خطرت بذهني عبارة شهيرة عنونت فصلا من فصول مقدمة ابن خلدون: «الظلم مؤذن بخراب العمران»، ولهي أصدق وأقسى خلاصة قالها حكيم المؤرخين. طفقت أبحث لها عن مقابل في أي عامية من عاميات شوارعنا العربية، فلا أدري كيف تسللت إلى ذهني عبارة داعية مصري مشهور حين صادفته يوما على شاشة يقول بقسمَات وجهٍ متمسكن ونبرة مُتكلَّفة: «ما هُو الزُّلْم بِيْبَوَّزْ!» فوقع الحافر على الحافر. تساءلتُ إن كان الرجل قد تنبه أم لا، إلى عمق ما قال وبلاغته على عاميته المستغلقة لولا استئناسنا بالمسلسلات؟ وهل كان يقصد هنا كل أبعاد الظلم وإحداثياته، وخصوصا ذلك الظلم العام المستدام (على غرار التنمية المستدامة) الصامتَ بعدُ، الصامدَ القاصد لهدف أخفى وأبعد مما يتصور المظلوم، هدفٍ استراتيجي يعفن ويُجَيِّفُ الناسَ تجييفا هادئا وهم أحياء يدبون على الأرض. هل كان الرجل صادقا حين نطق العبارة بفم مصري «مليان» وبظاء مصرية مُسِخت زايا تليق بمقام مسخ الظلم للغة والنفس وتعميته على الأفق، أم كان فقط مدغدغا للمشاعر كعادته؟
هذا «الزُّلم» فما بال «بَوَّزَ»!
قد تكون تمصيرا لكلمة مملوكية. وقد تكون الزاي ظاء مُسِخت هي كذلك والبظ سمنة وترهل للعضلات. وقد تكون الزاي أصلية ويكون البز عملية سلبِ الغالب متاعَ المغلوب وثيابَه، وكل ما يملك ليتركه كما ولدَهُ الجورُ فلا يعرفُ غيرَه. وقد يكون أصلُها البَزَاء وهو هيئة يفقد معها الجسم تناسقه. يقال رجلٌ أبزى وامرأة بزواء حين يصير صدرُه محدبا وظهرُه مقعرا كأنه هارب أبدي ينأى بظهره عن سوط الجلاد، وهو المجلود أبا عن جد.
أيا ما كان أصل الكلمة ففيها هي والتي قبلها معنى المسخ والسلب والاحديداب والتقعر والقهر والعري والظهور الفاضح إن أضفنا معنى «البوز» الرقمي الجديد وهو نوع من التسول والاستعطاء. «الزُّلْم بِيْبَوَّزْ!» لأنه يركب في ضحاياه الصامتين صفاتٍ نفسية رديئة وقيما سفلى تصيرُ طبيعة ثانية، إن لم تترسخ لتصير أصلية، يتعهدها صاحبها بالعناية والصيانة ويفخر بها ويقاتل دونها، فيصعب التخلص منها في جيل من الناس أو أكثر، هذا على افتراض أن ماء الظلم الآسنِ توقف ليسنح لماء التغيير العذب أن يغسل العفن الراكد.. لكن هيهات. تلك التركيبة النفسية «البائزة» البائرة تؤبد الظلم بفعل الدور الفاسد بتعبير المناطقة، فمنه تتغذى ومنها يقتات اقتيات آكلِ الجيف..
ركبت سيارة أجرة وفور إقلاعها طفق السائق يشكو الحال والمآل والحظر والحجر. كان يتحسرُ أشدَّ ما يكون التحسرُ على الليل. تجوع المدينة فتأكل من ثدي الليل. الليل له زبائن وله زبونات يدفعن الأجرة مضاعفة ويعطين عطاءَ من لا يخشى الفقر، مقابل الوصول بأمان والعودة بأمان إلى/ ومِن أوكار المهن المَهينة المُهينة (بفتح الميم وضمها) لكن الحظر حرَّم عليه كل ذلك وحرَمَه.
ومع أني ضد تقييد آخر وأبسط مظهر من مظاهر الحرية وهو حرية الحركة ليلا أو نهارا، قلت للسائق، لعلَّ الأمر فيه خير، لعل الحجر والحظر حرَّما عليك الحرام! ثار في وجهي وبكل معنى «التبويزة» و»البواز» التي يحدثها «الزُّلم» بفم الداعية «المليان» قال لي: «سْمْحْ لي!! سْمْحْ لي!! ذاكشي فيه الرزْقْ، ومعهْ الخْدْمَة..» سكت فخيَّم علينا صمت طويل ملأه صوت المحرك. وطال عليه صمتي وأحس بتبرمي من كلامِه، فكأنه بحث عن شيء مستملح يمحو به انطباعي لعلي أضحك والضحك علامة الرضا. وهل ينفعك رضا الناس إن كنتَ غير راضٍ عن نفسك؟
حكى السائق أنه بلغ إلى علمه يوما أن شخصا مرموقا كان يأتي كل يوم جمعة أمام بوابة المستشفى الخلفية، حيث مجمعُ المتسولين، ليعطي صدقات بالأوراق، لا بالقطع المعدنية فقط. حضر السائق هناك بسيارته وركنها في مكان قريب مُتوار خلف بعض أشجار وارفة تظلّل موقف السيارات. صادف وصول سيارة باذخة وتوقفها.
انفتح بابها ببطء ليبرز منها وزير سابق فخم، من جيل الوزراء الأثرياء كابرا عن كابر، على اعتبار أنَّ من يُدير شركة قابضة يمكن أن يُدير دولة، وأن العقد الاجتماعي عقدُ إجارة كبير متعدد الأطراف، وفيه غنى عن أخذ تفاصيل المواطَنة الأليمة بعين الاعتبار، لكن الوزير الفخم المسكين يومها كانت الدنيا قد قلبت له ظهرَ المجن. وقعت له حادثة وكسور خرج منها برجل لم تستقم له أبدا. تقدم نحو كوكبة المتسولين يعرج مستندا إلى عكازته، وعلى مسافة منه شخص يبدو من حرسه الخاص. فور رؤيته هب الجمع إليه هبة متسول واحد. طفق يتناول من جراب صغير معه أوراقا مالية جارحة الأطراف من فرط الجدَّة. أخذ يناولها ذات اليمين وذات الشمال، وكلما ناول شخصا سأله الدعاء بشفاء رجله وعودتها سيرتَها الأولى. يحكي صاحبنا سائق سيارة الأجرة بمرح كبير كيف أنه قد حمل في سيارته كل قمصانه وجلابيبه وطرابيشه بألوانها المختلفة. كان يدخل وسط كوكبة المتسولين بجلباب، يأخذ مبلغا من يد الوزير، ثم يختفي ليعود بسرعة إلى سيارته ويغير ملابسه، ويأتي بهيئة مغايرة، ينسلك في كوكبة المتسولين من جديد ثم يأخذ مبلغا آخر في غفلة من الوزير أو تغافل. وهكذا جيئة وذهابا حتى أتم رصيد بدلات التمويه. فأقسم لي أنه حصَّلَ يومها ألفين وخمسمئة درهم عاد بها فرحا فرحة ممزوجة بالمرارة، لأنه لم يأت بمزيد من ثياب التمويه والتضليل..
نظر إليّ السائق وفي عينيه بقية من تلك المفخرة، كأنها شعاعٌ عتيق وصل من ثقب أسود في فجر كينونته. سألته: «وهل دعوتَ للوزير بالشفاء؟» أجاب هازئا: «الله يلعن كذا وكذا.. والله لقد دعوت عليه أن تلحق رجلُه اليسرى باليمنى، لينال جزاءه ويسترد الدراويش ما نهبه أمثاله منهم.. هل مهمته أن يصلح البلاد أم أن يوزع الفتات على العباد؟».
الظلم مؤذن بخراب العمران، وربما تصدُّق الظالم مؤذنٌ بخراب الإنسان.
كاتب مغربي