هل رجل الدين مخلوق استثنائي معصوم من الخطأ؟ هل هو شخص مُستهدف للتقليل من هيبته وأهميته ومكانته؟ أم أن الصدفة وحدها هي التي تجعله في مرمى سهام السفهاء والخبثاء والمُحتالين؟ أسئلة كثيرة يطرحها فيلم «صلاة العشاء» للسيناريست والممثل والمخرج الفلسطيني يوسف علاري تتعلق بالضمير المُجتمعي، ونوايا البعض حول أساليب ووسائل تشويه رجل الدين وإمام المُصلين حين يستعصي إيقاعه في براثن الخطيئة.
الفكرة جد جريئة فهي تنتمي لنوع نادر من أنواع النقد الإنساني في منطقة تكاد تكون محظورة، حيث يستحي المُبدعون من وضع رجل الدين في دائرة الشُبهات ولو على سبيل الفانتازيا، احتراماً وتقديساً، أو خوفاً من رد الفعل، إذ لا يُمكن قبول فكرة نقد رجل الدين بسهولة في مُجتمعات إسلامية مُتدينة بالفطرة، فهو فوق الشُبهات في نظر الغالبية العظمى ممن يرفعونه إلى مصاف الأنبياء والصديقين.
لقد كسر علاري هذه القاعدة، ودفع فكرته الإبداعية في أتون الاختلاف والمُغايرة، لكنه في الوقت نفسه لم يجعل من جرأة النقد مدعاة للسخرية والتربص، بيد أنه اتبع أسلوباً فلسفياً بارعاً في الخروج بالشخصية الدينية المُقدرة، من إطار التبجيل والقداسة إلى المساحة الرحبة التي تسمح بالتجريد، كي يتسنى للمُتلقي استيعاب الحالة الدرامية بأبعادها وانعطافاتها الخطرة، واستنتاج مقاصد الطرح في خدعة الحكاية التي نسجها الكاتب يوسف علاري من خياله لتكون افتراضاً غير موضوعي لوقوع الشيخ الجليل وإمام المسجد في لُجة الخيانة والخدعة، التي مورست عليه من قبل نفر من الناس استغل طيبته وسماحته، واحتال ليقيم مع زوجته علاقة مُحرمة بمساعدة شخص آخر تمت السيطرة عليه من قبل صديقة المُتحلل السكير.
في الحكاية الافتراضية المُختلقة يُحدد الكاتب والمخرج أضلاع التجربة الشاذة في ثلاثة عناصر بشرية مريضة بالخيانة والكذب، هم الزوجة والعشيق والصديق المُدلس، كل هؤلاء يُقابلهم رجل فاضل يتخذ من المسجد موقعاً للوعظ والإرشاد والإصلاح ابتغاء وجه الله لا يُريد من أحد جزاءً ولا شكورا، ومع ذلك ترتهن سيرة الرجل وسمعته بألاعيب المُجرمين الثلاثة الذين سمحوا لأنفسهم بانتهاك حُرمة الأفاضل والطاهرين، ليتسلوا ويتلذذوا غير عابئين بما يقترفونه من ذنوب ويرتكبونه من جُرم.
وتمضي الأحداث الدرامية على هذا النحو القاسي، إلى أن تأتي لحظة المواجهة والحسم، عندما يذهب الشاب الوسيط الذي كان مُضطلعاً بتهيئة الجو وتعطيل الشيخ في درس صلاة العشاء، كي يتمكن العشيق الوغد من لقاء عشيقته ليُقر بذنبه وفعلته الشنعاء، ويكشف الشاب عن تدليسه وتواطئه، فتكون المفاجأة في رد شيخ الجامع بأن لا صلة له بالحكاية الممجوجة وفصولها الشيطانية، التي رأينا تفاصيلها في أجزاء مُتفرقة من الفيلم، فهو ليس متزوجاً في الأساس ولا يعرف شيئاً عن ألاعيب الشياطين، وهنا يتبين قصد المخرج وصاحب القصة والسيناريو، ويتعين علينا ـ نحن المُشاهدين ـ إعادة النظر في ما رأيناه بفلسفة الكاتب ووعيه، فهو يفترض وقوع أحداث غير حقيقية من باب الخيال المُستبعد والمُستحيل كي يؤكد مبدأ أساسيا مفاده أن لا أحد فوق الاتهام، ولا يوجد إنسان صالح أو طالح بعيد عن الظنون الخبيثة ولا الخيال المريض لزبانية الشر والفساد.
كما أن فلسفة النقد ذاتها كما يستوجبها السياق الإبداعي قد تكون جائزة لكل الفئات والطبقات، فالتناول النقدي بأي صيغة مشروعة هو من دواعي التصحيح وثبات اليقين، إذا ما اتصل النقد بشخصية مُرتقية بطبيعتها فوق الشبهة ومُنزهة عن الزلات والسقطات، فالإمام الصالح بطل الفيلم ورمز الفضيلة، من ذلك الصنف المرموق والمُقدر في مجتمعه وبين أهله، ومن ثم فما يطاله من ظن سيئ يتعلق بسلوكه أو سلوك ذويه هو فعل شائن يُمكن نفيه وإثبات عكسه بعد التحقق من الوشاية والخديعة.
هذا على مستوى السرد والحدوتة المروية عبر الشريط السينمائي، في زمن محدود بنحو ثلاثين دقيقة لفيلم قصير رحبت به المهرجانات الدولية وحصل على العديد من الجوائز، كنوع من الاعتراف بأهمية الحالة الفنية وتفردها وجرأة الطرح، بغض النظر عن كيفيته وما أثارة من جدل إزاء الاختلاف والاتفاق على ماهية الموضوع وزاوية التناول، واعتبار الشخصية التي قدمها البطل محمد خالد الذي جسد دور إمام المسجد. وكذلك صراحة الأداء التي تميز بها يوسف علاري المخرج، الذي أدى دور باسم العشيق مع منيرفا أحمد في دور الزوجة الخائنة، وأيضاً الممثل ماهر مزوق مؤدي شخصية الوسيط بين البطلين الماجنين وصاحب يقظة الضمير المتأخرة، نقطة التحول الفاصلة في مُجريات الأحداث الافتراضية المؤثرة في شكلها وعمقها ومساحاتها الرمادية وخطوطها المُتعرجة.
كاتب مصري