بين ليلة وضحاها تبدَّل المشهد في لبنان. المشهد الجديد صنعه صندوق الاقتراع، أحد أركان العملية الديموقراطية التي مهما شابها من شوائب، فإن إرادة الشعوب تبقى قادرة على فعل المستحيل بسلاح غضبها وقهرها وصمتها وآمالها الذي يخطّه الحبر على ورقة وعلى إصبع. هذا ما حصل في 6 و8 أيار/مايو عبر انتخابات المغتربين في الانتشار، إذ رغم كل عراقيل السلطة وتجاوزاتها وتواطؤها لمنع تأثير ذلك الصوت، خرج اللبنانيون في بقاع المعمورة التي هاجروا، لا بل هُجِّروا، إليها ليقولوا كلمتهم. تكبَّدوا مشقة القيادة لساعات في هذه الدولة، والوقوف لساعات تحت أشعة الشمس في تلك الدولة، والانتظار الطويل في الطوابير في دولة ثالثة ورابعة من دون أن يتعبوا أو يملّوا أو ييأسوا… فهي ساعة المحاسبة.
تلك الصور التي نقلتها شاشات التلفزة اللبنانية من دول الخليج، وأوروبا، والأمريكيتين، وأوستراليا، لآلاف اللبنانيين في «يوم الحساب» غيَّرت في معادلة اقتراع المقيمين في 15 أيار/مايو. قبل الانتخابات البرلمانية، لم تكن هناك حماسة لدى لبنانيي الداخل للإدلاء بأصواتهم، كانوا على قناعة بأن النتائج ستكون مُعلّبة مع سلطة قادرة على التزوير أينما أرادت، ومع فائض سلاح وهيمنة لـ«حزب الله» ترهيباً وتضييقاً وترغيباً في دوائر نفوذه وحيث تصل يداه في الدوائر الأخرى.
الاغتراب أيقظ الداخل من سُباته
القناعة بالعجز تعمّقت بعدما أُجهضت ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، حين خرجت الناس إلى الطرقات والساحات احتجاجاً على قرار الحكومة فرض ضريبة على مكالمات الـ«واتسآب» وبقيت لأشهر علّها تُحدث تغييراً بحناجرها ضد منظومة حاكمة قبضت بالمحاصصات الطائفية، وبفسادها، وبتحالف المال والميليشيا، على مقدرات البلاد والعباد. وجاء تفجير مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020 ليُفاقم من اليأس والإحباط، مع التغطية على تلك الجريمة وتمييع التحقيق وتعطيله. وكانت ملامح الاستسلام تكبر بعدما غرق اللبنانيون في الأزمات المعيشية والاقتصادية وطارت ودائع الناس في المصارف وانهارت ليرتهم، وباتت الهجرة إلى أصقاع الأرض السبيل الوحيد للخروج من «جهنم» التي ذاقوا طعمها.
لم يكن أحدٌ من المراقبين، أو مكاتب الإحصاءات، أو الماكينات الانتخابية والإعلامية، يتوقع «تسونامي» تغييرياً. كانت قوى الثورة والتغيير من دون قيادة موحدة، مُشرذمة في لوائحها، لا مشروعَ انتخابياً جامعاً لها. خبا وهجُها، وقلّت الآمال فيها والتوقعات. وكان خبراء الإحصاء، حتى يوم الاقتراع، يتحدثون عن خرق هنا أو هناك، وأعلى تقدير وصل إلى 3 أو أربع مقاعد لا تُعدِّل في نتائج انتخابات 2018.
حسابات نصر الله تحوَّلت وهماً
لم تخرج أصوات من «محور إيران» وحلفائه، مشككة بإمكان خسارة المعركة. حين أطلَّ الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله على جمهوره في رمضان، تحدث بكل ثقة عن أكثرية نيابية، وحاول أن ينفي وجود أي نية لدى فريقه السياسي للحصول على أغلبية الثلثين، التي حذَّر منها رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة في معرض حضّه الناخبين السُّنة على التصويت لتفادي كارثة «المقاطعة» التي عمل في اتجاهها «تيار المستقبل» بعد تعليق زعيمه سعد الحريري العمل السياسي. وحين دعا «سيّد حارة حريك» عبر إطلالاته المتعددة، «بيئة المقاومة» للاقتراع بكثافة، انطلق من أن الانتخابات استفتاء على حجم الالتفاف والحماية لسلاحه، ولا بدَّ من أن تكون الـ«نعم» كبيرة، في رسالة صاخبة إلى «أعداء المقاومة». اليوم يمكن القول إن مهمة «المايسترو» كانت حث جمهوره بُغية ضمان المحافظة على الأكثرية التي لم تكن حسابات ماكينته الانتخابية متأكدة منها.
