هذه رواية رائعة تستحق اهتماما كبيرا من النقاد. العنوان «صلاة القلق» والكاتب هو محمد سمير ندا والناشر هي دار ماسكيلياني في تونس. محمد سمير ندا له من قبل رواية «مملكة مليكة» سنة 2016، ورواية «بوح الجدران» سنة 2021، وهذه روايته الثالثة.
من الصعب جدا إيجاز الرواية في مقال، تحتاج بحثا طويلا، هي عن نجع في الصعيد لا تعرف حدوده جيدا هو، «نجع المناسي» في قلب الصعيد، لكنه منفصل عن العالم. لا يعرف عن العالم إلا أن هناك حربا بيننا وبين إسرائيل مستمرة لعشر سنوات بعد عام 1967. لا يصلهم بالعالم غير خليل الخوجة صاحب المحل الذي فيه كل ما ينقصهم، يشتري منهم كل إنتاجهم ويبيع لهم كأنه رمز للسلطة، بل هو الطريق الوحيد إلى السلطة تأتيه عربات مموهة هي عربات عسكرية طبعا تؤكد ذلك. يطبع صحيفة محلية بعنوان «صوت الحرب».
أصاب النجع نيزك أو سقط به قمر صناعي. لا أحد يعرف، أو كما جاء في مفتتح الرواية «في البدء سطع ضوء عظيم مزق أجفان النيام. تلاه دوي هائل صم آذان الأجنة في الأرحام، فتشكل المكان على ضفة الزمان» بعدها أصاب النجع الوباء. تغيرت رؤوس الناس فصارت مثل قطعة حجر خالية من الشعر. لم يعد المولودون يأتون طبيعيين، بل أكثرهم يموت بعد الولادة وسنعرف أن الداية «وداد» تقتلهم بعد أن يأتوا مشوهين دون علم أهلهم. ما بين أطفال لا يأتون سليمين وطفل عاش هو حكيم بن الخوجة، لكنه صار لا يتكلم. خلافات أبيه وأمه جعلته يعض لسانه يأسا وقلقا فقطعه، واختفت أمه هاربة لا يعرف لها أحد أثرا. بينهم قليل من الأبناء كبروا لكن ذهبوا إلى الحرب ولم يعودوا. يفتح الكاتب الأبواب لثمانية أشخاص يتحدثون في فصول يسميها «جلسات» كأنهم في لقاء عام. الأشخاص الثمانية هم نوح النحال ومحروس الدباغ ووداد القابلة وعاكف الكلاف ومحجوب النجار وشواهي الراقصة وزكريا النساج وجعفر الولي. هذا هو جديد الرواية المبهر فضلا عن موضوعها. تعرف الكثير عن علاقاتهم والود القائم أو الضائع بينهم. يموت بعضهم أو يُقتل ولا يعرف أحد السبب ويظل الأمل هو الخروج من النجع المنسي، ولا يكون ذلك إلا بحفر نفق تحت الأرض، يتجاوز حقول الألغام المحيطة بالنجع مع النهر والبحر. يحاول محجوب النجار أن يفعل ذلك خفية عن عيون الآخرين، على أمل أن تلد زوجته الحامل عنايات طفلا يكون نبيا، فلا نبي سيأتي في هذا الركام والوباء وهؤلاء البشر. نبي يبشرهم بالحرية ولا ينشغل بالمجد والفتوحات، كما تشير صور عبد الناصر وشعاراته المنتشرة. ثمانية أشخاص يتكلمون ويحكون وكل منهم له عمل مختلف وهي الأعمال السائدة في مثل هذه الأماكن المعزولة القديمة. هنا تأتي قدرة الكاتب، فالعادة هي البطل ومن يواجهه أو رباعية، لكن ثمانية أشخاص أمر جديد. يقطعها بعد الجلسة الخامسة بسرد عما يفعلون، ليعود الحديث بضمير المتكلم مع الراقصة شواهي، ثم يقطعها بحديث مباشر عن مناسك صلاة القلق ثم يعود مع زكريا النساج ثم يقطعها من جديد ليعود بعدها مع جعفر الولي والد الشيخ أيوب شيخ المسجد وصاحب صلاة القلق. الشيخ جعفر الذي هو أسطورة، فبعد دفنه خرج من التربة إذ كان حيا، ومن ثم مات مرتين فصار وليا من أولياء الله. ثم يقطعها سريعا لنعرف من الذي كتب الرواية حقا. لا يمكن أن تعتبرها متوالية قصصية فهي لا تنتهي مع كل شخص، ومن ينتهي حديثه أو جلسته يظهر في الجلسات التالية، وتتطور الدراما بينهم. لكن من خلال ذلك تقف مندهشا هل حقا يوجد مثل هذا النجع. ماذا يمثل؟ على الفور تأتيك روح الزمن فكأنهم كائنات من قبل الميلاد، فما يحدث لهم وبهم شديد البدائية، لكن يمهد الكاتب لكل جلسة أو فصل بمقطع من أحد الأغاني الوطنية لعبد الحليم حافظ، عبر سنوات الحكم الناصري وبعده. الوباء العجيب الذي أصاب النجع لا يقف عند وصول المواليد مشوهين، أو قتلهم بيد الداية أو ضياع الأبناء في الحرب فلا أخبار عنهم، لكن لا أحد يدري من يكتب على الجدران ما يخفونه. الكتابة فاضحة ومنذرة ولا يعرفون من يكتبها، هذه الكتابات الفاضحة التي لا يعرف أحد من يكتبها تزيد من مساحة الأساطير في أرواحهم . تمثال بلا رأس أمام باب محل الخوجة يعتبرونه تمثالا لعبد الناصر، وهو الذي يمشي سرا ويكتب على الجدران. هكذا يعتقد البعض فلا أحد يعرف. بينما صورة عبد الناصر وشعارات الثورة على الأعمدة في الشوارع.
لا يجد الشيخ أيوب شيخ المسجد إلا صلاة جديدة لا يتم فيها الركوع وتكون من سجدتين، يقرأ فيهما نصوصا من القرآن وكثيرا من الدعوات، فهي الطريق للخروج من الوباء. لا تتم الصلاة بسهولة فهناك من لا يوافق، ومن يحضرها ليهاجم الشيخ أيوب. نعرف من حكاياتهم الخطايا الخفية مثل ممارسة الشيخ جعفر وابنه الشيخ أيوب الجنس مع شواهي الراقصة، والكتابة على الجدران تفضح أعمال الكثيرين مثل عاكف الكلاف الذي يجدون على جدار بيته عبارة تدل على أنه ينكح البهائم.
في الوقت الذي يثور البعض على صلاة القلق ويجدون لا طائل من ورائها وسط خطاياهم، يفكرون في التخلص من خليل الخوجة صاحب المحل، الذي ينفتح بهم على العالم، وبالفعل يحرقون المحل. يمكن أن تعتبر ما جرى رمزا للثورة على السلطة لكنه يتماهي مع وحدتهم وانقطاعهم عن العالم، وكيف تتحكم السلطة فيه. طبعا تعرف من حكاياتهم كيف بدأ النجع، ومن أين جاء أهله، ومن هم مؤسسوه بينهم، أو من ماتوا، لكن انتهت الرواية عام 1977 وهو عام موت عبد الحليم حافظ، الذي واكبت أغانيه الوطنية السلطة بعد يوليو/تموز 1952 وعام سفر السادات إلى القدس من أجل السلام! لا تنقطع الأغاني من مقدمات الفصول، فالأمر هنا رغم أي إحالات سياسية قد تراود القارئ، أكبر من السياسة ويدخل في منطقة أوسع هي منطقة الأمل. من عجائب القدر، أو الرواية، أنك تكتشف أن كاتبها هو الصبي حكيم ابن خليل الخوجة، فبعد أن انقطع لسانه أحب القراءة والكتابة. لا يتوقع أحد أنه يكتب رواية لكنه يفعلها، وتأتي الفصول في شكل جلسات بقدر فهمه كأنه يقابلهم ويجلس معهم ويحكون له. كان يعرف كل ذلك ولا يقوله، فهو حاضر بينهم ودائما يتصورون أنه بعدم قدرته على الكلام لن يفشي أسرارهم.
تنتهي الرواية بما يمكن أن نتعبره لوحة تسجيلية وهي خبر طويل عن تمرد حدث في مستعمرة جذام منشور في الخامس عشر من أبريل/نيسان عام 1977 في أخبار الحوادث نقلا عن وزارة الصحة، فيه خرج المرضى من المستعمرة التي تقع على بعد مئة وخمسين كيلومترا شرقي سوهاج، وحاولوا الفرار إلى القرى والنجوع بعد أن أشعلوا النيران في مقر طبيب الوحدة، وقد سيطرت قوات حرس الحدود على الموقف، وسقط خلال المحاولة غير المفهومة الدوافع خمسة وعشرين قتيلا وعشرات المصابين. ثم يأتي تقرير آخر عن حالة المريض عبد الحكيم خليل مسعد خوجة ـ وهو الطفل حكيم – في مستشفي العباسية للصحة النفسية. تقرير كتبه الدكتور سعدون زكريا، أحد أبناء زكريا النساج ـ الذين ذهبوا للحرب وانقطعت أخبارهم ولم يعودوا في يناير/كانون الثاني عام 1988، يتحدث عن أوراق المريض وكيف تم بحثها والشخصيات التي ورد ذكرها في أوراقه – أو الرواية من فضلك – والتوصية بتشجيعه على مواصلة الكتابة فهي صلته الوحيدة بالعالم ومصدر قوته وحياته ودونها يذبل الجسد وتستعد الروح للرحيل. هكذا تتحول الأساطير إلى حقائق مدهشة. رواية تستحق الدراسة شكلا وموضوعا فارقة في الكتابة يضع فيها محمد سمير ندا نفسه في أجمل مكان بين الروائيين.
كاتب مصري