صوت المذيعة 2

غطس جديد في بحر من الذكريات، بحر غير لجوج ما أصعب الغطس فيه في أجوائنا المعولمة التي تضعنا تحت رحمة الضغط، بحيث نعجز كثيرا عن رسم معالم للمستقبل.
والذكرى من المخارج القليلة التي تسمح بالوصول إلى هذه الحالة من تعليق الزمن، ولو لآن قليل، فترتمي معها بين أطراف مساحة لا تقيسها لأنها لا تقاس. ورحلة اليوم من هذا الطراز. طراز مساحة تعود موسيقى الإذاعات التمويجية لتعلّقها تعليقا بحيث تضمن لك خروجا ثمينا من أزمنة النبض السريع فالأسرع، ومن الوقت ‘الذي يداهمنا’، ومن أساليب المطاردة الجديدة التي تتوسل بالكلمة لتمارس علينا تطويقا يكاد يجهز على قصبتنا الهوائية.
انتقالي بك من عوالم المزاج العام إلى المزاج الخاص يتحدى هذا الإطار الذي ترسمه حدود المكان والزمان فتطوّق فيها حياتنا الذهنية تطويقا. وإذا كان المكان والزمان كثيرا ما يؤديان دور حبس اضطراري يسجن المرء في قمقم لا يسعه الخروج منه إلا بصعوبة بالغة، فإنّ الزمان والمكان عينهما يؤديان أيضا دور المخرج، المخرج عينه الذي بات المرء سجينه المتقوقع في نطاقه المطوّق هذا.
فقد جعلني تذكّر حدث صيفي عابر أحوّله من صفة ‘العابر’ إلى صفة ‘المتعالي’، بعض العلو، على مساحات المكان والزمان. وبالطبع، وبمقتضى دور الزمان والمكان المزدوج الفارض للضغط من جهة، والمنقذ منه من جهة أخرى، فلا يمكن أن تنطلق رواية حدث بدون المكان والزمان. ولئن حددت لك الحدث من موقع الزمان، صيفا، فإني ماض في تحديده مكانا وموضوعا معا. ولئن جمعت المكان والموضوع معا، فلأن حسّية الواقعة، على حد تعبير الكتّاب في ما مضى، لا تنفصل عن حسية مكان حدوثها.
فمثلما رويت لك في المقال السابق كيف كنت أطل بنظري من شرفة فندقي، امام برلمان الرباط المغربية، على حركة المرور الليلية المتواصلة، انقلك اليوم الى أجواء نهار منجل قضّيته في إجازتي الصيفية الأخيرة في شاطئ برايتن البريطانية لأزجّ بك في ذكريات صوت المذيعة العابر للزمان زجّا…
ففي هذا النهار المنجلي، الذي انجلى معه ظلام ليل قاهر لتنبلج مكانه أضواء المدينة، أنار غروب شمس برايتن سماءها بتباشير قوس قزح لم يحتج إلى مطر.
ولئن كان ممكنا رسم معالم المكان على صورة ربما قال البعض إنّ اللوحة التشكيلية أقرب إليها، فإنّ الموضوع، الذي فهم قارئي العزيز أنّه لا يعدو إلاّ أن يكون هذا المشهد، لن تكتمل معالمه قبل أن أضيف إليها العنصر المركزي الذي لا تكتمل من دونه، أيضا، معالم ذكريات صوت المذيعة.
أضواء مدينة ساحلية بريطانية تستقبل المساء إذن، وتفتح ذراعيها للزائر مفسحة المجال أمام سماء تلوح فيه تباشير الغروب، ولكنها سماء تفسح نفسها المجال للعنصر المفصلي الذي لا صوت مذيعة يثبت من دونه.. إنها الموسيقى التمويجية طبعا! و ما أدعى دهشتي و استغرابي، وفي الوقت نفسه، ولعي وتأثري بأن تكون تباشير غروب برايتن البريطانية قد صاحبتها أنغام، هي ذاتها التي كانت تصحب صوت شاعرة بي بي سي العربية عند نهاية البث في الحادية عشرة ليلا من كل يوم بالتوقيت الفرنسي، صوت شاعرة بوش هاوز، شاعرة هيئة الإذاعة البريطانية، أيام كانت بي بي سي العربية لا تزال تحمل اسما عربيا.
أنغام تباشير الغروب في شاطئ برايتن، موسيقى تمويجية لقصائد المذيعة، أين نحن الآن من مكان وزمان الذكرى في ما يواصل الوقت مداهمته ووقائع يومياتنا تستأنف تلاعبها بنا؟

‘ كاتب واعلامي فرنسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية