صناعة السؤال التعليمي

ما زال التعليم تقليديا في كثير من أصقاع العالم حتى في العوالم التي يجلس طلبتها على الأرائك، يختبرون نتائجهم في أكثر المخابر تطورا. صحيح أن للمكان في التعليم قيمته وللوسائل المتاحة وتطورها دورها في النهوض بالتعليم، لكن ابتكار الطرق التعليمية المساعدة والشفافة، وحسن الإحاطة بالمتعلم وردم الفجوة بين الأفكار والأعمار، وإقبار الأفكار البالية الهدامة، هي التي لها الدور الأهم في رقي التعليم وفي صناعة المتعلم الفعال. التعليم الذي لا يذكي في صاحبه الحيرة والسؤال هو تعليم هامد بقطع النظر عن دوره في الحياة. وكل وضعية تعليمية لم تكن نتيجة لسؤال، أو استجابة له، هي وضعية هشة لا تفضي إلى شيء. ما زال السؤال هو الأسلوب الوحيد الذي يجعل الذهن في حركة دائبة يحتاجها الكون كي يتجدد.
يرى ماك نايل Mc Nile أن طرح الأسئلة في السياق يمكن المدرس من أن يجعل سيرورة التعليم خاضعة لبنية، وعادة ما تكون هذه البنية مضمونية تتعلق بوحدات تعليمية بعينها. والسؤال في العملية التعليمية سؤال من جهتين: سؤال يتوجه به المتعلم إلى المعلم، وعادة ما يكون في سياق الاستيضاح وطلب المعلومة، وقد يكون في سياق النقاش في علوم تتطلبها؛ وسؤال يتوجه به المعلم لبناء مراحل معينة في سياق بناء عملية تعليمية. الحق أن استعمال السؤال بين الطرفين في هذين الشكلين يعد في ذاته تقليديا، فإن يسأل التلميذ أو الطالب سعيا إلى المعرفة، فذلك يعني أن مملكة المعرفة ما تزال حكرا على المدرسين، وأن الطالب ما يزال في وضعية سؤال كأنه يتوجه به إلى مالك معرفة وحيد. ليس المشكل في أحادية القطب العلمي التي أزالتها اليوم وسائل المعرفة المتاحة في الشبكة العنكبوتية؛ بل المشكل في أن المتعلم بُني ذهنه على صياغة سؤال الحاجة والكفاف، لا سؤال الزيادة وإعادة البناء. وهناك مفارقة في التعليم في مختلف مراحله: الإيمان بجدوى السؤال من ناحية، وعدم إيلاء قيمة لتعليم بنائه للمعلم ولا للمتعلم. علينا أن نطرح سؤالاً لاستقراء معرفتنا بطرق طرح السؤال على غرار: هل نحن شعب يعرف كيف نسأل؟ لكن هذا السؤال يبدو لنا غير قابل للطرح، بحكم أن السؤال فرداني وليس جماعيا، بمعنى أنه ليس هناك حزمة سؤال مشتركة تتقاسمها جماعة ثقافية معينة. من الأماكن المشتركة التي يمكن أن تكون لدى الجماعة فيها أسئلة مشتركة هي المدرسة. الأسئلة المشتركة هي تلك التي يطرحها فرد على جماعة وينتظر الجواب، يكون المعلم وقتها كصياد يرمي شباكه وينتظر أن يقارب السمك أو يباعد. يعرف كثير من المدرسين أن للسؤال الواحد إذ يصاغ أجوبة متقاربة، لا يحاول فيها المجيب أن يقارب الجواب الصحيح، بل أن يقارب جواب سابقيه، ولاسيما إذا أجمعوا على جواب قد لا يكون صحيحا، لكن الاعتقاد بأن التكرار علامة على الصواب هو ما يجعله مكررا.

صناعة الأسئلة التي تبدأ بأسماء الاستفهامات الكبرى (ما هو؟ لماذا؟ كيف؟ متى؟ أين؟) هي صناعة تقليدية، بل هي صناعة هشة لا تدوم بضاعتها كثيرا، لكن هذه الأسئلة الشعبية في التعليم لا تقع المواقع نفسها عند طارحيها أو المجيب عنها.

صناعة الأسئلة التي تبدأ بأسماء الاستفهامات الكبرى (ما هو؟ لماذا؟ كيف؟ متى؟ أين؟) هي صناعة تقليدية، بل هي صناعة هشة لا تدوم بضاعتها كثيرا، لكن هذه الأسئلة الشعبية في التعليم لا تقع المواقع نفسها عند طارحيها أو المجيب عنها. فسؤالا الـ(ما هو؟) أو الـ(لماذا؟) يظلان في التعليم من أصعب الأسئلة، سؤال الماهية هو سؤال يدفع إلى صناعة التصور حتى وإن لم تكن الإجابة مطابقة للمطلوب، أو كان السؤال أبسط من المطلوب. سؤال الأجلية أو العلة هو أكثر الأسئلة تعقلا، لأنه يروم أن يجد لكل شيء معرفي أرضية يرتكز عليها وموقعا ينبت فيه وسببا قد يعز تفسيره أو الأحاطة به. لكن تظل الأسئلة الذكية تلك التي تتألف من معطى ومن مطلوب من أساس، هو الذي عليه مرتكز السؤال ثم من متن قصير وواضح للسؤال. السؤال قاعدة مرمرية أو رخامية، كالقواعد التي يرتكز عليها التمثال العظيم، وبدلا من أن نرجم من نسأله بالسؤال مباشرة، نتركه يأخذ نفسا عميقا بما يمهد للسؤال ويجعله يعلم عن أي شيء يدور الحديث، ثم بعد ذلك يأتي السؤال في عنفوانه المتواضع. صناعة السؤال هي أصل لصناعة المادة التعليمية الذكية، التي تحسن بناء عقل المتعلم. صناعة السؤال لا تنشأ في المدرسة، بل في المنزل وفي مراحل النشأة الأولى. حين يتفتق لسان الطفل بالكلام لا يمكن أن يسأل: المراحل البدائية وصفية طلبية بامتياز يعرف الطفل كيف ينادي أمه وأباه وكيف يطلب ما يحتاج، لكنه لا يعرف السؤال عنها. لكن أن ينادي الطفل أمه، فيه سؤال مبطن (أين أنت؟) أو سؤال اقتضاء (كيف تركتني؟). في عقل الصبي تسكن الأسئلة في منازل الأساليب الأخرى لكنها موجودة: حين يشير الصبي بيده إلى طائر في السماء يراه أول مرة فإنه يسأل: ما تراه يكون؟ أهو شبيه الطائر المسجون في القفص؟ هل يمكن أن أطير معه؟ في المنزل يطرح كثير من الأسئلة، وعادة ما تبدو لنا بسيطة تافهة: لماذا فعلت كذا؟ هذا السؤال التقريعي لا يتطلب جوابا، لأنه لم يجعل لكي يجاب عنه. تعلمنا الأسرة شيئا عن الأسئلة يبلبل علينا في المدارس: أن هناك من الأسئلة ما يطرح ولا يطلب منا أن نرد عليها. في المدرسة الأمر مختلف تماما: ما من سؤال إلا وهو مُقْتَضٍ لإجابة. بناء السؤال يمكن أن يتخذ أشكالا هندسية مختلفة، فهناك السؤال المتدرج الذي يُبنى مثلما تبنى السلالم درجة إثر درجة حتى يصل المتسلق وبلطف إلى أعلى المراتب المعرفية التي تتطلبها سيرورة بناء درس أو وحدة تعلمية. هذا شكل صاعد من الأسئلة لكن هناك الشكل اللولبي الذي يظل يلف بك ويصعدك وقد يصيب المتعلم بالدوار، خصوصا إذا كان اللف سريعا. وهناك السؤال الهرمي الذي يكون ذا قاعدة عريضة، وذا رأس حاد هذا البناء مفيد ومثالي لأنه يبني المعارف على التفاصيل، ويوصل المتعلم إلى درجة من المعرفة المجردة أو الخطاطية. صياغة السؤال فن يكتسبه خبيران أحدهما عالم بالكيفية التي تبنى بها المعرفة العالمة والموجهة إلى التعليم، والثاني عارف بكيفية نقل تلك المعرفة نقلا يناسب ذهن من يتلقاها ويحسن التفاعل معه.
بناة الأسئلة من المعلمين ليسوا بالضرورة من قضوا سنوات طويلة وهم يعيدون مادة تعليمية واحدة؛ بناتها الأصليون هم من كانت تنشئتهم على السؤال قديمة. يمكن أن يتعود السائل المعلم على نسق من الأسئلة لا تكون مفيدة، ويكون مكتفيا بها لأنه لم يجد غيرها، عندئذ يمكن أن يقبرك السؤال في دائرة الرتيب القاتل للمعرفة والتفكير. من المأثور في الأخبار أن جارية كانت تحمل طبقا مغطى فسألها أحد من يراقبها: ماذا فيه يا جارية؟ قالت: ولمَ غطيناه؟ إن كان سيعجبك جواب الجارية، فاعلم أنك خارج الأسئلة التعليمية، وإن كنت من صف من راقبها فاعلم أيضا أنك خارج الأسئلة التعليمية. قوة السؤال في المدرسة أنك تحمل طبقا مكشوفا وتسأل رغم ذلك أن تسمي ما فيه ولماذا لم يغط وماذا لو غطي: هل يكون الذي فيه الآن هو نفسه الذي فيه لو غطي؟

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية