تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي الأسبوع الماضي تغريدة تعلن وفاة عالم اللسانيات والمفكّر والناقد الأمريكي المعروف نوام تشومسكي. لكن زوجته نفت الخبر بعدها بساعات. كان تشومسكي قد أصيب بجلطة مؤخراً منعته من التواصل والتفاعل في الحيز العام وهو ما داوم عليه بتفان منذ عقود. ويؤكد المقربون منه أنه يرقد في مستشفى في البرازيل (موطن زوجته الثانية) وهو على قيد الحياة بمساعدة جهاز التنفس الصناعي.
حالما انتشر الخبر الكاذب سارع الكثيرون، كما هو متوقّع، لرثاء تشومسكي وتعداد إنجازاته وإسهاماته، وامتداح تأثيره الفكري الهائل عليهم وعليهنّ، وعلى أجيال بأكملها في كل مكان. فالرجل عملاق، تتنوع إسهاماته التأسيسية والجذرية والمعترف بها منذ عقود في أكثر من حقل معرفي وأكاديمي. وتتعداها إلى الحيز العام الذي برز فيه منذ نهايات الستينيات، مثقفاً مشتبكاً وناشطاً معارضاً للحرب في فيتنام (نشر مقالة شهيرة آنذاك بعنوان «مسؤولية المثقفين» في «نيويورك ريفيو أوف بوكس») وناقداً شرساً للإمبراطورية الأمريكية ولحروبها وسياساتها، وللمنظومة العسكرية الاقتصادية وهيمنتها على المجتمع والإعلام. كما دور الإعلام في «صناعة الإذعان» وهو عنوان واحد من كتبه الشهيرة، بالاشتراك، مع إدوارد هيرمان نشر عام 1988 وعنوانه الفرعي «الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام الجماهيرية». وتشومسكي في سجله أكثر من 150كتاباً وكتيّباً.
على الضفة الأخرى، كان هناك من انبرى لينتقد بعض مواقفه، ويندد ببعض تصريحاته التي يعتبرها إشكالية، بخصوص حرب البوسنة، مثلاً، أو عدم دعمه بشكل واضح وغير مشروط لحركة المقاطعة الأكاديمية والثقافية (بي دي إس) (مع أنه كرّر في أكثر من مناسبة ومحفل أن نظام التفرقة العنصرية في إسرائيل، برأيه، أسوأ من نظام جنوب إفريقيا). وهناك من ردّ على الذين كالوا المديح لمواقف تشومسكي الناقدة لسياسات إسرائيل بالقول إنه «صهيوني عاش في كيبوتس في إسرائيل في الخمسينيات» فهل كان تشومسكي صهيونياً؟
مثقف مشتبك وناشط معارض للحرب في فيتنام وناقد شرس للإمبراطورية الأمريكية ولحروبها وسياساتها، وللمنظومة العسكرية الاقتصادية وهيمنتها على المجتمع والإعلام
ولد تشومسكي في فيلادلفيا عام 1928. هاجر والده من روسيا في 1913 هرباً من التجنيد في جيش روسيا القيصرية. عمل ودرس وحصل على الدكتوراه. ولديه مؤلفات مهمة في قواعد اللغة العبرية وأصول تدريسها. أما والدته، فهاجرت من روسيا البيضاء وكانت تدرّس العبرية هي الأخرى. وأثرت ميولها اليسارية الاشتراكية على ابنها، إذ كانت نشيطة في تنظيم العاملات والدفاع عن حقوقهن. عاش والداه في فيلادلفيا في مجتمع يهودي وصفه تشومسكي بأنه «غيتو ثقافي» ونشط في إحياء ثقافة اللغة العبريّة التي درسها هو أيضاً، ودرّسها في ما بعد، حسبما ذكره في حوار أجراه معه الباحث الفلسطيني معين ربّاني، حول بداياته الفكرية والسياسية (نشر في «مجلة الدراسات الفلسطينية، 2012») كان والداه من أتباع آحاد هاعام (الاسم المستعار لآشير زفي غنسبرغ) (1927- 1956)، رائد الصهيونية الثقافية، الذي انتقد الصهيونية السياسية وحذّر مبكراً من مخاطر وتبعات استيطان فلسطين وممارسات المستعمرين، وكتب مفنداً ادعاءات الصهاينة، إن فلسطين أرض بلا شعب. لكنّه هاجر إلى فلسطين في 1921 ومات في تل أبيب في 1927 وأطلق اسمه على الشارع الذي كان قد سكن فيه.
كان تشومسكي على ارتباط بمجموعات الشباب الصهيونية اليسارية، التي كان أعضاؤها يعارضون فكرة ومشروع الدولة اليهودية، لأنهم كانوا من دعاة دولة ثنائية القومية. وبالذات منظمة «هشومير هتسعير» (الحارس الشاب، وهي حركة شبيبة يهودية عالمية). كانت المجموعات التي تواصل معها تشومسكي وتأثر بها «تصبو إلى فلسطين اشتراكية مبنية على تعاون الطبقات العاملة العربية واليهودية في مجتمع ثنائي القومية، من دون دولة يهودية، فلسطين فقط!». ومن بين المنخرطين في هذا التيار عالم اللغويات الشهير زيلغ هارس (1909- 1992) الذي درس معه تشومسكي في جامعة بنسلفانيا. ويذكر تشومسكي الحزن، بحسب تعبيره، الذي عمّ صفوف رفاقه بعد إعلان قرار تقسيم فلسطين في 1947. «كان ذلك كارثة، أولاً لأن تفتيت فلسطين إلى قسمين ليس منطقياً، وثانياً لأننا لم نكن نرغب بدولة يهودية».
في صيف 1953 أمضى تشومسكي شهرين في كيبوتس هازوريا، بالقرب من حيفا، وكان يعتبر «يسارياً آنذاك» بتعبير تشومسكي، ومتأثراً بأفكار مارتن بوبر. واللافت أنه ذكر أنه كان يخطط للعودة إلى ذلك الكيبوتس، هو وزوجته، لكنهما بقيا في الولايات المتحدة لأسباب أخرى، غير سياسية. كان الكيبوتس في الخمسينيّات مركزاً لفعاليات منظمة هشومير هتسعير «للعمل مع الفلسطينيين في المنطقة».
واستدرك تشومسكي حين تحدث عن تجربة الكيبوتس قائلاً: «عليّ أن أضيف أنه كان من الواضح أن أشياء بشعة كانت قد وقعت في 1948. لم يكن حجم ما وقع وطبيعته معروفاً بشكل كامل آنذاك.» ويروي كيف أنه كان يعمل في الكيبوتس ذات يوم مع أحد الأعضاء الكبار في السن ورأى كومة من الأحجار وحين سأل عنها، هز الرجل كتفيه ولم يكن يرغب في قول أي شيء. لكنه انتحاه جانباً في ما بعد أثناء العشاء وأخبره أنها بقايا قرية فلسطينية «صديقة» وحين اشتد القتال، بما أنها كانت على مقربة هُجّر أهلها ودمّرت (قد تكون قرية أبو زريق). عاد تشومسكي إلى إسرائيل في 1964 لحضور مؤتمر. وزار الضفة الغربية أثناء الانتفاضة في 1988. وفي 2000 تلقى دعوة من جامعة بيرزيت لكن السلطات الإسرائيلية منعته من دخول الأراضي المحتلة.
سُئل تشومسكي في حوار في أبريل من العام الماضي عما إذا كان نادماً على مواقف اتخذها أو لم يتخذها وكان جوابه لافتاً، حيث ذكر إنه بدأ بمعارضة الحرب في فيتنام في بدايات الستينيات ولكن كان عليه أن يبدأ قبلها بسنوات، حين بدأت الولايات المتحدة تساند فرنسا في إعادة احتلال فيتنام. وبخصوص فلسطين، ذكر أنه لم يبدأ بانتقاد «سياسات إسرائيل الإجرامية» إلا في 1969 «وكان يجب أن أبدأ قبل ذلك بكثير، شهدت بنفسي ذلك في 1953 حين زرت إسرائيل، كنت أعرف القليل من العربية مما يكفي لفهم الحوارات. وتنقّلت مع الشخص المسؤول عن التواصل مع العرب. ذهبت معه إلى القرى وسمعنا الشكاوى من أهلهاـ الذين لم يكن يسمح لهم حتى بعبور الشارع ليتحدّثوا مع أناس في الكيبوتس المجاور، من دون أن يذهبوا ويجادلوا للحصول على تصريح لعبور الشارع. كما رأيت القمع وكيف يهين الأشكناز اليهود المغاربة. كان يجب أن أتحدث عن كل ذلك. لم أبدأ إلا بعد 1967 وبعد أن بدأت سياسات إسرائيل التوسعيّة الاستيطانية في الأراضي المحتلة والتي قادت إلى كل ما يحدث، كنت مهادناً أكثر من اللازم في نقدي وتأخرت كثيراً».
قد يقول قائل إن ندم تشومسكي ومراجعته كانا يمكن أن يشملا ويذكرا موقفه اللانقدي أثناء شبابه من «الصهيونية الروحانية»، أو «الثقافية» التي لا يمكن فصلها كلياً عن مشروع الصهيونية السياسية، ومآلاتها، بغض النظر عن موقفها من تأسيس الدولة. كما لا يمكن تقبّل افتراضاتها وتورطها في تراتبية القوة وممارساتها وبالمحصلة، سلب الأراضي، مهما بدت منطلقاتها طوباوية.
بقي أن أذكر أن ما لا جدال فيه هو تواضع تشومسكي الجم وكرمه، سنحت لي الفرصة أثناء دراسة الدكتوراه في جامعة هارفارد في نهايات التسعينيّات أن أكون بين الجمهور الغفير في أكثر من محاضرة ألقاها تشومسكي حين كان يدرّس في جامعة «إم آي تي» في مدينة كامبريدج قبل تقاعده في 2002. كان الرجل يبقى أحياناً بعد انتهاء المحاضرة ويجيب بصبر جمّ على أسئلة الحضور، الذين يقفون في طابور لطرح أسئلتهم التي لم تسنح لهم الفرصة لطرحها. أتذكر ذلك الموقف كلّما رأيت متحدثاً أو محاضراً في جعبته كتاب واحد أو اثنان لا يتكرّم على السائلين بدقائق معدودة بعد انتهاء محاضرته، ويسرع بالخروج. لم يتردد تشومسكي أبداً في تلبية دعوات للمحاضرة والتحدث عن قضايا الساعة بغض النظر عن الجهة الداعية.
ذكر المقربون منه أنه حتى حين فقد القدرة على النطق بعد الجلطة، ظل يعبّر عن سخطه بتحريك يديه وهو يتابع مشاهد الإبادة المستمرة في غزة.
كاتب عراقي