صدرت حديثاً في بيروت، عن الدار العربية للعلوم ناشرون، النسخة العربية من رواية «الشاه والسلطان» للروائي التركي، إسكندر بالا، ، ترجمة معن عبد الرحمن الكشك، الطبعة الأولى يونيو/حزيران 2018. يبدأ المؤرخ كتابه بعبارة «يا محاربي ذلك اليوم الرائع في صحراء جالديران… لترقدوا بسلام».
من هنا يرصد المؤلف في كتابه مقدمات الصراع بين الإمبراطوريتين الفارسية والعثمانية؛ انطلاقاً من التناحر المذهبي بينهما، حيث شكلّ ذلك أرضية خصبة للقتال والحروب والصراعات المذهبية حتى يومنا هذا. تبدأ الرواية أحداثها من خلال عدد من الرسائل والأشعار التي كان السلطان ياوز سليم الأول يتبادلها مع الشاه إسماعيل الصفوي، التي كانت قبل قيام الحرب بينهما. تَرِد في الكتاب أسماء لمدن لها رمزية خاصة لدى الطرفين المتصارعين، أردبيل، آفشر، تبريز، كاجار، ديرسيم، أرضروم، إسطنبول.
الفكرة الجوهرية، التي تتمحور حولها تفاصيل الرواية وأحداثها وأماكنها وزمانها تفسر لنا حجم القسوة، وهي ترسم شخصيات أبطال الرواية والحياة التي عاشوا فيها، وتجلى ذلك من خلال براعة المؤلف الجمع بين التصوير التفصيلي للأماكن والمشاهد والتعبير عن مجرى الأحداث، من خلال استدعاء التاريخ والعبور في الذاكرة بين مختلف شخصيات الرواية. يستحضر الروائي أحداث التاريخ ليس بوصفها أحداثاً مضت وانقضت، بل بوصفها فعالية مؤثّرة في الحاضر، ومرجعية ثرّة وحيّة لعوالمه وشخصيّاته، من هنا جاء العنوان «الشاه والسلطان» ليؤكد القدرة الأسطورية للراوي إسكندر بالا، مستعيداً أجواء الصراع السياسي والديني بين الإمبراطورية العثمانية والصفوية، حيث امتدت الإمبراطورية العثمانية على مساحة من الخليج العربي إلى نهر الدانوب، ولم تتوقف جيوشها إلاّ عند أبواب فيينا، وكانت تبسط حكمها على أكثر من عشرين قومية. وفي القرن السادس عشر، أوصلت الثورة الدينية، أسرة الصفويين الشيعية، إلى حكم الإمبراطورية الصفوية، بزعامة الشاه إسماعيل الأوّل بن حيدر الصفوي أو «الصوفي» عام 1499، وبذلك امتدت مملكته من الخليج العربي إلى بحر قزوين، ومن منابع الفرات إلى ما وراء نهر جيحون. فكان هناك أكثر من تهديد للصفويين، من وسط آسيا، من الإمبراطورية العثمانية في الغرب، وإمبراطورية مغول الهند.
هناك عدم توازن بينهما، فالسلطان لديه دولة أمّا الشاه فلديه قبيلة. في النهاية طغى نظام سليم على فوضى الشاه.
أيقونة الجمال
يذهب الكاتب بعيداً عن الصراع المذهبي والحروب، من خلال إضفاء لمسات فنية ورومانسية على عمله الروائي، ومن أجواء الرواية نقرأ: «في المدرسة الابتدائية، التي تطلُّ نوافذها على قصر هشت بهشت، حيث تمتزج في حديقة المدرسة رائحة الياسمين بنافورة المياه، كان ضمن الأولاد الأتراك عمر؛ الابن الوحيد للمفكر السُنّي في تبريز وتاجر اللؤلؤ عثمان ألب وبيهروز الابنة الجميلة للسلطان الأفشاري الشيعي علي ميرزا». إن الحب والغضب لا يجتمعان في المكان ذاته، لذلك يأمر الشاه بقتل أمه (علم شاه بيغوم)، لأنها أهانت ولدها أمام العامة بقولها: «يا بني… أنت الشاه! من الآن فصاعداً ما تفعله يرتدُّ إليك… الصفة المميزة لكونك إنساناً هي أن يحبك الله لا أن تكون أنت من يحب الله. كما كان السلطان السبب في موت أبيه. فقد كان السلطان، على أقل تقدير من أحد الوجوه، مختلفاً عن ملوك أوروبا: فهو ابن إحدى نساء الحريم، وبالتالي، فهو نصف عبد بالولادة.
رائحة الموت
من أساليب التعذيب للمعارضين في مدينة تبريز، رمي المعارضين في أحواض كبيرة مليئة بالزيت المغلي، حيث تم رمي خمسة آلاف من أعلام المدينة في أحواض أُعدت خصيصاً للقضاء على هؤلاء. من هنا سادتْ رائحةُ الموتِ المنازلَ. لقد تركت تلك الأحداث آثاراً سيئة لدى السلطان سليم الذي سيثور للانتقام لمقتل خمسة آلاف من أتباعه في المذهب الديني في مدينة تبريز. بينما الشاه الصفوي هو الآخر كان يضمر العداء للسلطان.
سهول جالديران
كانت معركة «جالديران» من المعارك الفاصلة في تاريخ الدولة العثمانية؛ فقد استطاع السلطان العثماني التاسع سليم الأول بانتصاره على الصفويين في سهول جالديران، أن يحقق لدولته الأمان من عدو طالما شكل خطراً داهماً على وحدتها واستقرارها، حيث أدت نتيجة معركة جالديران إلى وقف التوسع الصفوي لمدة قرن من الزمان وجعلت العثمانيين سادة الموقف. في مايو/أيار سنة 1506 يصدر الشاه بيان تشجيع لجنوده في طرابزون، حيث النسيم المنعش يهبّ من البحر ويعبث بشعر عنق الخيول، وبشعر الفرسان الظاهر من تحت خوذاتهم. ومن فوق صهوة جواده الرمادي (بويرزاد) تقدّم الشاه زاده سليم ليخاطب أصحاب الأراضي ورؤساء القبائل وآلاف الجنود استعداداً للمعركة المقبلة «لنقتل الأعداء ونقطع رؤوسهم». أراد السلطان والشاه تسويق حربهم باسم الله والدين وحاولا إصباغ الصفة المقدسة عليها كلٌّ حسب اعتقاده وأطماعه.
من إسطنبول إلى تبريز
حاول الصفويون في تبريز الانتقام من السلطان العثماني، حيث أصبحوا بين ليلة وضحاها من أسياد في مدينتهم إلى عبيد، قبل شهرين من معركة جالديران، وبينما كان أتباع الشاه يغادرون مدينتهم (تبريز) كان التبريزيون يتركون وراءهم ذكرياتهم وحريتهم من جهة، أمّا من الجهة الأخرى فكان لديهم الأمل بالانتقام، حيث قام جنود السلطان بفصل النساء عن العبيد، ولكنهم قاموا في اليوم الثالث بإطلاق سراح النساء وإرسالهن إلى تبريز، حيث كان السلطان حريصاً في قضايا الطهارة والشرف والعفة.
وحين دخل السلطان مدينة تبريز في ظهيرة يوم الجمعة كان وراءه خمسون عبداً جريحاً ومقعداً يمشون بصعوبة ويتأوهون ويتعذبون، حتى يبدو وكأنهم مخلوقات تعاني من الألم إلى جانب موكب السلطان، وكان ذلك بمثابة رسالة لأهل تبريز، الذي كانوا يحتفلون بالنصر لدرجة أنك إذا رميت إبرة في ساحة صاحب أباد فلن تسقط على الأرض، فكان تهديد السلطان لأهل المدينة؛ إمّا الطاعة أو الحياة كهؤلاء العبيد البائسين فكانت الطاعة.
ما فعله الشاه والسلطان كانا يفعلانه بإدراكٍ تام، كانا مدركين أنه في يومٍ ما سيتقاطع طريقيهما. ومع مرور الوقت بدأت العوائق الكبرى بالتكشف، حيث كان العثمانيون أكثر تصميماً على تحقيق طموحاتهم الجغرافية والدينية في أصقاع إمبراطورية فارسية مترامية الأطراف، وكان الصفويون يرون حدودهم وهي تمتد من تبريز إلى إسطنبول العثمانية، وما بين النظرتين دخلا في صراع مذهبي وعرقي مستمر منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، ولكنه بقيّ صراعاً صامتا في كثير من مراحله. تبدو ملامحه وهي ترسم المشهد السياسي العام بينهما.
لقد أراد الشاه إسطنبول في حين أراد السلطان تبريز. لكن كان هناك عدم توازن بينهما، فالسلطان لديه دولة أمّا الشاه فلديه قبيلة. في النهاية طغى نظام سليم على فوضى الشاه. ولكن الرحالة الإنكليزية، غيرترود بل، لها رأيٌ آخر بالإمبراطورية العثمانية، قائلة: «ما من بلد يبدو للعالم في مظهر ثبات الحكم ومركزية الحكومة، هو أكثر خداعاً وإيهاماً للناظر من الإمبراطورية العثمانية».
ميزة هذا الكتاب تكمن في نجاحه في تقديم مادة مهمة بقالب تاريخي، وبأسلوب روائي شيّق وممتع نادراً ما تمكّن من استخدامه المؤرخون.
٭ صحافي وكاتب سوري