صناعة الأوهام
محمد كريشانصناعة الأوهام لنوضح منذ البداية أننا سنضع أنفسنا، حقيقة أو جدلا، داخل خانة خيار التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولنضف أيضا بأننا لن نرفع شعارات المقاومة، لا اقتناعا ولا تظاهرا، ولنقل كذلك إننا قبلنا، ودون رجعة، السلام خيارا استراتيجيا مع الدولة العبرية، وبالتالي لن نؤيد أو نبرر أو ندعو لأي عمل مسلح أو عنيف ضدها. لن نتحرك إلا في سياق العمل الديبلوماسي السلمي الهاديء. نقول كل ذلك منذ الأسطر الأولي حتي لا نتهم سريعا بالشعاراتية أو بالمزايدة أو العدمية، حتي نتمكن لاحقا وضمن ذات السياق المؤمن بالحلول السلمية حتي النخاع إلي الإقدام بشجاعة سياسية وأمانة شخصية علي جردة الحساب لهذا الخيار.من أكثر المفردات ترددا علي لسان أكثر من مسؤول عربي ودولي هذه الأيام مفردتا أفق سياسي و فرصة تاريخية دون أن يبادر أي واحد إلي توضيح، دعك من محاولة الإقناع، بماهية هذا الأفق السياسي وما الذي يعنيه عمليا بما يجعل السياسي أو الرأي العام الواسع يقف علي مضمون حقيقته علي الأرض وكذلك دون أن نعرف حقيقة هذه الفرصة التاريخية حتي يدفع الجميع باتجاهها تجنبا لأن يقال في حقنا دائما، عربا وفلسطينيين خاصة، بأننا لم نفلح في شيء فلاحنا في إضاعة الفرص ثم التحسر عليها مما قاد باستمرار إلي سقوط متواصل في سقف التسوية المأمولة. الأفق السياسي تردد كثيرا علي لسان المسؤولين الأمريكيين ومعهم الإسرائيليون والعرب ولكن هذه المفردة سرعان ما سحبت من أفواه الأوائل بعد فورة جولة كوندوليزا رايس ولقاءاتها الماراثونية الأخيرة ولم يبق من مردديها تقريبا إلا مسؤولونا في وقت يعرف فيه القاصي والداني أن لا أحد قادرا علي فتح أفق، مهما كان متواضعا، إلا هم فيما يقتصر دورنا علي الأمل والرجاء حتي لا نستعمل كلمة أخري. وبعد ما ذهب في ظن كثيرين منا، طمعا أو غباء، أن مبادرة السلام العربية التي أعلنت في بيروت قبل خمس سنوات وجدد التأكيد عليها ومحاولة تفعيلها في قمة الرياض الأخيرة قد تكون هي هذا الأفق السياسي الذي ربما اقتنعت به واشنطن وقد تفرضه صفقة متكاملة ونهائية علي الإسرائيليين، لم يستمر ذلك الانطباع طويلا حيث بدأ تتسرب تدريجيا عبارات من نوع أن هذه المبادرة ليست سوي مبادئ عامة و إطار عام للتفاوض الشيء الذي أتاح للإسرائيليين تدريجيا التسلل للعودة إلي الزاوية الأولي من المربع الأول عبر التأكيد أن لا شيء علي الطاولة حاليا إلا خطة خارطة الطريق وبالتحديد المرحلة الأولي منها الداعية إلي محاربة الإرهاب الفلسطيني . وهذا المنطق قاد بدوره إلي عودة الطائرات الإسرائيلية مؤخرا إلي غاراتها علي قطاع غزة واجتياحاتها داخل مدن الضفة الغربية وما يصحب ذلك من سقوط ضحايا مدنيين كثر من بينهم حتي الشابة اليافعة التي تجلس تراجع واجباتها المدرسية داخل بيتها. هذا المسمي أفقا سياسيا والذي اتضح أن لا معالم له سوي ما يري علي الأرض من ممارسات الاحتلال أوصلنا إلي وهم آخر لا يقل خطرا وهو الزعم بأننا أمام فرصة تاريخية قد لا تعود ثانية مع أننا لا نلمس أبدا أية مؤشرات تفيد من قريب أو من بعيد بوجود هكذا فرصة بل لا توجد مطلقا فرصة يمكن حتي مجرد وصفها بالتاريخية أو غير ذلك فلا واشنطن تبدو مهتمة بشيء آخر غير مأزقها في العراق وتنطع إيران ولا إسرائيل طبعا في وارد أن تقدم شيئا مهما كان محدودا إذا لم تكن مقتنعة بثمن غال جدا لبضاعة قد لا تستحق فلسا واحدا. إذا كان مسؤولونا العرب لديهم معلومات ليست متاحة لغيرهم فليقفوا صراحة ويقولوا لنا علي رؤوس الأشهاد معالم هذا الأفق السياسي الذي قاد إلي هذه الفرصة التاريخية فقد يجدوننا وقتها إلي جانبهم نؤازرهم وندفع في الاتجاه الذي يأملون، أما غـــير ذلك فتضليل لا يليق وإرساء لصـــناعة الــوهم بعد أن فشلت عندنا كل الصناعات الأخري.9