صمت المهد…

حجم الخط
0

في أروقة مستشفى النصر المهجور في غزة، حيث من المفترض أن تُسمع أصوات بكاء الأطفال الخدج، خيم صمت مؤلم مع رحيل خمس أرواح صغيرة، هناك ترك الأهالي أطفالهم بأمر من الاحتلال في ظروف إنسانية مأساوية، وعادوا إليهم مع الهدنة ليجدوهم جثثا متحللة في واحدة من أبشع ممارسات المحتل، وأمام الألم الإنساني العميق لذويهم، الذي لا يمكن للكلمات أن تعبر عنه سنطرح سؤالا مؤلماً:
كيف يمكن للعالم أن يظل صامتاً أمام مثل هذه الفظائع؟
تلك الأسرّة الفارغة وأجهزة الحضانة الصامتة والجثث المتحللة، تروي قصصاً لم تُكتب، أحلاماً لم تُعش، وحياة انتهت قبل أن تبدأ!
تختزل مشاهد الأحداث في غزة وفلسطين الصور وتكثفها في لحظةٍ تعود بنا إلى «دير ياسين» و»الطنطورة» وتحفظ في الذاكرة «قبية» و»قانا» و»مدرسة بحر البقر»، و»صبرا وشاتيلا»، وتحفرُ على صخرِ الصمود آلاف الأسماء في سجل المذبحة. تجعلنا نردد مع أمل دنقل:
«أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحة
أَشهِروا الأَسلِحة!
سَقطَ الموتُ، وانفرطَ القلبُ كالمسبحَةْ»
انفرط كل شيء في ساحة غزة؛ انفرطت القيم وظهر العالم المتحضر بحكوماته، يدعم الاحتلال بكل الأسلحة وأحدثها، كي ينتقم لهزيمته في السابع من أكتوبر/تشرين الأول ممن؟ من النساء والأطفال واللاجئين المغادرين في عام 1948 من ديارهم إلى غزة، دار اللجوء، التي أصبحت دار نزوح أيضاً.. انفرط كل شيء في مستشفيات غزة؛ ظهر الطبيب الأعزل حتى من أدواته الصحية، يناشد العالم كي ينقذ أطفالاً خدَّجَ من آلة الفتك الإسرائيلية التي تقطع عنه الماء والكهرباء والأوكسجين؛ من تناجي يا طبيب؟ العالم يرى ويسمع ويشاركُ في المذبحة إما بصمته، أو بسلاحه الذكي الذي لا يميز بين طفلٍ وامرأة، بين مشفى ومبنى ومدرسة، السلاح الذكي الذي يوجه بالأقمار الصناعية كي يكون أكثر دقة، الذكي الذي لفرط ذكائه يمسحُ مربعات سكنية بأكلمها كي يسهل على الدبابة الأكثر تحصينا في العالم التوغل براً! في غزة انفرط العالم وتباين بين شعوبٍ تصرخُ، وتغلقُ الطرقات والساحات، وحكومات غربية تطلبُ للمحتل حق الحماية وحق الدفاع وحق العيش، فيما تضرب عرض الحائط «حقوق الإنسان»، «حقوق الطفل» و»المساواة بين البشر» و»القانون الدولي»، ليظهر لنا وعلى الشاشات النفاق في أوضح صوره وأكثرها قذارة.
انفرط القلبُ في غزة، حزناً على حالنا، على عاجزنا، عن تقديم شربةِ ماء، أو كسرة خبز، أو حبة دواء، أو إشعال شمعة في ظلام الليل، نحن عاجزون حتى عجز العجز منا، ولا غرابةَ إن كان الأمر كذلك؛ فغزة التي واجهت هذه الحرب المسعورة، اكتوت في الماضي بجمرِ المواقفِ؛ موقفَ الصمتِ، وموقفَ العجزِ، وموقفَ التناقضِ الواضح الفاضح، وموقفِ اللا موقفِ. انفرط القلبُ في غزة، في مشهدِ شديد الوضوح، يلخصهُ محمود درويش، حين زحفَ إليها الغزاة ذات عدوان: «إن سألوك عن غزة، قل لهم: بها شهيد، يسعفه شهيد، ويصوره شهيد، ويودعه شهيد، ويصلي عليه شهيد..
تختزلُ غزة الصور، تكذب من قال يوماً: «الكبار سيموتون، والصغار سينسون»؛ لتكون غزة الشاهدة الشهيدة بأطفالها، وأشلائهم، وطيفُ أحلامهم، وما تبقى من أجسادهم الغضة ووجوههم الباسمة رغم الألم، الشاهدة على عصرِ الهزيمة الأخلاقية في عالمٍ تحكمهُ «شريعة الغاب». ماتَ الصغارُ، والكبار في فلسطين، بطرقٍ متعددٍة، على يد عدو واحدٍ أمام عالم اكتفى بالتنظير وعقد القمم والاجتماعات.. نعم مع كل أسير يُحرر يسقط شهيد.. يعتقل طفل.. وتقلع أشجار الزيتون.. تبنى المستوطنات ويموت شيء لكن تولد أشياء، فلكما أرادوا قتل هذه القضية ولدت من جديد، تقاوم غزة ليلَ الغزاةِ بنورها ونارها، ودمها المباح في المساء والصباح؛ فما بين غزة والغزاة حكايةٌ يسردها التاريخ عنوانها، فلسطين عصية على الأعداء، عصية على الكسر، لا تلينُ، ولا تستكين، ومن تحت ركامها تنهضُ كطودٍ، لتكتب وإن صمت مهدٌ هناك آخر.. حتى النهاية.

إعلامية أردنية/ فلسطينية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية