1-
لم يكن الشاعر اليمني الراحل عبد العزيز المقالح (1937ــ2022) شاعراً ضيق الأفق، أو ناقداً متعصباً لنوع شعري محدد، أو رافضاً للتجديد في الكتابة الشعرية، كما أنه في نقده منفتح على المنهجيات المختلفة، منطلقاً من مواقع الحداثة، والاعتقاد بأن الأدب كله كالحياة، لا بد أن يتجدد ويتنوع، لكي تظل رسالته ذات نفوذ وأثر، وتأخذ ما تستحق من دور في بناء الحياة المعاصرة وتقدّمها الشامل. وهو ما قاده متأثراً بتجارب الرواد على كتابة قصيدة التفعيلة في وقت مبكر له شخصياً، وللشعر في اليمن والجزيرة العربية.
وسنجد الشواهد في قراءة بعض من آراء بينّها في الموقف من التحديث، عبر دراساته وكتبه حول التجديد الشعري، وقصيدة النثر التي كتبها في السبعينيات شبابُ الشعر في اليمن. وكانت عربياً قد استقرت نوعاً شعرياً له تياراته واتجاهاته الفنية والجمالية.
كتب المقالح عام 1976 دراسة عن “ملامح التجربة المعاصرة لقصيدة النثر في اليمن” مبيناً بشجاعة الناقد ومسؤوليته، أنه تخلى عن تحفظه السابق حول قصيدة النثر. وقدّم بدلاً عن ذلك قراءة واعية ومدققة لتاريخ الكتابة الشعرية التي مهدت لقصيدة النثر ومراحلها؛ كالبدايات التي دشَّنها جبران خليل جبران والريحاني وبعض المهجريين في كتابة ما عرف بالشعر المنثور. ثم تطوير ذلك عبر قصائد بلوتولاند للويس عوض، وأشعار علي أحمد باكثير ومسرحياته، وشعر التفعيلة كما اقترحه بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي. وأخيراً تيار محمد الماغوط وجبرا إبراهيم جبرا في الشعر الحر، وأدونيس وأنسي الحاج وسواهما في قصيدة النثر.
ولعل المقتبس التالي من كتابات المقالح النقدية ترينا دقة ما رصده حول شعرية قصيدة النثر:
“إن قصيدة النثر المتجاوزة لما تواضع الناس على تسميته بالشعر المنظوم وبالنثر المشعور، ستصبح عما قريب القصيدة الصورة، أو القصيدة اللوحة أو التشكيل، وهي قصيدة نابعة من عصرها، ولها زمنها الخاص، تستغني بلغتها المشرقة وإيقاعها الداخلي وبتركيبها الدرامي عن كل الفنون البلاغية الموروثة، وهي من الشعر الحر حقا، لأنها تحررت نهائيا من عنصريْ الوزن والتقفية.. ورغم ذلك فقد بقيت شعراً، وشعراً متجاوزاً”.
في هذا المقتطف يشخّص المقالح أولاً تجاوز قصيدة النثر للأنواع التي ذكرها، مستبقاً ما ستؤول إليه في قادم أيامها، مقترحاً أنماطاً من الأنواع التي انعطفت لها قصيدة النثر من بعد، كقصيدة الصورة وقصيدة اللوحة، مشيراً إلى لغتها التي وصفَها بالإشراق، كنايةً عن تعبيرها عن أعماق شاعرها، وصولاً إلى إيقاعها الداخلي، بديلاً للموسيقى الخارجية المتحصلة من الأوزان والقوافي والنسق البيتي. ومن استباقه أيضا لمزاياها تنويهُه بالتركيب الدرامي في بنية قصيدة النثر التي تنفتح لاستيعاب السرد بسبب حرية بنائها. ويختم بإشهار ما يعتقده خلاصةً مؤداها أن تجنّب قصيدة النثر لآليات الكتابة التقليدية لم يمنع أن تكون شعراً، وشعراً (متجاوزاً) بوجه خاص. ولكنه لا يرسل هذا الحكم النقدي مطلقاً، بل يقيّده بجودة النص وفهم الشاعر لجوهر هذا النوع، كي لا تُقبل تحت مسماه تلك الكتابات الضعيفة والمفتقرة لما يُفترض أن يتوفر في الكتابة الشعرية. وبذلك يشخّص المقالح ما يضر بقصيدة النثر من جهل بعض كتّابها بشعريتها.
ونذكر هنا المقترح الاصطلاحي الذي قدّمه المقالح لقصيدة النثر، وهو (القصيدة الأجد) باعتبار قصيدة التفعيلة (الحر) كانت الشعر (الجديد)، وتكون قصيدة النثر بالتالي هي الشعر (الأجد). وإذا كان المقترح لم يتم إجراؤه رغم تنويه النقاد به، فإنه يعدّ من المقترحات التعديلية للمصطلح التي لم تنسخ مصطلح (قصيدة النثر) رغم ما فيه من تعارضات واضحة.
2-
لقد كان علينا أن ننتظر، بعد ما اتضح في منظور المقالح، وتأكد في تنظيره وتطبيقاته النقدية، أن يكتب هو نفسُه نماذج من الشعر المنثور وقصيدة النثر، تلبي ما يدعو له من اشتراطات، وما يريد لها روادها أن تكون، على وفق فرضية التجاوز، والأجدّ الفني والجمالي الذي أتت به.
لم يُصدر المقالح مجموعةُ شعرية منفصلة أو كاملة لنثرياته الشعرية، لكنه آثرَ اختيار الشعر المنثور في نصوص موازية للقصائد الموزونة تفعيلياً، وبإيقاع هادئ. ووجدنا ذلك في ديوانه “كتاب المدن” مثلاً. فهو يبدأ بعنوان النص أي اسم المدينة، ويُتبعه بمقتبس مما قيل فيها نثراً أو شعراً، ثم بنصّه الشعري الموزون عنها.
ويضع فاصلاً من نقاط، ليمهّد للنص النثري الذي يكتبه ختاماً للقصيدة، فيضعه بين قوسين، ليسرد فيه قصة رؤيته لتلك المدينة أول مرة، وانطباعه عنها.
بعنوان (القاهرة) يبدأ باقتباسٍ من الرحالة النمساوي الأمير رودلف في كتابه “رحلة إلى الشرق” عن معالم القاهرة. ثم يأتي النص الموزون المتخفف من التقفية. ومنه:
“هنا القاهرة/ وهنا مصرُ..
أحتاجُ حبراً بمقدار ماء المحيطِ
لأكتب أفراحها
ومواريثَ أحزانها
فهنا يرقد السادة المتعَبون
وقد فرغوا من بناء الظلالِ
على صدر آخر أهرامها…”.
وفي النص النثري الذي هو كتابة حرة نقرأ: “مصر أم الدنيا، والنيل أبوها، والقاهرة طفلتهما المدللة. لكلّ مدينة باب أو مجموعة أبواب، أما القاهرة فالطريق إليها لا يتم إلا عبر ألفِ باب. أبواب من الطين والحجر، وأبواب من الكتب والبشر، من حكاياتٍ لذيذة تنفد الأيام والليالي، ولا تنفد”.
وهذا الإقصاء للنص النثري كهامش، يعكس محاولة المقالح في نقل المتلقي إلى رحاب النثر من دون صدمة إيقاعية، تنشأ من تصادم إيقاع التفعيلة مع إيقاع النثر.
3-
وفي ديوان سبقَ “كتاب المدن”، هو “كتاب القرية” الذي ضم سبعة وسبعين نصاً، أسماها لوحات، وأعطاها أرقاماً متسلسلة، تبدأ كل قصيدة بالأبيات الموزونة، وبعد فاصل من نقاط يأتي النص النثري موضوعاً بين قوسين ليزداد تهميشه الخطّي، أي ترتيبه في بنية النص المتنضدة على سطح الورقة. ومن هنا وجدتُ المقالح موفقاً في اختيار عنوان (اللوحة) لكل نص في الكتاب. فقد رسم مناظر من طبيعة القرية التي شهدت ولادته ونشأته وصباه وتعلمه الأولي. وقد شحن النص بدفقات من سيرة ذاتية متناثرة تحكي في القصائد وفي الجانب المنثور خاصة، معاناته اليومية ماشياً كل صباح لمسافات بعيدة كي يتعلم، ومبصراً ما يعتري الناس من بؤس، غير غافل عن جماليات القرية وطبائع ناسها.
