«صلاة تشرنوبل»: سرد للمأساة بألسنة الضحايا

أبشع ما تقوم به، أو ما تمارسه الأنظمة الشمولية والديكتاتورية؛ هو إخفاء الحقائق عن الشعب، وإحالة كل كارثة ومأساة إلى العامل الخارجي، أي أن هناك مؤامرة ضد النظام تقوم بها مخابرات العدو، بينما الحقيقة هي أن النظام مهتز أصلا، وفقد القدرة والسيطرة على ضبط إيقاع العمل.
جميع الأنظمة الشمولية والاستبدادية؛ عندما يطول بها المقام على كراسي عروش السلطة، تنمو في داخلها بذور فنائها، وتنكشف للشعوب عوراتها، وقسوتها وظلمها، ما يقود إلى رفضها الضمني، حين تكون أذرعها وعيونها؛ تحمل الموت للناس؛ عندما ترتفع حناجرهم بالاحتجاج والرفض. فينعكس هذا الرفض الضمني، أو الرفض المكتوم؛ إلى اللامبالاة في العمل، كمعادل موضوعي لصرخة الحناجر الرافضة للقسوة والظلم، والاستخفاف بحياة البشر، أو التضحية بهم على مذبح تجميل وجه النظام، أو الإبقاء على الوجه الجميل للنظام في عقول ونفوس الشعب، التي رسمها إعلام النظام، حتى إن كلف هذا آلاف الضحايا في لحظة الحدث، وآلاف أخرى بعد حين. في كتاب «صلاة تشرنوبل» للكاتبة البيلاروسية سفيتلانا؛ نتعرف على حجم المأساة التي لا يتعرض لها الإنسان فقط، بل حتى الأرض والحيوان وكل ما هو حي أو جماد، لا للدمار والرعب، اللذين تحدثهما تكنولوجيا الذرة، عندما تتمرد على الإنسان، حين يفقد سيطرته عليها، بل إن المأساة، عندما تنفجر وتؤثر في الماضي والحاضر والمستقبل. «أنا- شاهدة على تشرنوبل.. الحدث الأهم خلال القرن العشرين، الذي سيظل في ذاكرة هذا القرن. مرّ أكثر من عشرين عاما على الكارثة، ويظل هناك سؤال يراودني – علام أشهد: هل شهادتي عن الحاضر أم عن المستقبل؟ بهذه السهولة ممكن السقوط في بئر الابتذال.. ابتذال الرعب.. لكنني أنظر إلى تشرنوبل كبداية لتاريخ جديد». تسرد سفيتلانا وقائع هذه المآسي باعترافات يسود فيها الحزن والألم، من ينتظر واثقا؛ الرحيل عن هذا العالم، ذات يوم قريب، في المقبل من الأيام؛ لأحبة له، فقدهم عندما انفجر مفاعل تشرنوبل، وعند عملية الانقاذ، وعملية الاطفاء، وعملية معالجة الآثار التي طالت الإنسان والحيوان والتربة، وكل ما هو على وجه الأرض وحتى في باطن التربة، وفي الهواء الذي بات مشبعا بالإشعاع المميت، وسط صمت الإعلام السوفييتي وقتها.
كان الناجون يطلعون على أخبار الانفجار من الإعلام الغربي. الأدهى والأمرّ من صمت المسؤولين السوفييت، أنهم اعتبروا ما جرى، مؤامرة غربية ضد الاتحاد السوفييتي، رافضين حقيقة أن ما حدث كان بسبب الإهمال وسوء التدبير وقلة الاحتياط، في منشأة تستوجب أعلى درجات الحيطة والحذر، وتوفير أعلى درجات السلامة المهنية إحكاما». يبث الراديو على مدار ثلاثة أشهر متواصلة، أن الأمور تتجه نحو الاستقرار، انطلق قاموس التعبيرات الستالينية فجأة: «عملاء الاستخبارات الغربية، أعداء الاشتراكية، غارات تجسسية، عمل تخريبي، طعنة في الظهر، تقويض اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتي الصامد».
وأنا اقرأ هذا الكتاب، الذي شكل وثيقة إدانة للسنوات التي سبقت انهيار الاتحاد السوفييتي؛ حضرت أمامي المعارك أثناء وخلال عملية الغزو الأمريكي للعراق، الذي استخدم الغزاة فيها اليورانيوم المنضب، أي القنابل النووية التكتيكية، التي لا يزال يعاني منها الشعب العراقي، بكثرة أعداد الإصابات بالسرطان، التي يقول عنها الخبراء في هذا الشأن؛ إن تأثيراتها سوف تستمر لعقود مقبلة، وربما لقرون، كما يرى البعض الآخر منهم.