بين معركة «المختارة»
وطموحات «القوات»
ولم تصدح أصوات من «قوى 14 آذار» سابقاً، المُناهضة لإيران والمحسوبة على دول الاعتدال العربي والغرب، مُعلنة القدرة على تحقيق الأكثرية النيابية، ولا سيما مع عزوف «تيار المستقبل» عن المشاركة في هذا الاستحقاق ترشحاً وانتخاباً. كان الزعيم الدرزي وليد جنبلاط يخوض معركة في وجه محاولة إقصاء «المختارة» عن موقع الزعامة الأولى للدروز في الجبل. وكانت المعركة الأبرز لدى «القوات اللبنانية» تتمثل بنيل الكتلة الأكبر مسيحياً، ونزْع تلك الصفة عن كتلة «التيار الوطني الحر» الذي وفَّر – من خلال هذا الموقع – غطاءً مسيحياً لـ«حزب الله» والخيارات الاستراتيجية التي يُجسِّدها، ووصل رئيسه عام 2016 إلى سدّة الحكم في البلاد عبر «التسوية المشؤومة» التي كانت لـ«القوات» نفسها يدٌ فيها، من خلال «تفاهم معراب» وتبنّي ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية. وبانت الأصوات السيادية التي تُعبِّر عنها بعض الأحزاب كـ»حزب الكتائب» و«حزب الأحرار» وقوى مستقلة، وأصوات القوى التغييرية والمجتمع المدني، على أنها ذات إمكانات محدودة في ظل صراع التكتلات الكبرى.
فمن تلك المشهدية، انطلقت التحليلات والتوقعات والتقييمات لما قد تكون عليه نتائج الانتخابات لتأتي المفاجأة في صناديق الاقتراع. أعادت اندفاعة المغتربين الروح إلى «ثورة 17 تشرين» وضخَّت قدراً من الأوكسجين في شرايين «التغيير». عبارة «صوتنا للتغيير» تحوَّلت إلى «الكلمة السحرية» التي فتحت قفل التردُّد والانكفاء لدى جيل شاب من المقترعين المحبطين اليائسين من إمكانية خرق جدار «القديم» للعبور إلى «جديد ما» يُحيي الأمل بمستقبل أفضل.
مفاجأة الثورة العددية
14 نائباً من نبض «ثورة 17 تشرين» خرقوا اللوائح القوية في الدوائر الانتخابية ووصلوا إلى قبة البرلمان من أصل 128 نائباً يُشكّلون مجلس النواب الموزَّع مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. هؤلاء سيكونون تحت مجهر الاختبار. كُثر منهم لا يتمتعون عملياً بتجارب سياسية عميقة. البعض منهم لا يحمل عنواناً سيادياً بقدر ما يطرح هموم الناس في المناطق التي جاء منها، والبعض الآخر يُرسل «رسائل مد اليد» تحت عنوان مصلحة البلد وعدم إقصاء الآخر، من دون أن يرسم خطوطه الحمر التي يرمي من خلالها الحُرم على سياسة المقايضة خارج الآليات التي ينصُّ عليها القانون. الاتجاه لدى «الثوريين» هو بالذهاب إلى تشكيل كتلة واحدة. كتلة ستكون في تشكليها أقرب حجماً لكتلتي «حزب الله» و«حركة «أمل» برئاسة نبيه بري وتفوُّق كتلة جنبلاط، وأقل من كتلتي «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» المنشغلتين بالتباري على إثبات أن كتلته هي الأكبر.
صراع الأرقام والمقاعد
فـ»القوات» حصدت التصويت المسيحي الشعبي الأول بنحو 202 ألف صوت تفضيلي، بفارق نحو 70 ألفاً عن التيار العوني، الذي حصل على 133 ألفاً. وزاد التصويت لخط جعجع السياسي أكثر من 40 ألف صوت عن 2018 فيما تراجع التأييد الشعبي لخط باسيل السياسي بحدود 143 ألفاً، إذ إن الأصوات التفضيلية التي نالها في انتخابات 2018 وصلت إلى نحو 276 ألفاً. لم يكن مفاجئاً تراجع شعبية باسيل الذي حل ثانياً بالأصوات التفضيلية في مسقط رأسه البترون، متقدماً عليه بآلاف الأصوات مرشح «القوات» غياث يزبك الآتي إلى التجربة النيابية حديثاً من حقل الإعلام. في الواقع، كانت مجمل الإحصاءات تُشير إلى خسارة «التيار» عدة مقاعد انطلاقاً من انخفاض شعبيته. فكان أن خيَّط «حزب الله» التحالفات بدقة بما يؤمن لباسيل ما أمكنه من مقاعد للحفاظ على موقع متقدم أو قريب مما سيحصده جعجع.
