بوتييون الشرعية على أنّها ما يجعل النظام السياسي في الدولة يبدو مقبولاً من تلقائه، فلا يعود هذا النظام هو محور الصراع السياسي، ويصير هو الإطار الناظم للسياسة. هذا ما ظلّ مفقوداً بعد الثورة، وحتى الحرب الكبرى. لأن كل من أخذ الحكم أخذه عنوة وبالغصب، ولم ينجح بأن يصنع له مشروعيّة لها درجة من المناعة والمُكنة. يضرب بوتييون مثلاً الإستفتاء الذي صوتت عليه أكثرية ساحقة من الفرنسيين لإستمرار الإمبراطورية الثانية قبيل أشهر معدودة من هزيمة نابليون الثالث في سيدان صيف 1870، وكيف تهاوت الإمبراطورية مباشرة كقصر من الورق ما أن علمت بأسر رأسها. الشرعية عند بوتييون استمرّت مفقودة في فرنسا إلى أن تأمنّت بـ«الوحدة المقدّسة» ليمينها ويسارها ضد ألمانيا في حرب 1914. الشرعية الجمهورية هي بنت هذه الحرب، أكثر منها بنت الثورة. هي اذا جمهورية تكابرعلى مصدر شرعيتها. تريده كونياً، وهو قوميّ. تريده ثورياً وهو ثأريّ (حرب 1914 كثأر لهزيمة 1870). المكابرة التركية في مطرح آخر: مكابرة الجمهورية فيها على ما هو «فوق قوميّ» على ما هو «ما بعد عثماني».
كان المقصد من الجمهورية شيئا مختلفا تماماً يوم اعلانها في فرنسا 1792: احياء الجمهورية الرومانية، جمهورية مجلس «الشيوخ والعامة» كما تسمت روما حتى في زمن الإمبراطورية.
كل تاريخ الثورة يحاكي مسرح التاريخ في روما: جمهورية هنا، جمهورية هناك. حكم الثلاثة قناصل هناك، كذا هنا، إمبراطورية هناك ثم هنا، بل ونابليون يكرّس في روما.
الجامع المشترك بين فرنسا وتركيا هو الإكثار من لفظ «الجمهورية» كما لو أنّه مضمون يدلّ على ذاته بذاته. ولأجل ذلك أيضاً يقدّم «تصادم الجمهوريتين العلمانيتين» مختبراً مثالياً لرصد ما يمكن أن تجرّه «المحاكاة» من احتقان بين المتشابهَين
دون هذه المحاكاة لا سبيل لفهم ما قصده الفرنسيون بالثورة. في «الثامن عشر من برومير» يفسّر لنا كارل ماركس كيف أن «كميل ديمولان ودانتون وروبسبيير وسان جوست ونابليون، أبطال الثورة الفرنسية الأولى، كما أحزابها وجماهيرها الشعبية، قد أدوا مهمة زمنهم بأزياء رومانية وبألفاظ رومانية ـ مهمة فك القيود وإقامة المجتمع البرجوازي الحديث». ويقارن بين تقمّص الرومان هنا، وتقمّص كرومويل والإنكليز الزمن التوراتي للعهد القديم في ثورتهم: في الحالتين جرى الإحتياج لهذا القالب لإنجاح الثورة البرجوازية. فـ»المجتمع البرجوازي، مع ما هو عليه من قلة بطولية، اقتضى إخراجه إلى حيز الوجود بطولة وتضحية وإرهابًا وأقتضى حربًا أهلية وحروب خارجية. وقد وجد مجالدوه في التقاليد ذات الصرامة الكلاسيكية التي خلفتها الجمهورية الرومانية، المثل العليا والأشكال الفنية والأوهام التي كانوا في حاجة إليها لكي يخفوا عن أنفسهم ما كان عليه محتوى صراعاتهم من قصور برجوازي ولكي يبقوا حماستهم في المستوى العالي للتراجيديا التاريخية العظيمة».
الفارق أنّ روما كانت أكثر قدرة على تدبّر التعددية وعيش الكونية بما لا يُقاس. في حين أن الجمهورية الفرنسية ظهر عليها «صغر عقل» يكاد يكون منذ البدء. صغر عقل لا يلغي عظمتها في الكثير.
يبدأ «صغر العقل» هذا مع جان جاك روسو «في العقد الاجتماعي» حين يعتبر أن حياة الفرد «ليست فقط عطية من الطبيعة بل هبة مشروطة من الدولة». مع أن روسو يسوق مفهوماً بالغ الأهمية، «الدين المدني»: فعنده أن الدولة لا تقوم بلا دين، ولا بد لها من اصطفاء دين لها، ليس هو دين الإكليروس، لأن السلطة عنده سياسية فقط، مصداق الإرادة العامة، ولا امكانية لثنائية السلطتين الدينية والسياسية ولو بالفصل بينهما، بل أن تقوم سلطة واحدة سياسية فقط، إنما لها دين تبتكره هي. وهنا التباس كثّف فيه روسو الإشكال اللاهوتي – السياسي للحداثة: ففارق كبير بين أن يكون «الدين المدني» للدولة قائم على اصطفاء رموز وروزنامة من الثقافة الدينية المهيمنة أو من مجموع ثقافتين أو أكثر، وبين أن تحوّل الدولة نفسها، بنفسها، إلى دين لنفسها. الدولة التي هي دين نفسها، والتي تنظر إلى حياة الفرد فيها على أنّها منحة من قبلها، بالإتفاق مع انتقال صلاحيات «الخلق من عدم» من الإله إليها، هي دولة مُطبقة على نفسها.
انعكس ذلك عند «عتق اليهود» بعد الثورة، فشدّدت الأخيرة على رفض كل شيء لليهود كأمة واعطاء كل شيء لليهود كأفراد، وتقيّدت بكلام تونير كليرمون يومها بأن اليهود «ينبغي أن لا يشكلوا في الدولة لا جسما سياسيا ولا ركنا قائما بذاته، بل ان يكونوا مواطنين فرادى. لكن، سيقال لي، لا يريدون ذلك. إذا! إذا كانوا لا يريدون ذلك، ليقولوها، وعندها، فلنحظرهم. من المنفر ان تقوم في الدولة جمعية من غير المواطنين، وأمة داخل الأمة». لقد استطاع دمج الانعتاق الحديث لليهود والسامية في قالب واحد: كل شيء لهم كأفراد، ولا شيء لهم كجماعة، لكن إذا شعرنا بأن أحداً منهم خان العهدة سنحظرهم جملة. ولم تتأخر فرنسا الثورية بعد ذلك بسنوات حتى أظهرت نتيجة هذا التناقض. من جهة، تشكيل نابليون لمؤسسة هرمية مركزية لليهود، الكونسيستوار، للإشراف على دمج اليهود كمواطنين وليس كطائفة، وكل حديث عن «إسلام أنوار» من ماكرون يرتبط بتشكيل كونسيستوار إسلامي هذه المرة. المفارقة أن نابليون لم يكد يشرع القانون المدني والكونسيستوار حتى عاد الى الاجراءات التقييدية والتمييزية بازاء اليهود في مرسوم 1808.
«صغر عقل» ضمن كل هذه العظمة التي صنعتها فرنسا بعد الثورة، ذلك المختبر المذهل للتجريب الدستوري والسياسي. اعطاء الحقوق لليهود كمواطنين لا كجماعة، وفي نفس الوقت مخالفة نفر واحد لهذا العقد فيه نسف له. هذا يتكرر اليوم مع إضافة مخيفة: تحويل كل المسلمين خارج فرنسا إلى أولياء للمسلمين داخل فرنسا، مع الطلب من المسلمين داخلها أن يكونوا في نفس الوقت فرنسيين أولاً، وجمهوريين، في جمهورية تستمد شرعيتها من حرب 1914، فيما لا تزال تصطنع أسطورة أنها بنت ثورة 1789.
كاتب لبناني
مقالة عميقة جداً. يسلّم الايادي ??.
شعارات الفرنسيس بالحرية وحقوق الإنسان ما هي إلا واجهة للتطرف العلماني القبيح!
يطالبون بحرية المرأة ولا يسمحون لها بلبس الحجاب بالمدارس والجامعات وووو!! ولا حول ولا قوة الا بالله
فرنسا.. بوجهين.. كما هو كل العالم الغربي.. تنادي بالديموقراطية.. وحرية التعبير.. وعندما يصل الأمر إلى نقد القادة والسياسة.. يتغير كل شيء.. ماكرون وترامب.. مثالا..
الفرق بين الجمهوريتين الفرنسية والتركية.. إن الفرنسية قائمة على مفهوم الحرية الصوري.. الذي يقف عند حد معين.. وهو حرية التدين. والذي ظهر في تضييق الخناق على المسلمين وخاصة الحق في ارتداء الحجاب.. وازمته..
اما الجمهورية التركية.. ففيها حقيقة حرية التدين.. والتي تظهر من خلال ممارسات أهل كل الأديان لشعائرهم دون أي تضييق انطلاقا من قواعد الدين الذي أمر بتلك الحرية.. لا إكراه في الدين… فهل تعي ذلك أوروبا.. وفرنسا.. بالذات..
من علامات نفوذ فرنسا على أي بلد عربي خاصة؛ لأنه اليوم من الأفارقة جنوب الصحراء من تحرر من قيود فرنسا بعد أن عاثت فيهم خرابا؛ أن يرتع عملاؤها ؛ فيهم من هم محسوبون على ” النخبة” المهمشة أصلا في بحر الخيانة؛دون رادع لهم فهم معفيون من المحاسبة من قبل من يقومون مقام فرنسا في الحكم.
أرى هذا النص مفيدا للجمهوريين والعلمانيين والحراكيين في الجزائر.
.فهو يخفض( بشكل صحي )مستوى تطلعاتهم وبالتالي…خيباتهم المتوقعة..شكرا سيد وسام سعادة
علمانية فرنسا لم تعد تتعامل مع اليهود فيها كافراد ولكن كمجموعة يمثلهم الكريف و هناك تصاعد لل communautarime juif بقوة… في حين انها تريد التعامل مع المسلمين كافراد او من خلال منظمات هي تحددها و لا تمثل المسلمين الفرنسيين…