جميع الأنظمة الشمولية والاستبدادية؛ عندما يطول بها المقام على كراسي عروش السلطة، تنمو في داخلها بذور فنائها، وتنكشف للشعوب عوراتها، وقسوتها وظلمها، ما يقود إلى رفضها الضمني

عندما انفجر المفاعل، لم يكن الناس يعلمون بهذا الانفجار، في القرى والبلدات التي تبعد، أو لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن المفاعل. حين سألوا المسؤولين قالوا لهم؛ ليس هناك من خطورة، أو لم يحدث أي شيء. يقول سكان القرى والبلدات، وحتى بقية شعوب الاتحاد السوفييتي؛ لقد سمعنا بالانفجار من الإعلام الغربي، لقد صمت إعلام بلدنا، لم يبث لنا حقيقة ما جرى، في وقت الانفجار، لاحقا يصحو الناس على الكارثة التي حلت بهم؛ أزيلت قرى كاملة من على سطح الأرض، تم دفنها عميقا في جوف الارض. جثث الناس الذين ماتوا؛ دفنوا في مقابر جماعية. حتى الأرض، وجه الأرض عينها، أزيلت وتم طمرها في أعماقها. الناجون إلى حين؛ كانوا ينظرون إلى أحبائهم الذين فارقوا الحياة، وهم يدفنون في قاع الأرض، وإلى بيوتهم التي تمت إزالتها بالجرافات؛ ليتم أمام أنظارهم طمرها تحت التربة. «رأيت واحدا من الناس، هدموا بيته أمام عينيه… يقف ويقترب من النافذة. لم يبق سوى قبر استقبل جثة جديدة.. قبر على شكل مربع كبير. دفنوا البشر، والحديقة.. يصمت. لقد دفنا الأرض.. تخيلوا.. الأرض.. مزقناها وسحبناها في قطع كبيرة.. ألم أحذركم.. ما من شيء اسمه بطولة، ليس لها وجود». هذا الكتاب الرواية التي وصفت فيه الكاتبة؛ حجم الألم والحزن والضياع الذي اكتنف البشر في القرى والبلدات التي وصلها الاشعاع المميت. لقد نقل هذا الكتاب الرواية، حجم الكارثة التي حلت بهؤلاء الناس، من على لسان الناجين إلى حين، ولكن بقلم الكاتبة، الذي رسمت فيه؛ لوحة الفقدان والخسارة، خسارة حياة بأكملها، إنها بحق لوحة يؤطرها الرماد واليأس. كما أنها أشرت بوضوح من خلال الاعترافات التي أدلى بها من ظل حيا، حين قابلته؛ كم كان الخلل كبيرا في العقد الذي سبق انهيار هذه الدولة العظمى، التي كانت حتى وقت قريب، الحامي والمدافع عن دول العالم الثالث، سواء بالدعم الاقتصادي، أو التسليحي، أو الدفاع عن قضايا العالم الثالث في مجلس الأمن الدولي. المشكلة لم تكن في الناس، المشكلة كانت في هيكل الدولة، فقد تغلغل فيها، النظام الرأسمالي، بغطاء اشتراكي، خلال عملية اعادة البناء». إنهم أبطال التاريخ الجديد. يعقدون مقارنات بينهم وبين أبطال معركة ستالينغراد أو معركة واترلوو، ليست مقارنة عادلة، فقد فعل هؤلاء ما هو أعظم، أعظم من مجرد انقاذ وطن، انقذوا الحياة ذاتها.».. تسلط الكاتبة، وببراعة؛ الأضواء على طريقة التعامل مع هذه الكارثة، من قبل المسؤولين في موسكو؛ لقد أخفوا الكثير من الحقائق عن الشعب، وبالذات في الأيام الأولى، مما عرض الكثير من الناس، لخطر الموت المحتم. إن سفيتلانا في هذا الكتاب كما هو حالها في كتبها الأخرى؛ تركت البصمة الغربية بين ثنايا كلماتها، على الرغم من أنها، كشفت الكثير من الحقائق التي تتعلق بخلخلة النظام السوفييتي، التي مهدت الطريق بعد أقل من نصف عقد، إلى انهياره. لكن كلماتها من الجانب الثاني؛ وجهت انارتها على جوانب من الحقيقة أو الواقع، ولم تحركها إلى الجوانب الأخرى، التي تتعلق بنشوء كتلة كبيرة، من المثقفين والنخب من داخل النظام، وتعمل بالضد من النظام، اي أن لها ميلا إلى الليبرالية الغربية. في هذا الوضع الذي صنعته خطة إعادة البناء؛ كان المشهد السياسي يسود فيه الارتباك. اذ، ليس من السهولة بمكان تغيير بناء وقناعات مضى عليها أكثر من نصف قرن، بسرعة وفي ظرف سنوات. مما قاد إلى ضعف الحرص في العمل، أو اللامبالاة في العمل. إن انفجار مفاعل تشرنوبل، لم يكن سببه خطأ في التصميم، لناحية مستوى درجات الأمان والسلامة، في منشأه من هذا النوع، إنما كان السبب هو الاهمال، كما يقول من قابلتهم الكاتبة من الخبراء في هذا الاختصاص. كما أن تغيير القناعات، لم يكن وليد لحظة الصدمة، بل هو موجود في العقول والنفوس، في أجيال الحرب الباردة، وكانت مرحلة إعادة البناء بمثابة المطرقة التي كسرت قفل الباب، وانفجار تشرنوبل حطم الجدران.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية