إذا ما نحن سلمنا بضرورة الأخذ بعين الاعتبار التعقيدات الملازمة لبناء لغة الصمت بالنسبة للمرسل، فسنكون مدعوين إلى التسليم بحضور التعقيدات ذاتها بالنسبة للمتلقي، باعتبار أن التدخلات البيانية الموظفة في استراتيجيات التوصيل، من قبيل، تعليق الكلام بالإيجاز، والاختصار، والمحو، والإيماء، والإشارة، من شأنها إحداث نوع من الطمس للبنيات الدلالية التي يتضمنها القول، من منطلق انزياحها بزورق الكلام إلى ضفة الصمت، مقترحة على المتلقي شكلا مغايرا من أشكال التواصل، الذي يتجاوز مستوى التعبير اللفظي العادي إلى مستوى أكثر تعقيدا، يستدعي فهمه وتفسيره امتلاك خبرة مضافة في جمالية القراءة، وتجربة متقدمة في استكناه أسرار الدلالة الناتجة عن عملية الطمس.
ذلك أن الأمر يتعلق بمنهجية مغايرة في القول، مستقلة بآلية إنتاجها للمعنى وإعادة بنائه، حيث تقتضي من الباث والمتلقي تملكهما معا لكفاية وافية من جهة بنائهما للرسالة وتفكيكها، شرط أن تكون كفاية متجاوز لحدود التواصل، المختزلة عادة في الحاجة إلى الاسترسال والإطناب في الكلام. بمعنى أننا بصدد اختيارين من اختيارات التوصيل. يتمثل أحدهما في مطلب توسيع الكلام توخيا للإفهام، فيما يتمثل الثاني في التقيد باستراتيجية الصمت، على أساس أن الرسالة المعنية بالتوصيل تنتمي إلى قناة مغايرة للقناة اللسانية، حيث يكون توظيف استراتيجية الصمت، هو السبيل الأنجع لتبيان ما يعجز اللسان عن إبلاغه. ولنا في الكتابة الشعرية خير دليل على ذلك، لأنها غير معنية البتة بإشكالية توسيع القول أو تضييقه، بقدر ما هي معنية بالإشارة إلى ما يقع خارج القول العادي والطبيعي، أي، إلى ما يتفاعل في خلوة الصمت، الإيماء، والتلويح.
ولعل أنكى ما يمكن أن تقع فيه القراءة من خلط، هو ميلها لترجمة اللغة الشعرية إلى اللغة الاعتيادية، وإخضاعها القسري إلى قوانينها، بهدف تبديد ما يلفها من «غموض» وبدعوى تبسيطها، وتيسير فهمها بالنسبة للقارئ العادي غير المتمرس بتأويل ما تقوله التلويحات الإيحائية والإشارية.
والجدير بالذكر أن هوية القول، هي التي تتدخل في انتقاء أساليب بنياته التعبيرية، ما يؤكد أن الكتابة بالصمت، لا تعني امتثالها لقوانين جمالية ثابتة، مخصوصة ومؤطرة بمبدأ الإجبار الصمتي، الذي ليس لها أن تستبدله بغيرها من القوانين. ذاك أن المقامات التعبيرية تتعدد وتتنوع، وما يستدعي قوله فقط بالصمت الشعري، يحتمل انفتاحه اللامحدود هو أيضا، على نماذج مختلفة ومتباينة من نماذجه. كما أن ما لا يمكن قوله فقط باللغة الواضحة، يتعذر الزج به في ما لا يحمد صمته. ما يفيد بأن كل خلط بين هذه الأنساق، من شأنه إحداث خلل في البناء، في القول، وفي تقنية التوصيل. ولعل السبب يعود إلى إشكالية القبض على طيف المعنى، المتجذرة في التلقي العام، بوصفها الهاجس المركزي المستبد بكل قراءة تروم بسط سيطرتها على أرض الكتابة، بصرف النظر عن الإبدالات التعبيرية الموظفة فيها. علما بأن الصمت هو أيضا فرع من فروع البيان الأساسية، كما نصت على ذلك أهم المقاربات التراثية للغة. بمعنى أنه /الصمت، يساهم هو أيضا وبطريقته الخاصة، في هتك حجاب الدلالة الشعرية التي تكون في الأصل من جنسه، ومن صلبه، أي الدلالة المنتمية للغة الصمت الشعري، وليس لدلالة الكلام العام. ويمكن اعتبار مفهوم «بيان الحال» الذي هو الوجه الآخر لمفهوم «النصبة» الجاحظية من حيث مرجعيته ومولده، منتهى ذاك البيان، الذي لا يطمئن بالضرورة إلى دعم إطنابي أو تبسيطي. كما أنه التعبير البليغ عن أعمق حالات القول المدثر بخيمياء صمته، التي يستعصي مرامها على اللفظ. إلى جانب كونه الأفق المنتظر الذي لا تكف الكتابة الشعرية عن استشرافه. أما بالنسبة لانفلات المعنى، فمرده المراوحة الصعبة داخل هذه الوحدة، التي تبدو من حيث الظاهر أنها تمتلك وجهين متعارضين ومتنافرين. ففي حالة تعاملنا مع الدلالة، بوصفها جماع صوت وصمت، فإن المعنى سيكون حتما عرضة للضياع لحظة انتقاله من أحدهما إلى الآخر، لصلته الوثيقة بهذه الدينامية وهذه الحركية المتقلبة، خاصة أن الأمر يتعلق بزئبقية الدال، الدائم الانصهار في مجرى التحولات العلائقية الحافة به. مع العلم أن السياق من هذا المنظور، هو الذي يتدخل في إضفاء الصلاحية على الصمت، أو الصخب. لاسيما وأن انتظام مكوناته، يتحقق أصلا بالتوازن القائم بين الطرفين، أسوة بالتوازن العام الناتج عن التفاعلات السببية لقوانين الحياة الطبيعية. وبالتالي، فإن التنكر لمقومات هذا التوازن، قد يكون هو أيضا في سياق الحاجة والضرورة، أو عكس ذلك، في سياق الإكراه. كأن تكون مجبرا على الوجود في أحدهما، أو أن يكون وجودك استجابة تلقائية لضرورة ما.
وبما أن العملية التعبيرية والتواصلية هي جماع تكامل وتفاعل اللغة المنطوقة والصامت، فالنطق عمليا يتدارك ما لم يجاهر به الصمت، والعكس بالعكس. فهما معا يتكاملان في ترجمة القول الذي يقتضيه السياق. والجدير بالذكر أن اللحظة التي تتحقق فيها كينونة النصبة، هي امتداد لكينونة الكائن الشعري، الذي يحلم بالتموضع في مقاماتها. إنها من هذا المنطلق، التجلي المثالي لجمالية الصمت، التي ينكب الشاعر على فك شيفرتها، كي يحولها – إن أمكن – إلى لغة قابلة للتلقي، باعتبار أن الانتقال من حالة «النصبة» إلى حالة القول الشعري، هو حركة داخل عالم دلالي جد متجانس، حيث أن تحقق مطلب الانتقال بهلامية الحال من مقام صمتها الأصلي، إلى مقام التعبير اللغوي، لا يعني بالضرورة تغيير مسار الدلالة من سياق غموضها إلى سياق الوضوح، والتفسير والترجمة، بقدر ما يعني محاولة إعادة رسمها في صيغتها الأصلية عبر قناة التلفظ. ما يجعلها محتفظة بجمالية انبجاسها الصامت، مهما كانت طبيعة لبوسها اللساني واللغوي.
وتلافيا لأي تشويش قد يطال دلالة المفهوم، وجب التأكيد من جديد على أن توصيفنا للكتابة الصامتة لا علاقة له بالدلالة الحرفية التي يتميز بها الكلام الصامت، والمعبر عنه بلسان الحال، وإنما له علاقة شبه باطنية بالكتابة الصامتة، التي تتجاوز لسان الحال إلى جوهره، كي تستمد منه قوانينها. وواضح أننا نشير في هذا السياق إلى الكتابات الأساسية، وليس إلى كل كتابة تلح على حشر زوائدها في جبة الشعر. بمعنى أن الصمت الذي يعنينا تحديدا، هو صمت استثنائي، تتعود الذات الشاعرة على اقتناصه والفوز به، ضمن مبدأ المعاودة والمران، الذي يساعد الذات على الدخول في طقسها الخاص والذي قوامه الكشف والرؤيا. الصمت الذي تعيش فيه الذات فناءها، بما يعنيه هذا الفناء من احتجاب شبه تام لكل ما يربطها بالعالم الخارجي، حيث تتراجع ذاكرة المعيش إلى حدها الأدنى. كي يتراجع بذلك تأثيرها النفسي على الذات. إنه الصمت الموقظ لكل اللغات المنسية في ذات الكائن الشعري، كي تمضي به قدما في اتجاه عرش العبارة، حيث ثمة نار تستضيء الروح بصمتها.
شاعر وكاتب من المغرب