صمت بيكيت

حجم الخط
1

من الصعوبة أن نصل إلى أعماق بيكيت، في العمر الجامعي المبكر، كون تلك الفترة هي التي تعرفت فيها على أدبه، وكان مادة صعبة وثقيلة على المتلقي، رغم ترجمته للغة العربية في أغلب أعماله، ويبدو لي أن العودة إليه في عمر متقدم، سيكون جيدا للقارئ، تحديدا القارئ العربي الذي تفصله مسافة فكرية كبيرة عن كتاب العقل، كما أشك اليوم في الترجمات التي قدمت أعماله، وهذا موضوع آخر يحتاج لفتح سجال ومناقشات بشأنه، وليس مجرد ذكر سريع له في مقال.
يقدم بيكيت قراءة الداخل الإنساني بخطاب يتفرد به، حتى أن بعض شخصياته عصية على تصورها إلا بتقنيات سينمائية عالية. يأخذنا في عالمه المكتوب، من منطلق أن اللغة نفسها تتلاشى في لحظة نطقها، ويعلمنا الإصغاء وأنواعه، لأن الإصغاء وحده يُمَكننا من امتلاك المعنى، وهو الأثر المتبقي من المنطوق. تجري الأحداث عنده في اللامكان واللازمان، ما يختصر أسئلته المنصبة حول هذا الكائن العجيب الذي يفكر ويتكلم بطريقتين، واحدة مسموعة وأخرى غير مسموعة، وقد قيل أن لا أحد كتب مثله، في عمقه وكثافته وشفافيته، لقد كتب بلغة عارية، هي لغته المتخمرة في أعماقه قبل خروجها للعلن.
وفي تفكيكه لتقنية التفكير، يحيلنا لصورة مغايرة تماما لما نعرفه، إذ يقول إنه «إصغاء بصوت عالٍ»، يرد ذلك في كتابه «مولوي» الصادر سنة 1951، يذهب بنا بذلك المعطى النظري العويص، إلى أن لا وجود للصمت، في الكتاب نفسه يشرح ذلك بطريقته: «أن تصمت وتنصت، لا أحد بإمكانه فعل ذلك». من بإمكانه إذن أن يصمت وينصت؟

لو أن الصمت حقيقة كاملة، لأمكننا الإنصات جيدا، ولكانت إمكانيات المعرفة أكثر سهولة، ذلك أن العالم العميق في الإنسان، يضج بأصواته الخاصة.

لو أن الصمت حقيقة كاملة، لأمكننا الإنصات جيدا، ولكانت إمكانيات المعرفة أكثر سهولة، ذلك أن العالم العميق في الإنسان، يضج بأصواته الخاصة. تجري في أدمغتنا محادثات كاملة، في أمور عدة أحيانا، بترتيب أو بغير ترتيب، ففي هذه العلبة المغلقة بإحكام يسكن الكائن الذي هو نحن، والذي يمتلك حياة أخرى موازية لا جدال فيها. يختلف هنا ما نعرفه عن بيكيت الذي توقفنا كثيرا عند مسرحيته «في انتظار غودو» وأعتقد أننا لو تناولنا نصه بدون معرفة خلاصات النقد الغربي له، بعد تجاوزه حقبة الرفض والسخرية من أفكاره، لما اختلفنا عن كل أولئك الذين رفضوها جملة وتفصيلا في حينها، فقلة جدا تعرف أن المسرحية بلغت ذروة الفضيحة، حين كان أغلب الجمهور يخرج خلال عرضها، وأن المدافعين عنها عصفت بهم آراء المستهجنين لها، بل إن أغرب ما رافق هذه المسرحية أجوبة بيكيت نفسه، حين وُضع في مواجهة أسئلة صعبة، وحين أصبح الجميع يبحث عن «غودو» ويلفق له التفسيرات والتعريفات والمفاهيم المختلفة، وقد ورد في رسالة كتبها لميشال بولاك: «أنا لا أعرف أكثر ممن قرأ هذه المسرحية بعناية، لا أعرف من هو غودو، لا أعرف حتى إن كان موجودا، أما بالنسبة إلى الرغبة في العثور على معنى أرفع وأوسع، بعد عرضها، فأنا غير قادر على رؤية فائدة لذلك، لكن يفـــترض أن ذلك ممكن».
والصراحة أن ما أخذني لبيكيت اليوم، ليس بيكيت نفسه، ولا غودو الذي ننتظره حتى في عقر مجتمعنا، مع أننا لا نعرفه، ولا حتى فكرة الكائن الذي يقطن في رؤوسنا، ولا يكف عن الثرثرة، بل «الصمت في محتواه المليء صخبا».. الصمت بالمعنى « البيكيتي»، النسبي بالمعنى «الإينشتايني»، المخيف والمطمئن بالمعنى العادي، الحامل لأكثر من معنى، الذي يلامس فقط، صمت الخارج، أو بمعنى آخر غياب الضوضاء، بكل هذه المعاني أين نحن منه؟ ألا يأخذنا بيكيت وحده إلى معنى مختلف؟ نعم يفعل ذلك، لكن المؤرخ الفرنسي ألان كوربان، وهو أكثر مؤرخ مقروء خارج الدائرة الفرنكفونية، لديه كل الإضافات التي نحتاج إليها لنفهم الصمت، وندرك أهميته التأسيسية للأشياء.
في تقديم عثرت عليه لكتابه «تاريخ الصمت، منذ فترة النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر حتى الحقبة الراهنة» يطرح كوربان أسئلته ويجيب عنها وفقا لدراسة تاريخية عميقة، عائدا بنا في رحلة إلى الماضي (لتوصيف حياة أولئك الصامتين من الفلاسفة والمغامرين الذين يجوبون الفيافي والقفار وحدهم، بدون أنيس ولا رفيق، وتوصيف أماكن «الصمت» التي عرفوا فيها « لحظات من الصفاء» وكانوا في جميع الحالات «يصغون عبر الصمت إلى ذواتهم»، على اعتبار أنه «المكان الذي يتفجر منه الكلام»). يقول كوربان إن الصمت ليس نفسه دائما، فهو مختلف جدا بين زمن وآخر، لأننا لا نصغي بالطريقة نفسها، ويستقرئ هذا الأمر عبر نماذج مهمة من عالم الشعر والرواية، مؤكدا أن لا أحد كتب عن الصمت غير أهل الشعر والأدب والمتأملين عبر نصوصهم، ورسائلهم، ولم يقصدوا أبدا أن يقدموا تحليلا للصمت، أو بحثا في طبيعته. ما توصل إليه، لم يكن فرضية كالتي أطلقها بيكيت من عمق فلسفته، بل تأكيدا للواقعة عبر فصول زمنية مختلفة، حولت الصمت لحدث رئيسي له أهميته، لكن أيضا إلى ثروة، أو بمعنى آخر إلى كنز لا يقدر بثمن، تحديدا حين يصبح العنصر الأهم لإنجاز ما، كالصلاة التي تقتضي سكينة كاملة، وإلا فاكتمالها ناقص.

كل الفضاءات الصامتة تقول مقولاتها، لكنها لا تخترق السمع كما تفعل ضجة الأشياء، للصمت مداخل سرية إلى الروح، نكاد نتلمسه أحيانا وهو يهدهد قلق القلوب، وهياج المشاعر، حين يحل بعد غياب.

حتى في الحب، يعبر بنا هذا المؤرخ الفريد من نوعه إلى أهمية الصمت في علاقات الحب، وأن التأمل المرافق للصمت بين عاشقين، سيؤكد حتما صدق تلك المشاعر المتبادلة، حين يشعر كل منهما بأن الرغبة في محبة الآخر تكبر في لحظة الصمت، وفي فتراته الطويلة، كون الحب لا يتوقف عند ترديد كلمة «أحبك». والآن سواء وقفنا في صف بيكيت، وأنكرنا وجود الصمت، من منطلق انعدام تحققه، بوجود أصوات الذات التي تعمل بدون توقف، وكأنها محركات معمل ينتج الأفكار، أو وقفنا في صف كوربان، واختبرنا كل أنواع الصمت المقترحة من طرفه، فإن النتيجة التي نخلص إليها، تؤكد أن لا صمت بالمطلق غير الموت، لهذا فإن مجرد تصوره في شكله المطلق، يرعبنا، وإن كان صمت الأماكن، يغرينا أحيانا، ويخيفنا أحيانا أخرى، فلأن أصواتا داخلنا هي التي تحدد نوع ذلك الشعور، غير ذلك، فإن اشتهاء الصمت يكون دوما للإصغاء لصوت ما، لزقزقة العصافير، لخرير المياه، لموج البحر، لحفيف أوراق الشجر، للموسيقى، لكلام شخص ما، أو غيرها.
كل الفضاءات الصامتة تقول مقولاتها، لكنها لا تخترق السمع كما تفعل ضجة الأشياء، للصمت مداخل سرية إلى الروح، نكاد نتلمسه أحيانا وهو يهدهد قلق القلوب، وهياج المشاعر، حين يحل بعد غياب، هو المفقود بشدة اليوم، هاربا من رنات الهواتف، وأبواق السيارات، وهدير أجهزة التكييف ليل نهار، وتزايد قنوات الثرثرة والكلام .
إنه الجحيم بعينه، وإني لأرى أن ما قاله حكماؤنا العقلاء على أن «الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت، والعاشر في اعتزال الناس» حاجة ضرورية للابتعاد عن هذا الجحيم المعاصر ولو لحين، أو على الأقل للإبقاء على ذلك الخيط الرابط بيننا وبين الصديق الخفي الذي يعيش في أعماقنا.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آمال نوار / كليفلاند ، أوهايو:

    عزيزتي، أجل، للصمت داخلنا حجارته الناطقة. لي قصيدة عنوانها “بالصمت أكون ملكة”. وأتذكّر هنا أيضًا مقطع من قصيدة للشاعر الكاريبي العظيم ديريك والكوت إذ يقول:

    العاصفة لا تُخيف،

    الاستعداد هو لبُّ المسألة؛

    وما يأتيكَ من الزهو

    يقصدُ أن يُعْلِمك

    بأنّ الصّمتَ هو لبُّ المسألة:

    أنه أعمقُ من الاستعداد،

    أنه بعمقِ البحر،

    بعمقِ الأرض،

    بعمقِ الحبّ.

    الصّمتُ

    أعتى من الرّعد.

إشترك في قائمتنا البريدية