ستتم بهدوء قراءة الأرقام ومعانيها السياسية، ولكن الأكيد أن «حزب الله» أمَّن في دائرة الشوف – عاليه لحليفه المسيحي 3 مقاعد بواسطة «لعبة الحواصل» عبر فرض تحالف واحد مع حليفيه في الوسط الدرزي، طلال أرسلان، الذي أخرجه من النيابة بـ«الصوت التفضلي» شاب «ثوري» هو مارك ضو الآتي من خارج ثنائية الزعامة الأرسلانية – الجنبلاطية، ووئام وهاب الذي سقط آماله بالإطاحة بمروان حماده «الشهيد الحي» الذي افتتح به النظام الأمني السوري – اللبناني – الإيراني باكورة الاغتيالات السياسية في أول تشرين الأول/أكتوبر 2004 قبل استهداف رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير 2005. ساهم «الحزب» في رفد التيار أيضاُ بـ5 مقاعد موزعة بين البقاع الغربي، وبعلبك الهرمل، وعكار، وبيروت الثانية. كانت أولويات «حزب الله» ضمان أن تكون المقاعد الـ27 للشيعة محصورة بـ«الثنائي الشيعي» بما يضمن حصرية التمثيل بهما وغياب الميثاقية من دونهما. وكان الهدف الثاني تأمين كتلة وازنة لباسيل قادرة على أن تُؤمِّن لسلاحه شرعية مسيحية. وكان هدفه ثالثاً الاستحواذ على كتلة سنية أوسع. تحقق كل ذلك إنما بطعم الهزيمة السياسية. فـ«محور إيران» وحلفاؤه تراجعوا إلى 60 مقعداً وخسروا الأكثرية بعدما كانوا حصدوا 74 مقعداً في انتخابات 2018 الأمر الذي دفع بقاسم سليماني إلى التباهي بفوز حلفائه ببرلمان لبنان.
تجميل الخسارة
لا شك أن نصر الله بارعٌ في تجميل الهزيمة. خرج مُعلناً بأن أحداً لا يملك الأكثرية، وبأن هذا قد يكون أفضل للبلد. صحيح أن الآخرين من قوى تقليدية مناوئة له، وقوى تغييرية، ومستقلين وسياديين، حصدوا 68 مقعداً، لكن ما يُريحه أنهم ليسوا جميعاً في جبهة واحدة موحدة ضده، وهناك مَن هم مستقلون غير معادين للمقاومة كمقاومة، قادرين على تأمين الأكثرية السياسية لحمايتها، رغم أنه ليس بحاجة إليها، فهو يرفع شعار «السلاح لحماية السلاح». لم يستطع نصر الله أن يحمي ما تغنّى به سليماني، ولا أن يُعيدَ إهداء روحه هذا الانتصار. لكن الرجل يتمتع بقدرة كبيرة على التكيّف. هدَّأ خطابه السياسي بعدما تبدَّلت موازين القوى السياسية في البرلمان، وبالأمس دعا الخصوم إلى تأجيل عنوان السلاح لسنتين والالتفات إلى الأزمات التي تُحيط بالبلد، حتى إنه لن يتوانى عن مدِّ الجسور، بقدر ما يحتاجه لتمرير الوقت، بانتظار تبلور معالم الاستحقاقات الكبرى التي حوَّل معها لبنان إلى ورقة.
عود طري وسط ذئاب
بجانب التغييرين أو الثوريين، هناك كتلة صلبة من السياديين المستقلين والحزبين الذين كانوا فاعلين على الأرض في ثورة 17 أكتوبر والتحموا مع الناس. لا يزال باكراً الحديث عما إذا كانت تلك القوى ستنضوي في إطار جبهة واحدة. فالكل يتلمّس طريقاً جديداً في كيفية إدارة اللعبة البرلمانية، بعدما سقطت قواعد التعاطي السابق التي كانت تحكم المجلس النيابي. الكل يُقـرُّ بأن هناك شيئاً جديداً قد وُلد، وأن الزمن السابق قد ولّى حين كانت المفاتيح بيد قلّة من القوى المتحالفة ضمن المنظومة المتخاصمة في السياسات الكبرى، لكن الجديد يضع البرلمان على المحك، إنْ لم يكن أمام المجهول في ظل الانسداد السياسي القاتل والانهيار الاقتصادي- المالي- الاجتماعي المريع.
فَتحَتِ الانتخابات النيابية كوّة في جدار تغيير ليس واضحا من حيث الأفق والمشروع ولا مُعبَّد الطريق. خطوة دخول «تغييرين» هزَّت شباك ما هو قديم، وأعطت الأمل لجيل من الشباب الباحث عن مستقبل له في وطن ما عاد يشبه الأوطان وبات على حافة الاختفاء. قلب القادمون الجدد الطاولة، لكنهم ما زالوا حديثي الولادة طريي العود، مُحاطين بـ«ثعالب سياسية» لن تتوانى عن الانقضاض عليهم مجدداً تحت قبة البرلمان كما حصل في الساحات.