يرمي المشروع الكولونيالي الإسرائيلي في القدس إلى التهويد الكامل للحيّز العام، وإلى سيطرة متدرجة على البلدة القديمة وأحياء المدينة كافة. الهدف الإسرائيلي هو تغيير هوية المكان، وإبادة كاملة للبعد السياسي الوطني للوجود الفلسطيني في القدس. وإذ قامت إسرائيل، مع بداية شهر رمضان المبارك، بإغلاق مدرج باب العامود، فهي لا تريد أي تواجد جماهيري فلسطيني في الحيّز العام وتقول «احتفلوا برمضان فرادى لا تتجمهروا». على شرف رمضان، نصبت بلدية القدس الزينة والأنوار في باب العامود، لكنّ الشرطة منعت الناس من الجلوس في المكان، وأرادت أن يكون المكان مزدانًا وفارغا، عملا بما يتناسب والصورة النمطية الصهيونية عن القدس «ساحة المدينة فارغة» كما جاء في إحدى أغاني شاعرة الاحتلال نوعمي شيمر.
للمفارقة جاء نصب الحواجز الحديدية لمنع الناس من التجمهر على مدرج باب العامود، وجرت إزالتها خدمة للهدف نفسه، وهو إحكام السيطرة على التعبير السياسي المناهض للاحتلال ومحاصرته وقمعه ومنعه. ولأنّ الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تصاب بالهوس إزاء أي تجمهر فلسطيني في المدينة، خشية أن يحمل معه تعبيرا سياسيا مقاوما، قامت بإغلاق مدرج باب العامود، حيث يتوافد الآلاف من سكان المدينة للسهرات الرمضانية البهيجة. وبعد أن أدّى الإغلاق إلى اندلاع مواجهات مع الشرطة، وإلى هبة في أرجاء القدس كافة، وجاء الرد أقوى بكثير مما حاولت الشرطة منعه، اضطرت إلى فتح المدرج، وإزالة الحواجز، لتهدئة الأوضاع. الهدف في كلتا الحالتين هو «هدوء في ظل الاحتلال».
حقيقة ما يجري في باب العامود في القدس، هو صراع على المكان، وعلى هوية البلد وعلى رمزية الموقع، وهو صراع يدور في إطار الفعل المقاوم للاحتلال بتجلياته المتعددة. يعتبر باب العامود أهم وأفخم بوابات القدس (عددها 12، منها 7 مفتوحة والباقي مغلقة) وتعود أهميته التاريخية إلى أنه يقع في منتصف القسم الشمالي من السور، باتجاه مراكز السلطة والتجارة التاريخية في إسطنبول ودمشق وعكا ونابلس. وقد تم بناؤه سنة 944 هجرية (1538م) كما يدل النقش التأسيسي الذي يعلوه: «أمر بإنشاء هذا السور المبارك مولانا السلطان الأعظم والخاقان المكرم، سلطان الروم والعرب والعجم سليم خان، خلد الله ملكه وسلطانه، في سنة أربع وأربعين وتسعمئة». ويبدو أن باب العمود هو من تخطيط المعلم درويش الحلبي، الذي قدم من حلب إلى القدس وأقام فيها. هذا هو المرجّح لكن بعض المصادر تشير إلى انه من تخطيط سنان باشا، معماري البلاط العثماني ذائع الصيت. على مرّ قرون طويلة كان (وما زال) باب العامود هو مركز المدينة بالنسبة للمقدسيين. وتدل صور من القرن التاسع عشر على أن الساحة أمام المدخل كانت تعجّ بالحياة، وتحيط بها مبان تجارية ملاصقة بالجهة الخارجية للسور، ما جعل الموقع مكانًا يربط بين البلدة القديمة داخل السور وتلك الجديدة خارجه. وبعد أن قامت سلطات الانتداب البريطاني بإزالة المباني الملاصقة بالسور، معتمدة مبدأ الفصل لا الربط، جاءت إسرائيل وحوّلت التخطيط الكولونيالي إلى تخطيط عدواني بشع في شكله ومضمونه وأهدافه، وفصلت تماما بين البلدة القديمة وخارج الأسوار من خلال إنشاء مدرج ضخم يشرف على باب العمود، قام بتخطيطه في بداية الثمانينيات المعماري الإسرائيلي بيتير بوجورد (أدين مؤخّرا بالاعتداء الجنسي على صبي متخلف عقليا) واستعمل في تخطيطه لغة معمارية فخمة، لكنّها استعمارية وعنيفة ودخيلة وغريبة عن روح المكان، في محاولة لفرض السيطرة ولمصادرة واستبدال هوية المكان. هذ المدرّج بسياقه وأهدافه وشكله المتعيّن في مكانه هو في رأيي «جريمة معمارية» ويسقط سقوطا مدويا في امتحانات العمارة الثلاث: فلا هو يلبي حاجة لأهل المكان، ولا يعبّر عن هويتهم ولا يحمل قيمة جمالية، بل على العكس من كل هذا. ويقول المعماري الفلسطيني سنان عبد القادر: «كان المبدأ الناظم للتوجه المعماري العثماني هو الإنسان وحياته واحتياجاته. في منطقة باب العمود تحديدًا حافظ العثمانيون على الامتداد الطبيعي بين داخل وخارج الأسوار، وباب العمود كان ممرا مريحا يرحب بالقادمين والخارجين، ويمتد منه تواصل طبيعي سلس بين خارج وداخل البلدة القديمة، وكان في المكان عدد كبير من المحال التجارية الملاصقة للجهة الخارجية للسور، وقد هدمها الإنكليز في ما بعد. اختلف التوجّه المعماري في عهد الانتداب، واعتمد مبدأ الفصل بين القديم والحديث، بين داخل وخارج السور، ومفهوم احتلال القدس عام 1967، واصلت إسرائيل التوجه البريطاني وأضافت إليه بُعد السيطرة، المعلم التاريخي والمشهد المعماري على حساب نبض الحياة الطبيعية للناس. وبعد الهندسية والمعمارية على المنطقة، من خلال مد شارع السلطان سليمان وربطه بالقدس الغربية، ما خلق فجوة بين علو أرضية مدخل باب العمود والشارع، ولسد هذه الفجوة، بني المدرج البشع في وظيفته، والكولونيالي في الغاية منه. وكما حدث في حالات كثيرة مماثلة في العالم، حوّله الفعل التلقائي المقاوم للمجتمع الفلسطيني في القدس إلى حيّز غير رسمي، وفرض واقعاً مختلفاً تماما عن رمزية وأهداف المخطط الكولونيالي الإسرائيلي الأصلي».
انطلاق المارد المقدسي من قمقمه نصر أكبر من النصر الذي تحقق برضوخ الاحتلال وإزالة الحواجز في مدرج باب العامود
لقد أرادت إسرائيل من بناء المدرج، الذي يسع حوالي 500 إنسان، إلى بناء «مكان للنظر» إلى باب العامود، حتى يحملق ويُبهر السياح به، كمشهد وكمعلم جميل وتاريخي، وكان الهدف الأهم هو استعماله موقعا لجلوس طلاب المدارس الإسرائيلية، الذين تُنظم لهم رحلات وجولات إجبارية في القدس كجزء من منهاج «التربية الوطنية الصهيونية» الذي يجري من خلاله حشو أدمغة الطلاب وتعبئتهم، وتعزيز هويتهم تمهيداً لتجنيدهم للجيش. لقد بنت الدولة العبرية الكثير من المدرجات بجوار مواقع تاريخية بغرض تسهيل عملية الإرشاد والشرح، ولكن مدرّج باب العمود هو أضخمها على الإطلاق. وهدفت إسرائيل أيضاً أن تضع بصماتها قبالة باب العامود في محاولة لمنافسة المبنى التاريخي وللسطو على هوية الموقع وإحلال هوية صهيونية بدلًا عنها.
بعد بنائه أثار المدرّج غضب الفلسطينيين، ليس فقط لأنه «بشع» بحد ذاته، بل أساساً لأن الاحتلال هو الذي فرضه على باب المدينة في محاولة مكشوفة لمحو هوية المكان. هذا ما حدث بالضبط في معركة البوابات الإلكترونية، فهي لم تكن بحد ذاتها المشكلة، بل لأن الاحتلال هو من نصبها، ولو وضع الاحتلال مكانها «زينة جميلة» لرفضها الناس بالحدّة نفسها. ولكن رويداً رويداً، تحوّل المدرّج إلى مكان يعجّ بالفلسطينيين، خاصة في شهر رمضان، واستطاع «الفعل التلقائي المقاوم» أن يحوّل المكان إلى «حيّز غير رسمي» فلسطيني، واحتل المقدسيون المكان وأصبح ملكًا له، فعلا وإحساسا. لقد أصبح الموقع حيّزا غير رسمي ومساحة للتنفّس الاجتماعي للمهمّشين وللمحرومين من حيّز عام آخر في مدينتهم، وصارت له استعمالات متنوّعة تتحدّى، وحتى تمحو الأهداف الاستعمارية الأصلية، حيث الاحتفال بالسهرات الرمضانية، وبالأعياد والمناسبات العامة والخاصة، وحيث تقضي العائلات ومجموعات الشباب والصبايا أوقاتا ممتعة. صار المدرّج مكانا يعجّ بالحياة الفعلية الفلسطينية، ولم يعد موقعا للتأمّل في جمال باب العامود وللسياحة الأجنبية والتعبئة الصهيونية.
حدث ويحدث مثل هذا التغيير في هوية واستعمال المواقع، عبر ما يسمّى الحيز غير الرسمي في مدن كثيرة في العالم. وبعد أن كان المعماريون والمخطّطون ينظرون إلى هذا الأمر باستهجان وبالشعور بالمضيعة، يتجه الكثير منهم مؤخّرًا إلى احتواء الظاهرة وإلى ملائمة التخطيط للاستعمالات غير الرسمية للحيّز، بالأخص تلك التي تأتي من المحرومين والمهمشين. أما المخطط الإسرائيلي المثقل باعتبارات الضم والتهويد والاستيطان والاحتلال والسيطرة على المكان وهوية المكان، فقد أصيب بالصدمة وشعر بالفشل أمام المشهد الفلسطيني الهادر كل رمضان على مدرّج باب العامود. وإزاء هذا الحضور، قامت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بإقامة ثلاث محطّات شرطة ونصبت عشرات الكاميرات لتشديد المراقبة على ما يجري في باب العامود، كما، وبمحاولة تخويف الناس وترويعهم. لكن هذا لم يردع اهل القدس، الذين واصلوا التوافد إلى باب العامود والسهر ساعات طويلة فيه.
لم تتحمّل الشرطة الإسرائيلية ما يحدث على مدرج باب العامود في رمضان، فهي لا تطيق أي تجمهر فلسطيني في الحيّز العام مهما كان سببه حتى لو كان الاحتفال والمتعة، وقامت بإغلاق المكان بالحواجز الحديدية، ظنّا منها أن هذا سيبعد عنها «وجع الراس». وحدث العكس، حيث هبّ المقدسيون دفاعا عن المكان وعن الهوية التي منحوها للمكان، واستطاعوا أن يستعيدوا مجالسهم على المدرج ويفرضوا عليه مجدداً هوية فلسطينية نابضة. ما يحدث في باب العامود هو نموذج لما يجري في القدس عموما، حيث اقتحام الأقصى يوميا والحصار والإغلاق والقمع في العيساوية، والاستيلاء على البيوت في الشيخ جراح وسلوان، والاستيطان وهدم البيوت في أرجاء المدينة كافة. استهداف البشر والحجر والهوية يؤدي إلى احتقان شديد في القدس، وتزداد الحاجة إلى المقاومة. هناك طاقة نضالية كبيرة في القدس، رأينا صورة عنها في الأسبوع الأخير، وسنرى منها أكثر في الاسابيع المقبلة، وسيكون انطلاق المارد المقدسي من قمقمه نصراً أكبر من النصر المهم الذي تحقق برضوخ الاحتلال وإزالة الحواجز عن الحيّز غير الرسمي في مدرج باب العامود، الذي انتزعه أهل القدس بفعلهم المقاوم للمشروع الكولونيالي الإسرائيلي.
رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48