لقد اندمج ما يرسمه للقرية من مراء ومشاهد بصرية تبعث الحزن على واقع مرير عاشته وعاشه أهلها، بذكرياته الخاصة وملاحظاته الشخصية، وما مر به من مواقف تكرس صوراً لطبيعة القرية والبيوت والناس والطرقات، ووسائل عيشهم وبؤسهم وأفراحهم القليلة.
وقد منحت الأجزاءُ النثرية الفرصةَ للسرد ليبدو وكأنه منتزَع من يوميات أو ذكريات، أو كِسَراً سيريّة للشاعر.
وقد أسميتُها (نثريات) لأن كثيراً منها يدخل في نوع الشعر المنثور، في اعتمادها الخاطرة أسلوباً، وتداعي الشعور والعاطفة والنقل الحر للوقائع والمشاهد مضموناً، بلغةٍ يسودها المحرّك العاطفي، والتأثر بطبيعة تلك الأحداث.
ولكن القرية تأتي في الذاكرة مكاناً للبراءة، إذا ما قارنه الشاعر بالمدن التي عاشها من بعد، بضجيجها وصلابة مبانيها وعاداتها وزحامها ولا إنسانيتها.
وسأمثّل بواحدة من تلك اللوحات، يصور الشاعر فيها ما يكتنز الناس من حس شعري فطري، وما تحثهم عليه طبيعة القرية من شاعرية.
يبدأ النص التفعيلي بالحديث عن الشعر، وكيف تكتبه الفطرة القروية من دون كلمات، وباختيار تفعيلة (فاعلن) المتحورة إلى (فعلن) أحياناً، تتحقق انسيابية العبارة وتَواصل مفردات الجملة الشعرية بدون عوائق أو نقلات، ولا قافية تنشغل بصوت الحرف وإقفال الجملة، لتوفير النغم الطاغي على الدلالة:
“يكتب الشعراء قصائدهم
كل أبناء قريتنا شعراء
معاولهم هي أقلامهم
يكتبون الملاحم والأغنيات…
قصائدهم كالطبيعة عذراء
تحمل رائحة الأرض”.
وإذ أكتفي بالمقتطف التفعيلي الآنف، أصل إلى الجزء النثري من النص، وهو يحمل سمات الشعر المنثور، بما فيه من التماع العبارة، وحدَّة الصورة العاطفية، وانسيابية الجمل الشعرية وارتباط الملفوظ بالذات الشاعرة. ولنلاحظ أيضاً أن السطر الشعري الأول يبدأ موزوناً في تنبيه إلى ارتباط المقطعين، بينما ينقلنا السطر الشعري الثاني إلى رحابة النثر وسعته:
“قبل أن تدخل القرية
لابد أن تشعر
بأنك على مشارف قصيدة
وأنك على مقربة من ينبوع هادر بالشعر
ومترع بالموسيقى، وأن هذا الجسد المؤلّف من الحجارة
هو الذي يغذي قلب العالم بدماء الرغبة
وضمير العالم بأشعة الحب
وأن هذا القروي الواقف باتجاه الشمس
هو الشاعر العالمي الأول
وأنه يكتب بمداد الصمت
أجمل قصائد القرن العشرين”.
ثمة مزيج من الدهشة والالتقاطات الذكية، تتراوح بشكل حر بين الشعر والنثر، والوصف والانطباع، ولكن بكثير من الاعتناء بالصورة والخيال وصدق العاطفة، والاحتفاء بالطبيعة والأمكنة والناس. هي بعض طبائع المقالح: إنسانية تنعكس في مرايا نصوصه بحميمية ورهافة.