صوت الشعر

حجم الخط
0

ثمة نوع من الكتابة الجديدة، منذ نهايات القرن العشرين، انتشر في الغرب، تعرفتُ عليه في إحدى دورات «مهرجان أصوات الشرق الأوسط» الذي كان يعقد في «لوديف» في فرنسا، قبل انتقاله إلى مدينة «سيت» البحرية. يومها كان الشاعر الفرنسي سيرج بي الذي كان يحضر، بقصبته الكبيرة المخطوطة. وكانت مشاركته مبهرة وجديدة فعلاً. غير أنني لم أجد في ذلك الإبداع سياقاً فنياً من شأنه أن يضيف لتجربتي الشعرية العربية. لقد أحسستُ بأنه يحاول مقاومة الصمت الذي صار يهيمن على النص الغربي، فيما هو يمعن في الذهاب إلى السرد النثري، متجرداً من الموسيقى، وكنت يومها أتأمل، عملياً، في واقع التجربة الشعرية العربية، باحثاُ عن الآفاق الفنية التي تسعى لاكتشافها تجربتنا العربية.

٭ ٭ ٭

لقد انتقل الشعر في الغرب (الأمريكي والأوروبي) إلى ما يشبه السرد المتخفّف من الإيقاع، حتى أنك لا تكاد تسمع للموسيقى صوتاُ يحرّك النص. الأمر الذي أدى بذلك النص الشعري إلى درجة من الصمت، فكنا نتحسس حركة الكلمات في النص الغربي، في محاولة لتفادي وقوع النص الشعري العربي في ذلك المأزق الفني. غير أن هذا لم يكن ليحدث في الشعر العربي، ليس في تجاربه الواعية على الأقل.

٭ ٭ ٭

وسوف نصادف أن شاعراً فرنسياً كان يحضر مهرجان لوديف في تسعينيات القرن الماضي، كان يحمل معه قصبة كبيرة يعتمدها عند قراءته الشعرية بالتصويت عليها، لجعل شعره في غيمة من الصوت الغامض، في محاولة لتحريك الكلمات وترقيصها تقريباً، لكي أعرف أن الشاعر بات لا يطيق الصمت الذي أصبح يطبق على القراءة الشعرية. وفي هذا رفض معلن للذهابات المتسابقة نحو تفادي الموسيقى في النص الشعري، الذي بدأت الذائقة الشعرية العربية تتخلص منه، اتصالاً بالمعنى البنيوي للشعر في الثقافة العربية، حيث الموسيقى (بالمعنى الأشمل من أوزان الخليل بن أحمد) تظل عنصراُ مكوّناً للنص الشعري.

٭ ٭ ٭

منذ تلك اللحظة شعرت بالمأزق الذي صارت تأخذنا إليه الحداثة (بمفهومها الغامض) وأن الشعر ينبغي له اكتشاف آفاقها الجديدة متصلة بالجذور بدل التفريط في الأجنحة، وتلك كانت من مهماتنا الحيوية في تأصيل الحداثة التي نسعى إليها.

٭ ٭ ٭

في لحظة حضارية، كالتي نعيشها، فنياً، على الصعيد الأدبي على وجه الخصوص، أصبح الصوت عنصراً حاضراً وجوهرياً في الحياة والإبداع، وينبغي عدم التفريط في الجوهر الفعال بالمعنى الفني للشعر. لقد تيسر لي الالتفات الباكر لحق المراجعة الثقافية لعناصر التعبير الشعري في كتابتنا العربية، وكان أن سمعت الموسيقى في الشعر، وشعرت بالأهمية القصوى للموسيقى في النص الشعري، دون التنازل عن حق الاجتهاد الفردي لدى الموهبة الشعرية العربية، شأنها شأن أي شاعر يمتلك الموهبة والمعرفة في كتابة الشعر بالطريقة التي يحقق فيها أمرين: الجمال والحرية.

٭ ٭ ٭

وإذا استوعبنا الحقيقة الفنية التي تتصل بالمعنى الجوهري للموسيقى في الكتابة، سندرك أن الموسيقى في الكتابة، الشعر خصوصاً، تعني أبعد من أوزان الخليل بن أحمد وبحوره، وتلك الإيقاعات المحدودة التي تقصر العرب عند التخوم التي اقترحها علينا، منذ قرون، الخليل بن أحمد الذي لم يفعل أكثر من تقنين ما اقترحه الشعراء السابقون معتمدين على السليقة اللغوية لدى الشاعر متصلاً بالموسيقى التي تنهض عليها اللغة العربية، وعلاقات الحروف والكلمات والعبقريات اللغوية الأخرى.

٭ ٭ ٭

بعد ذلك كله سوف ندرك أن الصوت في الشعر، إسعاف للصورة الصامتة التي اعتمدها رواد حداثة الغرب، دون التقليل من أهمية ما اجترحته شعرياتهم على الشعر في العالم. وفي الكتابة العربية يظل الصوت الموسيقي عنصراً مكوناً في الكتابة الشعرية، والآن، بعد أن صارت الكتابة الجديدة حرةً بما يكفي، يجوز لهذه الكتابة أن ترى في اللغة العربية الموسيقى التي تسعف التحديث المعاصر، دون التنازل عما تقترحه علينا المخيلة الأدبية لحظة الكتابة.

٭ ٭ ٭

ففي الشعر، ليس ثمة طبيعة صامتة. وعندما نصادف في الفن التشكيلي ما يسمى (الطبيعة الصامتة) كناية عن الاستعراض التقنوي الذي يطرحه الرسام علينا، كما لو أنه يقول إن اللغة التشكيلية يمكن أن تستدعي فنونها بأشكال مختلفة وتحريك الألوان بما يشي بقدرة الرسام على ابتكار اللون واجتراح الخطوط، دون المساس بالجوهر. غير أن الكتابة، والشعر خصوصاً، لا يحتملان هذه اللغة المتماهية بالمعاني.

شاعر بحريني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية