الهجوم الذي وقع الثلاثاء ضد أهداف لإيران في عمق سوريا، الذي نسب لإسرائيل، أثار القليل من الاهتمام وكأنه يوم آخر في المكتب. حسب تقارير وسائل الإعلام السورية، قتل في هذا الهجوم ستة أشخاص (اثنان من جنسيات غير سورية، وأربعة سوريين). وقالت وكالات الأنباء إن الهجوم استهدف المس بخط تزويد السلاح من إيران، الذي هدفه لبنان. ولكنها أشارت بأنه هجوم غير عادي، حيث وفقاً لما قيل، فإن إسرائيل تهاجم أهدافاً في وسط سوريا أو جنوبها بشكل عام. ويبدو أنها أرادت في هذه المرة ليس نقل رسالة عسكرية لإيران فحسب، بل تنفيذ استعراض للقدرة في مكان يبعد تقريباً 700 كم عن إسرائيل. ولكن مكان هذا الهجوم، أي محيط دير الزور، ثمة يعد ساحة لعب عسكرية لإيران، بل ولأمريكا وتركيا وسوريا، وهو ما قد يجر إسرائيل إلى عمق جديد من تدخلها في المنطقة.
محافظة دير الزور هي معقل استراتيجي على المحور الذي يربط بين العراق وسوريا. وتتنافس السيطرة عليه منظمة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وهي الذراع العسكرية لنظام الحكم الذاتي الكردي في سوريا، الذي يحظى برعاية ودعم وتمويل الجيش الأمريكي؛ وقوات النظام السورية وإيران، التي توسع انتشارها العسكري فيها منذ العام 2019.
هذه محافظة اقتصادية مهمة جداً تضم حقل الغاز الأكبر في الدولة، وهو حقل “العمر”، وفيها أيضاً عدد من آبار النفط الكبيرة التي كانت تحت سيطرة النظام إلى أن احتلها الأكراد في 2017 بمساعدة أمريكية. مداخيل هذه الحقول تصل إلى أيدي الأكراد وتمول نشاطاتهم الجارية، العسكرية والمدنية. أقام الأمريكيون قرب هذه الحقول قواعد لجيشهم، ويوفرون الحماية للشركات الأمريكية التي تدير هذه الآبار. هذه هي الغنيمة الكبيرة التي حظي بها الأكراد مقابل مشاركتهم الفعالة والحيوية في الحرب ضد “داعش”، الذي استؤصل من هذه المحافظة في 2019.
ولكن الأكراد أدركوا الفرق بين الاحتلال الناجح لهذه المحافظة والقدرة على إدارتها. في البداية، حصل الأكراد على التعاون الكامل من السكان المحليين الذين هم في معظمهم من العرب وينتمون لأربع حمائل كبيرة. خلال معظم سنوات الحرب الأهلية، أظهر هؤلاء السكان معارضة شديدة للنظام السوري، وهم الآن يعارضون استكمال سيطرته على هذه المحافظة. ولكن تبين للأكراد بأن السيطرة على سكان عرب قبليين، حتى لو كانوا يشاركونهم المعارضة للأسد، تقتضي إشراكهم في الإدارة، وبالتأكيد في تقاسم الموارد. اندلعت في السنوات الأخيرة على هذه الخلفية خلافات ومواجهات بين القيادة الكردية المحلية وقيادة القبائل الذين شهدوا كيف تم انتقاص نصيبهم من الغنيمة، ولم يكن تعاونهم في عملية اتخاذ القرارات موجوداً. وبعد استئصال داعش ونقل السيطرة إلى أيدي الأكراد أملوا أن تحصل هذه المحافظة على إعادة تأهيل مدنية، لكنهم أملهم هذا خاب. كانت ذروة المواجهة في نهاية آب عندما قررت القيادة العليا للقوات الكردية التي تتركز في مدينة الحسكة شمالي سوريا، أن تعمل ضد رشيد أبو الواقع تحت إدارتها وبين القبائل.
تهديد استراتيجي
أبو خولة، الذي هو رئيس قبيلة البكير التي تعد إحدى القبائل الكبيرة في المحافظة، هو شخصية ملونة ومثيرة للجدل. حتى قبل الحرب كان يترأس عصابة لصوص لسرقة الدراجات النارية، وحبسته السلطات في سوريا بسبب ذلك. وعند اندلاع الحرب الأهلية، انضم لجيش سوريا الحر، وهو الجسم العسكري الأول الذي ترأس التمرد. ولكن عندما سيطر “داعش” على المنطقة في 2014 انضم إلى صفوفه، ولكنه هرب بسرعة من هناك إلى تركيا بعد أن أعدم “داعش” شقيقه. وعند عودته إلى سوريا، بعد سنتين، شكل مليشيا خاصة انضمت إلى القوات الكردية. بفضل علاقاته الوثيقة مع القبائل العربية، لا سيما على خلفية أنه هو نفسه جعل نفسه زعيماً لقبيلته، دفع الأمريكيون القيادة الكردية، خلافاً لإرادتها، إلى تعيينه قائداً عسكرياً لمنطقة دير الزور. اعتقد الأمريكيون، كما يبدو، أن أبو خولة سيمنع إعادة تجند أبناء القبائل، لا سيما أبناء قبيلته، إلى صفوف “داعش”.
بالدعم الأمريكي ومكانته القبلية، زادت طموحات أبو خولة وزادت شدة المواجهات بينه وبين القيادة الكردية المحلية. واحتد الأمر بينه وبين زعيم القوات الكردية في سوريا، مظلوم عبادي. تدهورت الأمور إلى درجة أن القيادة الكردية، التي هي رسمياً المسؤولة عن دير الزور، وجدت صعوبة في تطبيق سياسة مدنية وعسكرية إزاء سلوك أبو خولة المستقل والفاسد. فقد عرف كيف يستقطب رؤساء القبائل إليه بالملذات، ثم بناء مركز قوة عسكري ومدني يهدد قدرة إدارة القيادة الكردية.
في 27 آب استُدعي أبو خولة للقاء عمل مع زعيم القوات الكردية في الحسكة. وعندما وصل مع بعض مساعديه تم اعتقالهم، وهذه خطوة تسببت على الفور بمواجهات عنيفة غير مسبوقة بين القوات الكردية في دير الزور، وبين القوات القبلية المخلصة لأبو خولة. ثمة تقدير يشير إلى مقتل 150 شخصاً في هذه المواجهات قبل أن يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار بتدخل الأمريكيين.
ولكن ما ظهر كمواجهة داخلية بين قائد متآمر والمسؤولين عنه أو شجارات على خلفية عرقية بين العرب والأكراد، يتضح الآن بأنه تهديد للاستراتيجية الأمريكية في شمال سوريا؛ لأن العداء الداخلي والعرقي والقبلي هذا بدأت تستغله إيران، وهي تمد اليد للقبائل العربية في محاولة لتجنيدهم في صفوفها. إلى جانب القواعد التي أقامتها إيران على طول المحور الذي يربط بين بوكمال على الحدود بين العراق ودير الزور لنقل الصواريخ بعيدة المدى ومتوسطة المدى من حمص إلى دير الزور، وإلى هجمات بين الحين والآخر بالصواريخ على القاعدة الأمريكية في العمر، القريب من حقل الغاز – إيران تسعى إلى الاستثمار أيضاً في الخدمات المدنية – من بينها فتح صفوف تعليمية لأولاد المحافظة، وشراء الكتب والقرطاسية، وحتى دفع رواتب معلمين سوريين استقالوا من جهاز التعليم الرسمي بسبب الراتب القليل أو بسبب غياب الراتب تماماً.
في الوقت نفسه، تجند إيران مواطنين وحتى نساء للخدمة في المليشيات المؤيدة لها. في حزيران، نشرت مواقع إخبارية سورية عن إقامة فصيل من النساء باسم “الزهراء”، يعمل تحت قيادة مليشيا الباقر المؤيدة لإيران، وتنفيذ مهمات استخبارية. قالت التقارير إن النساء، اللواتي معظمهن سوريات، وبينهن أيضاً لبنانيات وعراقيات، يحصلن على راتب يبلغ 250 – 450 دولاراً في الشهر، وبعضهن يحصلن على المخدرات بسعر مخفض ويمكنهن بيعها بسعر السوق والاستفادة من الفرق.
معركة مستمرة
قائد مليشيا الباقر التي أقامتها إيران والتي تعمل بتوجيه من ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري، وقائد الفرقة 4 نواف راغب البشير، الذي أعلن في الشهر الماضي عن إقامة مليشيا جديدة أخرى بدعم من إيران، والتي ستعمل في دير الزور تحت قيادته. والبشير هو زعيم قبيلة البقارة، التي تشمل عدة حمائل كبيرة في منطقة دير الزور، ومن هنا تأتي أهميته الكبيرة للاستراتيجية الإيرانية التي تطمح إلى توسيع تجنيد السكان لصالحها وتقليص تأثير قوة الأكراد، ومحاولة إبعاد قوات القبائل المعارضة للأسد، وإبعاد الأمريكيين أيضاً عن سوريا. تدل هذه الاستراتيجية على طموح إيراني بعيد المدى هدفه أبعد بكثير من إرسال قوافل السلاح إلى لبنان أو إقامة القواعد العسكرية.
الشبكة المعقدة للقوات المحلية، والمليشيات على أنواعها، والعداء العرقي، والزعماء المحليون الطموحون، تشكل معاً الفضاء الذي يلعب فيه النظامان الإيراني والسوري أفضل بكثير من الأمريكيين. ودرجة تأثير القوات الأمريكية التي تشمل تقريباً 900 جندي أمريكي ومرشد، تبقى محدودة، رغم المساعدة الجوية التي توفرها الإدارة الأمريكية للأكراد. نجاح مقاتلي المليشيات القبلية المؤيدة لإيران التي احتلت بعض القرى في منطقة دير الزور (تمت إعادتها للأكراد بعد بضعة أيام من القتال الشديد)، في الشهر الماضي، يوضح أن المعركة لم تنته وستواصل التركز في السيطرة على الأراضي وعلى آبار النفط والغاز.
لتوسيع دعم القبائل لهم أو على الأقل تحييد الذرائع للمواجهات وتقليص قدرة تأثير إيران، يضطر الأكراد إلى إعطاء قيادة القبائل من نصيبهم، الذي يعني التنازل عن جزء من مداخيل النفط والغاز والاستثمار في البنى التحتية وتغيير تركيبة المجلس العسكري – المدني الذي يدير محافظة دير الزور؛ لأن مكانة رؤساء القبائل ستمثل قوتهم. المشكلة أن قيادة الأكراد، حتى لو كانت مستعدة لتقديم التنازلات، فإنها ما زالت بحاجة إلى مواجهة عدم اليقين بخصوص سياسة الإدارة الأمريكية في سوريا. قرار الرئيس السابق دونالد ترامب في 2019 انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، وضع الأكراد أمام معضلة سياسية صعبة ودفعهم إلى البدء في التفاوض مع النظام السوري حول شروط عودته إلى السيطرة على المناطق الكردية. في الحقيقة تم إلغاء القرار الأمريكي، بالأساس بضغط من الكونغرس ودول أوروبا، ولكنه صدم الأكراد الذين رأوا كيف أن الركيزة الأمريكية يمكنها تغيير الاتجاه في لحظة. يتابع الأكراد الآن بترقب وخوف محاولات المصالحة التي تجري بين تركيا وسوريا، بتشجيع روسيا، مع المعرفة بأنه إذا تحققت فالمعنى العملي هو أن القوات التركية ستنسحب من سوريا، ولكن ستدخل مكانها قوات النظام. في الأثناء، فشلت هذه الخطوات بسبب تصميم الأسد على انسحاب كل القوات التركية قبل البدء في المفاوضات، لكنه موقف قد يتغير أيضاً.
هذه التطورات السياسية، إلى جانب جهود إيران لتوسيع نفوذها وسيطرتها في المناطق الشرقية من سوريا، هي التي يجب أن تقلق إسرائيل أكثر من قافلة سلاح تشق الطريق من سوريا إلى لبنان. لأنه إذا انتقلت السيطرة على المحافظات الشرقية في سوريا من يد الأكراد، فإن الربط الجغرافي بين إيران ومروراً بالعراق ومن هناك إلى سوريا ولبنان، سيتحول إلى “مسار سباق” خالٍ من العقبات، وسيكون جميعه تحت سيطرة رسمية للنظام السوري، وتحت سيطرة فعلية للمليشيات الإيرانية وحرس الثورة. في هذا الوضع، على إسرائيل التدخل العسكري الكثيف، أكثر بكثير من هجمات متفرقة على أهداف عرضية. يبدو أنه تنبؤ بدأ يسري، سواء في إسرائيل أو في واشنطن. وصف الدمار الذي أحدثه هجوم الثلاثاء والذي تضررت فيه بنى تحتية مدنية وتفجير جسر، ربما يشير إلى استراتيجية جديدة تتجاوز النشاطات التكتيكية. يمكن الافتراض بأن تغير طبيعة الهجمات وأهدافها تم تنسيقها مع الإدارة الأمريكية. النشاطات العسكري الأمريكية ضد الأهداف الإيرانية محدودة بسبب الضغوط السياسية، باستثناء بعض الحالات التي يتم فيها مهاجمة قواعدها، لذا ترد بواسطة هجمات رادعة. إذا كان هذا هو التوجه حقاً، فيبدو أن إسرائيل ليست “ضيفاً” عارضاً في سوريا، بل بدأت في صياغة استراتيجية أمريكية – إسرائيلية مشتركة من أجل إدارة المعركة هناك.
تسفي برئيل
هآرتس 6/10/2023