ما تزال عبارة صناعة المعنى رائجة حتى عصر الناس هذا؛ وقديما استعملها البلاغيون العرب في معنى إبداعيّ ولذلك قرنوها بجنسي الكتابة الشعر والنثر وفي عنوان «كتاب الصناعتين» لأبي هلال العسكري ما يكشف ذلك. والحقيقة أنّ كلمة «صناعة» كان لها معنيان اثنان عند علماء العربية ونقادهم وهي، أوّلا أنّها كانت في معنى الفنّ أي كلّ ما اتصل بالكلام على الكلام، سواء أكان ذلك نحوا أم بلاغة أم أيّ فنّ يتعلق بما نسميه اليوم اللغة الواصفة لنفسها أو الورَلسان Metalangage.
فالإعراب مثلا كان صناعة مثلما يفهم من كتاب النحوي الشهير أبي الفتح عثمان ابن جنّي الذي وسمه باسم «سر صناعة الإعراب»؛ وكلّ علم من علوم اللغة كان يقبل أن يتسمّى صناعة. وبناء عليه كان لكل صناعة معلم وعالم كان العالم ينشئ العلم ونظرياته، أمّا المعلم فيلقنه وينقله. المعنى الثاني للصناعة في التراث العربي البياني له علاقة بالإنشاء والكتابة والإبداع وهي مسائل تُتعلم بناء على قواعد معلومة، فالشاعر لا بد له من صناعة العروض ليعرف موازين الكلام وقوافيه وأعاريضه، وعليه أن يعرف أيضا صناعة البلاغة، وكيف يبني الكلام بالمحسنات المعنوية واللفظية وكيف تنسج الأخيلة؛ وعليه أن يعرف أيضا ما قاله النقاد في صناعتهم من الخضوع في الشعر إلى الأغراض والمعاني التي يتألف منها كل غرض، فليس للصناعة بهذه الأحكام قيمة إلا من خلال ما يتعلم من مبادئ وبعد هذه الصناعة أو قبلها تكون السليقة أو الموهبة ولا موهبة دون صناعة.
في أيّامنا هذه أكثر الناس من الحديث عن «صناعة المعنى» وهي عبارة يقصدون بها بناء الناس والمبدعين بالأساس أنساق المعاني؛ فهذه العبارة هي أقرب ولا شكّ إلى المعنى التقليدي القديم الثاني، الذي ذكرناه أعلاه. لكنّ عبارة «صناعة المعنى» تطورت لتستعمل في كثير من الخطابات السياسية والصحافية والنقدية الفنية، تطورا مفيدا، إذ بات يعني بها الناس في الغالب تتبع أنساق الكلام في خطاب سياسي، أو صحافي أو إعلامي أو نقدي بناء على كيفية بناء الفكرة وتناسقها داخل تلك الخطابات.
ليس من شأن هذا المقال أن يتابع هذا الاستعمال الحدسي للعبارات التي قد يشيع استعمالها من غير أن يكون وراءها جهاز نظريّ يوجّهها؛ هي أدوات عمل: أي أدوات يشتغل بها الحرفي دون أن يعرف شيئا نظريا عن هندستها وفلسفة وضعها.
في اللسانيات العرفانية، وهي اللسانيات التي تردّ المنجز اللغوي إلى العرفان البشري، تستعمل عبارة «صناعة المعنى» في معان دقيقة لها صلة باشتغال اللغة في الإدراك. إذ لا يؤمن اللسانيون العرفانيون بالفكرة التي سادت عصورا: أنّ دور اللغة يكمن في نقل الواقع بالإحالة على ما يسمونه بقيمة الصدق، أو قيمة الحقيقة Truth Value. حالة الكون في هذه المواضعة معلومة سلفا وثابتة على أوضاعها وعلى مواضعات الناس عليها؛ وما على اللغة إلاّ أن تحيل على تلك الحالة أو الوضعيّة؛ وأن نحكم على صدقها وكذبها بناء على ما استقر عندنا من مواضعات. فمعلوم أنّ قولك (واحد مع واحد يساوي ثلاثة) خاطئ من جهة مواضعاتنا في الكون الرياضي، على أنّ الحاصل هو اثنان؛ ومعلوم أنّ قولك (الريح تمطر) لا يكون صادقا بناء على حالة ثابتة في الكون: أنّ الريح لا تمطر. إبداع المعنى ممكن في الجملة هذه في الكلام الشعري والمجازي، وقد يكون القول الأوّل ممكنا أيضا في السياق نفسه لكنّ القولين لا يستقيمان في عالم العلم والوعي المشترك بالعالم.
كون المعاني مصنوعة يعني عند اللسانيين العرفانيّين، أنّ المتكلمين هم الصناع الفعليون للكلام، فهم من يبنون الكون وليس أحد غيرهم، وهم من يدركونه ويصفونه ويتفاعلون معه إدراكيا قبل أن ينتجوا حوله كلاما. يعني ذلك أنّه لا يمكن لك وأنت تحلل كلاما أن تفصل المتكلم الذي صنعه عن محتوى ذلك الكلام؛ فالمتكلم هو المدرِك أو فاعل الإدراك Subject of Conceptualization وكلامه هو موضوع الإدراك Object of conceptualization. ليس الكلام بما هو موضوع إدراكٍ لوضعيّات خارجيّة قابلا لأن يبنى بشكل واحد؛ ففواعل الإدراك تتدخل في تنويع بناء المواقف: هذا شيء مطبوع به إدراكنا المتنوع للكون؛ كلّ يطلّ على الكون من زاوية نظر. للبشر ملَكاتٌ إدراكية واحدة ما في ذلك شك مثل ملكة التصوير الذهني Mental Imageryوكل شخص يمكن أن يصور الكون وفق الطريقة التي يراه بها ويبنيه باللغة بناء يختار فيه ما أتيح من العبارات والكلمات والصيغ، التي تسمح له أن يدرك ما أدرك كما رآه هو؛ ومن هنا يصنع المتكلم المعنى.
يشتغل الذهن على المواقف والوضعيات التي نصفها بالانتخاب. ويعني الانتخاب أنّنا نختار عنصرا أو مشهدا من الموقف يكون هو الأبرز ونجعل البقية فرعية عليه. هذا يكمن في قدرة ذهنية عندنا تتمثل في أنّنا لا نستطيع أن ندرك الأشياء من حولنا على أساس أنّها تحظى بالأهمية نفسها من الإدراك. فعلى سبيل المثال وأنت تركب القطار مثلا، لا تستطيع أن ترى كل شيء في الوقت نفسه ستختار مثلا بيتا نائيا تراه إلى أن يغيب، سيكون البيت هو الوجه الذي يبرز في مجال نظرك وتكون الخلفية المشهدية مثلا، حقولا شاسعة هي التي يقع بينها المنزل، أو واحة نخيل، أو مجموعة جبال هذه الخلفية تسمّى الأرضية. صحيح أنّ البيت الذي رأيته من نافذة القطار العابر موجود قبل أن أراه؛ لكنّي وأنا أراه بات موجودا بالنسبة إليّ ولم يكن له وجود في ذهني من قبل؛ وحين أريد أن أحدث رفيقي في القطار عن ذلك البيت البديع وحتى لا يمر القطار ولا يرى صديقي البيت أقول له: انظر ما أبدعه.. إن مرّ القطار ولم يرَ رفيقي البيت سيكون هناك بيت في ذهن رفيقي وسيكون هناك معنى يدرك هو الذي قلته، فأنا بالقول خلقت البيت والمشهد والمعنى.
لو كان غيري في القطار يمر ورأى البيت فإنّه لن يكون مضطرا لأن يقول ما قلته بالضبط؛ يمكن أن يخاطب مرافقته بقوله: (بسيطٌ لكنه هادئ) سيكون قد قال ذلك وهو يذكر حاله إذ يسكن في شقة في المدينة تكتظ بالجيران وبجلبة الباعة وأصوات مزامير السيارات والقطار. لقد بنى المسافر خلفي المشهد نفسه لكنّه بناه بعبارات أخرى هي التي كانت مجامع الاهتمام في إدراكه للبيت الريفي البعيد. كلّ منا بنى مشهدا واحدا بعبارات مختلفة، لا لأنّ في الأمر حرّية في بناء الكلام؛ بل لأنّ كلّ واحد منّا أدرك المشهد بما يسمح له السياق الذي يعيش فيه، وبناه بناء وظيفيا لصالحه، وتملك المشهد بما يتيح له أن يكون ملكا له. هذه هي صناعة المعنى بالمعنى العرفاني للعبارة.
وأنا أعبر شوارع المدينة من الممكن أن أرى أشياء فلا أصفها، لكنّي أراها وأخزنها في ذاكرتي، وحين أصفها أفعل بما أعتبره وصفها مهمّا؛ بناء على ذلك فإنّ قول المتني مثلا في وصف زئير الأسد (ورْد إذا ورَد البُحيرة شاربا// ورَدَ الفراتَ زئيرُه والنّيلا) ينبغي أن لا يحمل من خلال هذه الوجهة من النظر على المبالغة؛ بل ينبغي أن ينظر إليه أوّلا وقبل كلّ شيء على أنّه بناء لوقع الصوت وامتداده المتسع في المكان. في حديقة الحيوانات في بعض المدن الأوروبية يصف لي ولدي كيف أنّ زئير الأسد في الحديقة يُسمع من بعيد، أعيد له بيت المتنبي فلا يفهم منه شيئا إلاّ بعد تفسير.. ليس الإشكال في غرابة العبارة بل في أنّ خلف بناء المشهد بناء صوتي له يسعى به الشاعر إلى المجانسة بين (ورد/ ورد) وهذا هاجس ثان للصناعة لا يعني ولدي شيئا يعنيه وهو يسمعني أن يقبض على مجامع المعنى، أمّا البحث عن التجنيس فأمر في الصناعة لا يعني المستمع الأليف.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية